افعل بمالك الآن ما تحبّ أن يُفعل به بعد موتك
«كن وصي نفسك في مالك و اعمل فيه ما تؤثر أن يعمل فيه من بعدك»
محمد جواد الدمستاني
أوصى أمير المؤمنين (ع) أن يعمل الإنسان في أمواله من تصرف و إحسان و معروف في حياته و قبل انتقاله إلى العالم الآخر ما يحب أن يُفعل بها بعد وفاته، و روي عنه عليه السلام في نهج البلاغة قوله: «يَا ابْنَ آدَمَ كُنْ وَصِيَّ نَفْسِكَ فِي مَالِكَ وَاعْمَلْ فِيهِ مَا تُؤْثِرُ أَنْ يُعْمَلَ فِيهِ مِنْ بَعْدِكَ»[1]، و في غرر الحكم «كُنْ وَصِيَّ نَفْسِكَ وَ افْعَلْ فِي مَالِكَ مَا تُحِبُّ أَنْ يَفْعَلَهُ فِيهِ غَيْرُكَ»[2].
و المعنى تصرّف بمالك في المواضع الصحيحة من نفقة لأهلك و في أوجه البر و الخير و الصدقات و القربات في حياتك و قبل موتك، مثلما تحب أو ترجّح أن يعمل فيه بعد موتك، فلا توص به غيرك بل كن أنت ذلك الوصيّ، وضعه أنت في تلك المواضع في حياتك.
و لك أن تتصور أنّك ميّت و قد انتقلت إلى عالم البرزخ و قد خلّفت أموالا في عالم الدّنيا فكيف ترغب و ترجو أن تعمل بها و أنت في عالم البرزخ، ما ترجوه و أنت في عالم البرزخ اعمله الآن و قبل الانتقال لذلك العالم، و اغتنم حياتك و قدرتك على التصرف الآن و كن أنت من يقوم بفعل الخير و المعروف بدل أن توكله إلى غيرك.
و يروى عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: -لرجل استوصاه-: «هَيِّئْ جِهازَكَ، و أصلِحْ زادَكَ، و كُنْ وَصِيَّ نَفسِكَ، فإنّهُ لَيسَ مِن اللَّهِ عِوَضٌ، و لا لِقَولِ اللَّهِ خُلفٌ»[3].
و عن الإمام الصادق (ع): «أعِدَّ جِهازَكَ، و قَدِّمْ زادَكَ، و كُنْ وَصِيَّ نَفسِكَ، لا تَقُلْ لغَيرِكَ يَبعَثُ إلَيكَ بما يُصلِحُكَ»[4].
لكن لماذا إنجاز المهام الآن و التصرّف في المال في حياة الإنسان أفضل من التصرّف أو الوصية به بعد موته، و ما هي الفائدة؟ يمكن بيان ذلك بعدة نقاط:
أولا: إنّ الإنسان يحبّ المال في حياته و المال ملكه كله، أما بعد موته فقد خرج المال من سلطته ما عدا ما أوصى به، فهو يوصي بما لا يملك و لا يحبّ و مما لا يستفيد منه في حياته، و ليس التصرّف فيما يملك و يحبّ كما هو فيما لا يملك، قال الله تعالى: «لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ»[5].
ثانيا: إنّ ثواب التصرّف أو التصدق في حياة الإنسان أعظم و أكبر من الوصية بالتصرّف أو الصدقة بعد الموت، و لا مقارنة بينهما، و في نهج البلاغة «فَإِنَّكَ مَا تُقَدِّمْ مِنْ خَيْرٍ يَبْقَ لَكَ ذُخْرُهُ، وَ مَا تُؤَخِّرْهُ يَكُنْ لِغَيْرِكَ خَيْرُهُ»[6].
ثالثا: ليس من المعلوم أن يتم تطبيق الوصية لأي سبب كان بعد الموت فقد لا يتحقق ما يوصي به مطلقا، أو قد لا يُنفذ ما يرغب و يريد الميّت تماما، ففي كثير من الحالات لا يلتزم الورثة بالوصية كاملا كما يريد المورّث، و قد تحدث بعد الموت خلافات كثيرة بين الورثة و تمنع من تطبيق الوصية، و ربما تستمر الخلافات و يقاطع بعضهم بعضا، و قد تصل إلى قاعات المحاكم، و تتسع رقعة الخلافات مع ازدياد الإرث و تعدّده و تعدّد الورثة.
و إذا تم العمل بالوصية أو ببعضها فقد لا تتطابق مع ما أراد المورّث تماما، كأن يوصي ببناء مساحة 1000 متر للأيتام فيبنون له نصفها أو قسما منها، فالضمان الوحيد أن يفعل هو بنفسه في حياته، و هنا تأتي أهمية الولد الصالح أو الأولاد الصالحين.
رابعا: محدودية المال الذي يستطيع المورّث الوصية به و هو الثلث فقط، أما في حال الحياة فلا محدودية له للتصرّف في أمواله بأي مبلغ يريد و يستطيع، و النّاس مسلطون على أموالهم.
أما الثلثان فهو نصيب الورثة الصالح منهم و الطالح لا خيار في المورّث فيه إلا بإجازتهم، و في نهج البلاغة قال عليه السلام: «تَبْقَى لِمَنْ وَرَاءَهُ يَنْعَمُونَ فِيهَا، وَ يَتَمَتَّعُونَ بِهَا فَيَكُونُ الْمَهْنَأُ لِغَيْرِهِ، وَ الْعِبْءُ عَلَى ظَهْرِهِ»[7].
خامسا: إنّ الاثار العملية و تضاعف الثواب في الدّنيا سيفقده إذا لم يقم بالعمل في حياته، ذلك إن الصدقة و الإحسان و المعروف لها آثار تكوينية كما في الروايات فهي تدفع البلاء، و تزيد في الرزق، و تزيد في العمر، و تداوي المرضى، و تدفع ميتة السوء، و ليس ذلك له نفسه بعد الموت.
و في وصية الإمام أمير المؤمنين (ع) لإبنه الإمام الحسن (ع) ألا يترك مالا بعد موته، لا للذي يعمل فيه بطاعة الله و لا للذي يعمل فيه بمعصية الله، قال (ع): «لَا تُخَلِّفَنَّ وَرَاءَكَ شَيْئاً مِنَ الدُّنْيَا فَإِنَّكَ تَخَلِّفُهُ لِأَحَدِ رَجُلَيْنِ إِمَّا رَجُلٌ عَمِلَ فِيهِ بِطَاعَةِ اللَّهِ فَسَعِدَ بِمَا شَقِيتَ بِهِ، وَ إِمَّا رَجُلٌ عَمِلَ فِيهِ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ فَشَقِيَ بِمَا جَمَعْتَ لَهُ فَكُنْتَ عَوْناً لَهُ عَلَى مَعْصِيَتِهِ، وَ لَيْسَ أَحَدُ هَذَيْنِ حَقِيقاً أَنْ تُؤْثِرَهُ عَلَى نَفْسِكَ»[8].
و من مواضع الحسرات يوم القيامة هو رؤية الإنسان ماله في ميزان غيره، و قد رويت في هذا المعنى عدة روايات منها ما روي في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين (ع) قال: «إِنَّ أَعْظَمَ الْحَسَرَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَسْرَةُ رَجُلٍ كَسَبَ مَالًا فِي غَيْرِ طَاعَةِ اللَّهِ فَوَرِثَهُ رَجُلٌ فَأَنْفَقَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فَدَخَلَ بِهِ الْجَنَّةَ وَ دَخَلَ الْأَوَّلُ بِهِ النَّارَ»[9].
و عن الإمام الصّادق عليه السلام – في قوله تعالى: ««كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ»[10] قال: هُو الرّجُلُ يَدَعُ المالَ لا يُنفِقُهُ في طاعَةِ اللَّهِ بُخلًا، ثُمّ يَموتُ فيَدَعُهُ لمَن يَعمَلُ بهِ في طاعَةِ اللَّهِ أو في مَعصيَتِهِ، فإن عَمِلَ بهِ في طاعَةِ اللَّهِ رآهُ في ميزانِ غيرِهِ فزادَهُ حَسرَةً و قد كانَ المالُ لَهُ، أو عَمِلَ بهِ في مَعصيَةِ اللَّهِ قَوّاهُ بذلكَ المالِ حتّى عُمِلَ بهِ في مَعاصي اللَّهِ»[11].
و عنهما -الإمام الباقر أو الإمام الصّادق- عليهما السلام: في معنى قوله جل وعز: «كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ»[12]قال: الرّجُلُ يَكسِبُ مالًا فيُحرَمُ أن يَعمَلَ فيه خَيراً فيَموتُ، فَيَرِثُهُ غيرُهُ فيَعمَلُ فيهِ عَملًا صالِحاً، فيَرَى الرّجُلُ ما كَسَبَ حَسَناتٍ في مِيزانِ غَيرِهِ»[13].
فتأخير عمل الخير و الإحسان و المعروف لما بعد الموت هذه خطة خاطئة و خسران، و الأفضل المسارعة الآن مادامت الحياة الدّنيا و المبادرة إلى المعروف و أوجه الخير و عدم توكيل ذلك للغير، و عدم الخوف من الفقر و الحاجة، قال الله تعالى:«الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّـهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّـهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ»[14].
-
– نهج البلاغة، حكمة 254 ↑
-
– غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد الآمدى التميمي، ص ٥٣٠ ↑
-
– كنز العمال، ج ١٦، المتقي الهندي، ص ١٣٦ ↑
-
– الكافي، الشيخ الكليني، ج٧، ص ٦٥، تهذيب الأحكام، الشيخ الطوسي، ج ٩، ص 338، مستطرفات السرائر، ابن إدريس الحلي، ص ٦٣٩، بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج ٧٥، ص ٢٧٠ ↑
-
– سورة آل عمران، آية 92 ↑
-
– نهج البلاغة، كتاب 69 ↑
-
– نهج البلاغة، خطبة 109 (وَ يَتَذَكَّرُ أَمْوَالًا جَمَعَهَا، أَغْمَضَ فِي مَطَالِبِهَا، وَ أَخَذَهَا مِنْ مُصَرَّحَاتِهَا وَ مُشْتَبِهَاتِهَا، قَدْ لَزِمَتْهُ تَبِعَاتُ جَمْعِهَا، وَ أَشْرَفَ عَلَى فِرَاقِهَا، تَبْقَى لِمَنْ وَرَاءَهُ يَنْعَمُونَ فِيهَا، وَ يَتَمَتَّعُونَ بِهَا فَيَكُونُ الْمَهْنَأُ لِغَيْرِهِ، وَ الْعِبْءُ عَلَى ظَهْرِهِ) ↑
-
– نهج البلاغة، حكمة 416 ، قال الرضي: وَ يُرْوَى هَذَا الْكَلَامُ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ وَ هُوَ : قال الرضي: وَ يُرْوَى هَذَا الْكَلَامُ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ وَ هُوَ :
أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الَّذِي فِي يَدِكَ مِنَ الدُّنْيَا قَدْ كَانَ لَهُ أَهْلٌ قَبْلَكَ وَ هُوَ صَائِرٌ إِلَى أَهْلٍ بَعْدَكَ وَ إِنَّمَا أَنْتَ جَامِعٌ لِأَحَدِ رَجُلَيْنِ رَجُلٍ عَمِلَ فِيمَا جَمَعْتَهُ بِطَاعَةِ اللَّهِ فَسَعِدَ بِمَا شَقِيتَ بِهِ أَوْ رَجُلٍ عَمِلَ فِيهِ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ فَشَقِيتَ بِمَا جَمَعْتَ لَهُ وَ لَيْسَ أَحَدُ هَذَيْنِ أَهْلًا أَنْ تُؤْثِرَهُ عَلَى نَفْسِكَ وَ لَا أَنْ تَحْمِلَ لَهُ عَلَى ظَهْرِكَ فَارْجُ لِمَنْ مَضَى رَحْمَةَ اللَّهِ وَ لِمَنْ بَقِيَ رِزْقَ اللَّهِ. ↑
-
– نهج البلاغة، حكمة 429 ↑
-
– سورة البقرة، آية 167 ↑
-
– تفسير العياشي، محمد بن مسعود العياشي، ج ١، ص ٧٣، البرهان في تفسير القرآن، السيد هاشم البحراني، ج ١، ص ٤٣٠، بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج ٧٠، ص ١٤٤ ↑
-
– سورة البقرة، آية 167 ↑
-
– الأمالي، الشيخ المفيد، ص ٢٠٥، البرهان في تفسير القرآن، ج ١، السيد هاشم البحراني، ص ٣٦٩ ↑
-
– سورة البقرة، آية 268 ↑