محمد جواد الدمستانيمحمد جواد الدمستاني

Loading

أمير المؤمنين (ع) في وداع سيدة نساء العالمين (ع)

باب الخطب – 202

محمد جواد الدمستاني

روى الشريف الرضي في نهج البلاغة كلام أمير المؤمنين عليه السلام و توديعه للزهراء عليها السلام، قال:

وَ مِنْ كَلَامٍ لَهُ (عليه السلام) رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَهُ عِنْدَ دَفْنِ سَيِّدَةِ النِّسَاءِ فَاطِمَةَ (عليها السلام) كَالْمُنَاجِي بِهِ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) عِنْدَ قَبْرِهِ:

السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَنِّي وَ عَنِ ابْنَتِكَ النَّازِلَةِ فِي جِوَارِكَ وَ السَّرِيعَةِ اللَّحَاقِ بِكَ، قَلَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَنْ صَفِيَّتِكَ صَبْرِي وَ رَقَّ عَنْهَا تَجَلُّدِي إِلَّا أَنَّ فِي التَّأَسِّي لِي بِعَظِيمِ فُرْقَتِكَ وَ فَادِحِ مُصِيبَتِكَ مَوْضِعَ تَعَزٍّ، فَلَقَدْ وَسَّدْتُكَ فِي مَلْحُودَةِ قَبْرِكَ وَ فَاضَتْ بَيْنَ نَحْرِي وَ صَدْرِي نَفْسُكَ فَ إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ فَلَقَدِ اسْتُرْجِعَتِ الْوَدِيعَةُ وَ أُخِذَتِ الرَّهِينَةُ، أَمَّا حُزْنِي فَسَرْمَدٌ وَ أَمَّا لَيْلِي فَمُسَهَّدٌ إِلَى أَنْ يَخْتَارَ اللَّهُ لِي دَارَكَ الَّتِي أَنْتَ بِهَا مُقِيمٌ، وَ سَتُنَبِّئُكَ ابْنَتُكَ بِتَضَافُرِ أُمَّتِكَ عَلَى هَضْمِهَا فَأَحْفِهَا السُّؤَالَ وَ اسْتَخْبِرْهَا الْحَالَ، هَذَا وَ لَمْ يَطُلِ الْعَهْدُ وَ لَمْ يَخْلُ مِنْكَ الذِّكْرُ، وَ السَّلَامُ عَلَيْكُمَا سَلَامَ مُوَدِّعٍ لَا قَالٍ وَ لَا سَئِمٍ، فَإِنْ أَنْصَرِفْ فَلَا عَنْ مَلَالَةٍ وَ إِنْ أُقِمْ فَلَا عَنْ سُوءِ ظَنٍّ بِمَا وَعَدَ اللَّهُ الصَّابِرِينَ. باب الخطب- 202

لمّا حضرت فاطمة الزهراء الوفاة وصّت أمير المؤمنين عليه السّلام أن يتولّى أمرها، و يدفنها ليلا و يعفّي قبرها، فتولّى عليه السلام ذلك، ودفنها و عفّي موضع قبرها، فلّما انتهى من الدفن، أرسل دموعه على خديّه، و توجّه إلى قبر النبيّ (ص)، و عند الانتهاء من الدفن قال عليه السلام: «السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَنِّي وَ عَنِ ابْنَتِكَ النَّازِلَةِ،..».

سيدة نساء العالمين (ع)

هذا اللقب من أبيها الرسول صلى الله عليه و آله، لقبّها بسيدة نساء العالمين، و في هذا روايات، قال الراوي للإمام الصادق عليه السلام: «أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِ رَسُولِ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ فِي فَاطِمَةَ أَنَّهَا سَيِّدَةُ نِسَاءِ اَلْعَالَمِينَ أَ هِيَ سَيِّدَةُ نِسَاءِ عَالَمِهَا، فَقَالَ ذَاكَ لِمَرْيَمَ كَانَتْ سَيِّدَةَ نِسَاءِ عَالَمِهَا، وَ فَاطِمَةُ سَيِّدَةُ نِسَاءِ اَلْعَالَمِينَ مِنَ اَلْأَوَّلِينَ وَ اَلْآخِرِينَ». معاني الأخبار،ج1ص107

قال الله تعالى «وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ» آل عمران:42.

و في الرواية أنّ النبي صلى الله عليه وآله سار فاطمة (ص) ابنته وقال لها: ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين أو سيدة نساء هذا الأمة». البخاري،ج٧،ص١٤٢،مسلم،ج٧،ص ١٤٤، و مصادر أخرى عامة، و النص في الاستيعاب «ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء هذه الأمة أو نساء العالمين». الاستيعاب،ج14ص1894.

و ذكر الشريف الرضي في نهج البلاغة كتابا لأمير المؤمنين (ع) جوابا إلى معاوية، قال فيه (ع): «وَ مِنَّا خَيْرُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ وَ مِنْكُمْ حَمَّالَةُ الْحَطَبِ». و جاء في كتاب لأمير المؤمنين (ع) إلى معاوية:

«فَإِنَّا صَنَائِعُ رَبِّنَا وَ النَّاسُ بَعْدُ صَنَائِعُ لَنَا .. وَ أَنَّى يَكُونُ ذَلِكَ وَ مِنَّا النَّبِيُّ وَ مِنْكُمُ الْمُكَذِّبُ، وَ مِنَّا أَسَدُ اللَّهِ وَ مِنْكُمْ أَسَدُ الْأَحْلَافِ، وَ مِنَّا سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَ مِنْكُمْ صِبْيَةُ النَّارِ، وَ مِنَّا خَيْرُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ وَ مِنْكُمْ حَمَّالَةُ الْحَطَبِ، فِي كَثِيرٍ مِمَّا لَنَا وَ عَلَيْكُمْ». نهج البلاغة، كتاب 28.

أمّا اسمها فاطمة (ع)

فروي عن الإمام الرّضا عن آبائه (ع): قال رسول اللَّه (ص): «إِنِّي سَمَّيْتُ اِبْنَتِي فَاطِمَةَ لِأَنَّ اَللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ فَطَمَهَا وَ فَطَمَ مَنْ أَحَبَّهَا مِنَ اَلنَّارِ». عيون الأخبار،ج2ص46، و فطم أي كَفَّ و مَنَعَ.

و أمّا لقبها الزهراء (ع)

فقد روى عن الإمام الصادق (ع) وقد سئل عن ذلك فقال : «لِأَنَّهَا كَانَتْ إِذَا قَامَتْ فِي مِحْرَابِهَا زَهَرَ نُورُهَا لِأَهْلِ اَلسَّمَاءِ كَمَا تَزْهَرُ نُورُ اَلْكَوَاكِبِ لِأَهْلِ اَلْأَرْضِ». علل الشرایع،ج1ص181.

و رُوي عن الصادق (ع) فِي تَسْمِيَتِهَا الزَّهْرَاءُ: قَالَ «لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ خَلَقَهَا مِنْ نُورِ عَظَمَتِهِ، فَلَمَّا أَشْرَقَتْ أَضَاءَتِ السَّمَاوَاتُ وَ الْأَرْضُ بِنُورِهَا، وَ غَشِيَتْ أَبْصَارُ الْمَلَائِكَةِ وَ خَرَّتِ الْمَلَائِكَةُ لِلَّهِ سَاجِدِينَ وَ قَالُوا إِلَهَنَا وَ سَيِّدَنَا مَا لِهَذَا النُّورِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِمْ هَذَا نُورٌ مِنْ نُورِي أَسْكَنْتُهُ فِي سَمَائِي خَلَقْتُهُ مِنْ عَظَمَتِي، أُخْرِجُهُ مِنْ صُلْبِ نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَائِي أُفَضِّلُهُ عَلَى جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ، وَ أُخْرِجُ مِنْ ذَلِكَ النُّورِ أَئِمَّةً يَقُومُونَ بِأَمْرِي يَهْدُونَ إِلَى حَقِّي وَ أَجْعَلُهُمْ خُلَفَائِي فِي أَرْضِي بَعْدَ انْقِضَاءِ وَحْيِي». علل الشرائع،ج1ص180.

قال عليه السلام:

السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَنِّي وَ عَنِ ابْنَتِكَ

يسلم على أخيه و ابن عمه رسول الله صلى الله عليه و آله أصالة عن نفسه و نيابة عن الزهراء عليها السلام.

النَّازِلَةِ فِي جِوَارِكَ

في جوارك في الآخرة، أو في منازل الجنّة، أو جوار قبرك أي قبرها جوار قبرك.

مكان قبرها عليها السلام:

لأنّها عليها السلام أوصت أمير المؤمنين عليه السلام بإخفاء قبرها، فأخفاه عملا بالوصية، و محى معالم القبر حتى لا يُعرف، و ذُكر أنهّ (ع) صنع سبعة قبور أو أربعين قبرا حتى لا يعلم قبرها، ولا يعثر على مكان دفنها، و قد تمت المراسم ليلا وسرا، و ذُكر أنّها عليها السلام:

– مدفونة في دارها و هو مجاور للمسجد، و عن الإمام الرضا (ع) أنّها «دُفِنَتْ فِي بَيْتِهَا فَلَمَّا زَادَتْ بَنُو أُمَيَّةَ فِي اَلْمَسْجِدِ صَارَتْ فِي اَلْمَسْجِدِ» الکافي،ج1ص461، من لا یحضره الفقیه،ج1ص229، تهذيب الأحكام،ج3ص255.

– أو في الرّوضة يؤيّده قول النبّي (ص) «مَا بَيْنَ قَبْرِي وَ مِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ اَلْجَنَّةِ» من لا يحضره الفقيه،ج2ص56 و قبرها روضة من رياض الجنة.

– أو في البقيع كما روى عن ابن عباس في حديث وفاتها «فَلَمَّا أَرَادُوا أَنْ يَدْفِنُوهَا نُودُوا مِنْ بُقْعَةٍ مِنَ اَلْبَقِيعِ إِلَيَّ إِلَيَّ فَقَدْ رُفِعَ تُرْبَتُهَا مِنِّي، فَنَظَرُوا فَإِذَا هِيَ بِقَبْرٍ مَحْفُورٍ فَحَمَلُوا اَلسَّرِيرَ إِلَيْهَا فَدَفَنُوهَا» بحار الأنوار، ج43ص214

و شارك في تشييع السيدة فاطمة الزهراء (ع) عدد قليل و هم الإمام علي (ع) والحسنان (ع)، وعقيل بن أبي طالب، والعباس بن عبد المطلب، وعمار بن ياسر، ومقداد بن الأسود، والزبير بن العوام، وأبو ذر الغفاري، وسلمان الفارسي، التشييع و ليس الدفن.

– بيت عقيل بن أبي طالب، و كان بيت عقيل بيتا كبيرا مجاورا لمقبرة البقيع، وبعد أن دفنت فيه فاطمة بنت أسد، وعباس بن عبد المطلب، وعدد من أئمة الشيعة تحول من بيت سكني إلى مزار.(ويكي شيعة).

قال عليه السلام:

«وَ السَّرِيعَةِ اللَّحَاقِ بِكَ»، كما أخبرها أبوها رسول الله (ص) في مرضه الَّذي توفّى فيه بأنها أوّل أهل بيته (ص) لحوقا به، و في الرواية :«أَسَرَّ إِلَيْهَا حَدِيثاً فَبَكَتْ، ثُمَّ أَسَرَّ إِلَيْهَا حَدِيثاً فَضَحِكَتْ،..، أنَّهُ أَخْبَرَنِي أَنَّهُ يَمُوتُ فَبَكَيْتُ، ثُمَّ أَخْبَرَنِي أَنِّي أَوَّلُ أَهْلِهِ لُحُوقاً بِهِ فَضَحِكْتُ». الأمالي (للطوسی) ج1ص400.

و روي:

« إِنَّهُ أَسَرَّ إِلَيَّ فَقَالَ إِنَّ جَبْرَئِيلَ كَانَ يُعَارِضُنِي بِالْقُرْآنِ كُلَّ سَنَةٍ مَرَّةً وَاحِدَةً وَ إِنَّهُ عَارَضَنِي بِهِ اَلْعَامَ مَرَّتَيْنِ وَ لاَ أَرَانِي إِلاَّ وَ قَدْ حَضَرَ أَجَلِي وَ إِنَّكِ أَوَّلُ أَهْلِ بَيْتِي لُحُوقاً بِي وَ نِعْمَ اَلسَّلَفُ أَنَا لَكِ فَبَكَيْتُ لِذَلِكِ، ثُمَّ قَالَ أَ لاَ تَرْضَيْنَ أَنْ تَكُونِي سَيِّدَةَ نِسَاءِ هَذِهِ اَلْأُمَّةِ أَوْ نِسَاءِ اَلْمُؤْمِنِينَ فَضَحِكْتُ لِذَلِكِ . الأمالی (للصدوق)،ج1ص59

و كان رحيلها (عليها السلام) بعد رسول الله (ص) على اختلاف الروايات، بعد أربعين يوما (أي 8 ربيع الثاني)، أو بعد خمسة و سبعين يوما (أي في 13 جمادى الأول)، أو بعد خمسة و تسعين يوما (أي في 3 جمادى الثاني).

قال عليه السلام:

«قلّ يا رسول اللَّه عن صفيّتك»، صفيّة له أي مختارة له، صفيّتك إشارة إلى مكانتها عند اللَّه و رسوله، و إشارة إلى ما كان رسول اللَّه (ص) يتعامل معها من التبجيل و المحبّة و الإكرام، و في حديث المعراج «فَاطِمَةُ خِيَرَةُ اَللَّهِ». تاريخ بغداد،ج١، ص ٢٧٤. و الرواية في تاريخ بغداد، عن رسول الله (ص) «لَيلَةَ عُرِجَ بي إلَى السَّماءِ رَأَيتُ عَلى بابِ الجَنَّةِ مَكتوباً: لا إلهَ إلَّااللَّهُ، مُحَمَّدٌ رَسولُ اللَّهِ، عَلِيٌّ حَبيبُ اللَّهِ، وَ الحَسَنُ وَ الحُسَينُ صَفوَةُ اللَّهِ، فاطِمَةُ خِيَرَةُ اللَّهِ، عَلى باغِضِهِم لَعنَةُ اللَّهِ». تاريخ بغداد،ج١، ص ٢٧٤.

«صَبْرِي»، أي قلّ صبري بعد هذه المصيبة وهي رحيل الزهراء (ع)، و ظهر الحزن الشّديد، «وَ رَقَّ عَنْهَا تَجَلُّدِي» أي ضعف تصبري و تحمّلي على عدم ابداء الحزن، «إِلَّا أَنَّ فِي التَّأَسِّي»، و الاقتداء «لِي بِعَظِيمِ فُرْقَتِكَ وَ فَادِحِ مُصِيبَتِكَ»، مصيبة رحيلك الشديدة، «مَوْضِعَ تَعَزٍّ»، و تسلّ، «فَلَقَدْ وَسَّدْتُكَ فِي مَلْحُودَةِ قَبْرِكَ»، أي جعلت لك الوسادة، وضعتك في لحدك، و اللحد هو الجهة المشقوقة من القبر.

في الرواية: قال (ع): «وَ حَمَلْتُ نَفْسِي عَلَى اَلصَّبْرِ عِنْدَ وَفَاتِهِ بِلُزُومِ اَلصَّمْتِ وَ اَلاِشْتِغَالِ بِمَا أَمَرَنِي بِهِ مِنْ تَجْهِيزِهِ وَ تَغْسِيلِهِ وَ تَحْنِيطِهِ وَ تَكْفِينِهِ وَ اَلصَّلاَةِ عَلَيْهِ وَ وَضْعِهِ فِي حُفْرَتِهِ..». الخصال،ج2ص364.

«وَ فَاضَتْ بَيْنَ نَحْرِي وَ صَدْرِي نَفْسُكَ»، فكان رسول الله (ص) في حجر الإمام (ع) حين النّزع و الموت، و في الإرشاد:

فَلَمَّا قَرُبَ خُرُوجُ نَفْسِهِ قَالَ لَهُ ضَعْ رَأْسِي يَا عَلِيُّ فِي حَجْرِكَ فَقَدْ جَاءَ أَمْرُ اَللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ، فَإِذَا فَاضَتْ نَفْسِي فَتَنَاوَلْهَا بِيَدِكَ وَ اِمْسَحْ بِهَا وَجْهَكَ، ثُمَّ وَجِّهْنِي إِلَى اَلْقِبْلَةِ وَ تَوَلَّ أَمْرِي، وَ صَلِّ عَلَيَّ أَوَّلَ اَلنَّاسِ، وَ لاَ تُفَارِقْنِي حَتَّى تُوَارِيَنِي فِي رَمْسِي، وَ اِسْتَعِنْ بِاللَّهِ تَعَالَى، فَأَخَذَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلاَمُ رَأْسَهُ فَوَضَعَهُ فِي حَجْرِهِ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ». الإرشاد،ج1ص179

و في نهج البلاغة «وَ لَقَدْ قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) وَ إِنَّ رَأْسَهُ لَعَلَى صَدْرِي وَ لَقَدْ سَالَتْ نَفْسُهُ فِي كَفِّي فَأَمْرَرْتُهَا عَلَى وَجْهِي». نهج البلاغة، باب الخطب 179.

و المعنى في التأسي هنا هو انّى كما صبرت في تلك المصيبة و هي رحيلك يا رسول الله مع عظمها ومشاهدتي لها وقيامي في تجهيزك يا رسول الله (ص)، كذلك أصبر في مصيبة الزّهراء (ع)، و أتأسى بفراقي لك يا رسول الله (ص)، و إن كانت هذه المصيبة عظيمة يقلّ لها الصبر و يرقّ لها التجلَّد فإنّ المصيبة بفراقك أعظم، و كما صبرت في تلك على كونها أشدّ فلإن أصبر على هذه أولى.

«فَإِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ» الآية يقولها المؤمن حين نزول مصيبة ليعزى نفسه، امتثالا لقوله تعالى: «الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّـهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ»، البقرة:156، و العبد مملوك لله «إنّا لله»، و راجع إلى الله «إنا إليه راجعون»، و إليه ثوابه و عقابه مصيره، و من قول لأمير المؤمنين (ع) «إِنَّ قَوْلَنَا إِنَّا لِلَّهِ إِقْرَارٌ عَلَى أَنْفُسِنَا بِالْمُلْك،ِ وَ قَوْلَنَا وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ إِقْرَارٌ عَلَى أَنْفُسِنَا بِالْهُلْكِ».نهج البلاغة، حكمة 99.

«فَلَقَدِ اسْتُرْجِعَتِ الْوَدِيعَةُ»، فكانت الزهراء (ع) وديعة رسول الله (ص) عند الإمام (ع)، «وَ أُخِذَتِ الرَّهِينَةُ»، كانّها كانت عند الإمام بإزاء عهد الإمام للرّسول، و قال الشارح ابن ميثم : استعار لفظ الوديعة والرهينة للنفس، لأنّ النفوس في الأبدان كالودائع و الأمانات، يحافظ عليها و تسترجع، أو النساء ودائع عند الأزواج.

و في الحار في حديث احتضار النبيّ (ص): «ثُمَّ بَكَتْ (فاطمة) وَ أَكَبَّتْ عَلَى وَجْهِهِ (ص) فَقَبَّلَتْهُ وَ أَكَبَّ عَلَيْهِ عَلِيٌّ وَ اَلْحَسَنُ وَ اَلْحُسَيْنُ صَلَوَاتُ اَللَّهِ عَلَيْهِمْ فَرَفَعَ رَأْسَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ إِلَيْهِمْ وَ يَدُهَا فِي يَدِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ عَلِيٍّ وَ قَالَ لَهُ: يَا أَبَا اَلْحَسَنِ هَذِهِ وَدِيعَةُ اَللَّهِ وَ وَدِيعَةُ رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ عِنْدَكَ فَاحْفَظِ اَللَّهَ وَ اِحْفَظْنِي فِيهَا وَ إِنَّكَ لِفَاعِلُهُ يَا عَلِيُّ». بحار الأنوار،ج22ص484

«أَمَّا حُزْنِي فَسَرْمَدٌ»، أي دائم ما دمت حيّا، فلم يزل حزينا عند ذكر فاطمة عليه السلام، «وَ أَمَّا لَيْلِي فَمُسَهَّدٌ»، أي ينقضي بالسهاد أي السهر، كناية عن شدة الآلام التي تمنع من النوم.

«إِلَى أَنْ يَخْتَارَ اللَّهُ لِي دَارَكَ الَّتِي أَنْتَ بِهَا مُقِيمٌ»، أي الجنّة، فالفاجعة الأليمة توجب دوام الحزن و السهر كلما ذكرها الانسان، حتى يختاره الله و يرحل من الدنيا.

«وَ سَتُنَبِّئُكَ»، أي تخبرك، «ابْنَتُكَ بِتَضَافُرِ»، أي تظاهر «أُمَّتِكَ عَلَى هَضْمِهَا»، أي ظلمها بالفعل المباشر، أو بالتأييد، أو بالسكوت، و قد هجموا على بيتها، و كسروا ضلعها، و أسقطوا جنينها، و لطموا وجهها، وأحرقوا باب دارها، و غصبوا أرضها فدكا، و ظلموها في حقها المقرّر لها، قال الله تعالى: «وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ» سورة الإسراء:26، و آذوها في زوجها، و لم يعطوها مكانتها و مقامها و هي خير نساء العالمين.

«فَأَحْفِهَا السُّؤَالَ»، طلب من النبي (ص) الاستعلام منها (ع)، استقصها يا رسول الله في السؤال تحكي لك ما صدر من الظالمين ضدها، «وَ اسْتَخْبِرْهَا الْحَالَ»، اطلب منها ان تخبرك عن حالنا بعدك.

«هَذَا» كله حصل و وقع علينا، «وَ لَمْ يَطُلِ الْعَهْدُ»، الذي عاهدوك في أن يحسنوا إلى أهل بيتك، و أن يلتزموا بنص وصيتك، النصوص كثيرة في هذا كثيرة، ومنها: ««إِنِّي مُخَلِّفٌ فِيكُمُ اَلثَّقَلَيْنِ كِتَابَ اَللَّهِ وَ عِتْرَتِي» معاني الأخبار،ج90، «أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي»، صحيح مسلم،ج7ص123، «فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي مَنْ آذَاهَا فَقَدْ آذَانِي». شرح الأخبار،ج3ص30، «وإني أوصيكم بعترتي خيرا»، كنز العمال،ج12ص101

«وَ لَمْ يَخْلُ مِنْكَ الذِّكْرُ» بل كان ذكرك باق بينهم، و فعلهم عمدا قصدا و عصيانا وتكالبا على السلطة.

«وَ السَّلَامُ عَلَيْكُمَا سَلَامَ مُوَدِّعٍ»، سلام حين الوداع و الانصراف و السلام يؤتى به عند الدخول وعند الوداع، «لَا قَالٍ»، لا كاره و لا مبغض، «وَ لَا سَئِمٍ»، ممل و ضجر، «فَإِنْ أَنْصَرِفْ فَلَا عَنْ مَلَالَةٍ» فإذا ما انصرفت فليس بسبب ملل من بقائى عندكما، وَ «إِنْ أُقِمْ» عند قبركما، «فَلَا عَنْ سُوءِ ظَنٍّ بِمَا وَعَدَ اللَّهُ الصَّابِرِينَ »، فليس إقامتي عند قبركما لسوء ظن بما وعد الله الصابرين من الثواب العظيم.

و ذكرت الرواية في الكافي عَنْ أَبِي عَبْدِ اَللَّهِ اَلْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ قَالَ:

لَمَّا قُبِضَتْ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا اَلسَّلاَمُ دَفَنَهَا أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ سِرّاً وَ عَفَا عَلَى مَوْضِعِ قَبْرِهَا، ثُمَّ قَامَ فَحَوَّلَ وَجْهَهُ إِلَى قَبْرِ رَسُولِ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ فَقَالَ: اَلسَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اَللَّهِ عَنِّي، وَ اَلسَّلاَمُ عَلَيْكَ عَنِ اِبْنَتِكَ وَ زَائِرَتِكَ وَ اَلْبَائِتَةِ فِي اَلثَّرَى بِبُقْعَتِكَ وَ اَلْمُخْتَارِ اَللَّهُ لَهَا سُرْعَةَ اَللَّحَاقِ بِكَ، قَلَّ يَا رَسُولَ اَللَّهِ عَنْ صَفِيَّتِكَ صَبْرِي وَ عَفَا عَنْ سَيِّدَةِ نِسَاءِ اَلْعَالَمِينَ تَجَلُّدِي، إِلاَّ أَنَّ لِي فِي اَلتَّأَسِّي بِسُنَّتِكَ فِي فُرْقَتِكَ مَوْضِعَ تَعَزٍّ فَلَقَدْ وَسَّدْتُكَ فِي مَلْحُودَةِ قَبْرِكَ وَ فَاضَتْ نَفْسُكَ بَيْنَ نَحْرِي وَ صَدْرِي، بَلَى وَ فِي كِتَابِ اَللَّهِ لِي أَنْعَمُ اَلْقَبُولِ «إِنّٰا لِلّٰهِ وَ إِنّٰا إِلَيْهِ رٰاجِعُونَ»، قَدِ اُسْتُرْجِعَتِ اَلْوَدِيعَةُ وَ أُخِذَتِ اَلرَّهِينَةُ وَ أُخْلِسَتِ اَلزَّهْرَاءُ فَمَا أَقْبَحَ اَلْخَضْرَاءَ وَ اَلْغَبْرَاءَ يَا رَسُولَ اَللَّهِ، أَمَّا حُزْنِي فَسَرْمَدٌ وَ أَمَّا لَيْلِي فَمُسَهَّدٌ، وَ هَمٌّ لاَ يَبْرَحُ مِنْ قَلْبِي أَوْ يَخْتَارَ اَللَّهُ لِي دَارَكَ اَلَّتِي أَنْتَ فِيهَا مُقِيمٌ ،كَمَدٌ مُقَيِّحٌ وَ هَمٌّ مُهَيِّجٌ سَرْعَانَ مَا فَرَّقَ بَيْنَنَا وَ إِلَى اَللَّهِ أَشْكُو، وَ سَتُنْبِئُكَ اِبْنَتُكَ بِتَظَافُرِ أُمَّتِكَ عَلَى هَضْمِهَا فَأَحْفِهَا اَلسُّؤَالَ وَ اِسْتَخْبِرْهَا اَلْحَالَ، فَكَمْ مِنْ غَلِيلٍ مُعْتَلِجٍ بِصَدْرِهَا لَمْ تَجِدْ إِلَى بَثِّهِ سَبِيلاً، وَ سَتَقُولُ وَ يَحْكُمُ اَللَّهُ «وَ هُوَ خَيْرُ اَلْحٰاكِمِينَ»، سَلاَمَ مُوَدِّعٍ لاَ قَالٍ وَ لاَ سَئِمٍ، فَإِنْ أَنْصَرِفْ فَلاَ عَنْ مَلاَلَةٍ وَ إِنْ أُقِمْ فَلاَ عَنْ سُوءِ ظَنٍّ بِمَا وَعَدَ اَللَّهُ اَلصَّابِرِينَ، وَاهَ وَاهاً وَ اَلصَّبْرُ أَيْمَنُ وَ أَجْمَلُ، وَ لَوْ لاَ غَلَبَةُ اَلْمُسْتَوْلِينَ لَجَعَلْتُ اَلْمُقَامَ وَ اَللَّبْثَ لِزَاماً مَعْكُوفاً وَ لَأَعْوَلْتُ إِعْوَالَ اَلثَّكْلَى عَلَى جَلِيلِ اَلرَّزِيَّةِ، فَبِعَيْنِ اَللَّهِ تُدْفَنُ اِبْنَتُكَ سِرّاً وَ تُهْضَمُ حَقَّهَا وَ تُمْنَعُ إِرْثَهَا وَ لَمْ يَتَبَاعَدِ اَلْعَهْدُ وَ لَمْ يَخْلَقْ مِنْكَ اَلذِّكْرُ، وَ إِلَى اَللَّهِ يَا رَسُولَ اَللَّهِ اَلْمُشْتَكَى وَ فِيكَ يَا رَسُولَ اَللَّهِ أَحْسَنُ اَلْعَزَاءِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْكَ وَ عَلَيْهَا اَلسَّلاَمُ وَ اَلرِّضْوَانُ». الکافي،ج1ص458.

مراجع: القرآن الكريم، كتب الحديث، نهج البلاغة، شروح نهج البلاغة، موسوعات، قواميس.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *