خطر الاستئثار و الاستبداد
«من ملك استأثر»
محمد جواد الدمستاني
إشارة على طبيعة النفس البشرية في الاستئثار روي عن أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة قوله «مَنْ مَلَكَ اسْتَأْثَرَ»[1]، و استأثر من الاستئثار و هو الإستحواذ و الاستبداد و الإحتكار و التفرد، و يقابله الشراكة و الإشراك و التقاسم.
و «مَنْ مَلَكَ اسْتَأْثَرَ» مثل سائر يضرب لمن غلب على أمر فاختصّ به و منعه غيره، و المعنى عام في كل من ملك مالا أو جاها أو غيره استبدّ به على غيره و احتكره لنفسه، و المصداق الأكبر هي مناصب الحكم و الرئاسة فإنّ من يمتلك السلطة و القوة و الثروة غالبًا ما يُفتتن بها و يحتفظ بها لنفسه و يستأثر بالامتيازات و يمنع مشاركة الآخرين، و الملوك يستأثرون و يستحوذون على الرّعية بالمنصب و المال و الجاه و مواقع و مفاصل الدولة و يختصونها لأنفسهم و ذويهم و يحتكرونها و يحجبون الحقوق عن الآخرين.
و هذا السلوك الأناني و الاستبدادي ليس خاصا بطبقة من النّاس و إنّما عموم النّاس كل في موضعه له قابلية الاستئثار و التفرد حيث يسعون إلى استغلال مواقعهم للاحتفاظ بالمكاسب لأنفسهم و حرمانها من غيرهم، و هو في الحاكم بمقداره ما يمتلك من قوة و سلطة و نفوذ أو يتوهم امتلاكها، و للآخرين بمقاديرهم التي يمتلكونها أو يشعرون بامتلاكها حقيقة كانت أو وَهْما، فلهم جميعا القابلية للاستئثار و الانفراد بالمنافع و منعها عن الآخرين، و هذا سلوك عام لا ينجو منه إلا من يمتلك العقل و الإيمان و التقوى و البصيرة.
و الغالبية في الملوك و الرؤساء و الحكام هي الاستئثار و الاستبداد بمنع الآخرين من حقوقهم و منع مشاركتهم، و لكنهم يختلفون شدة وضعفا في مقدار الاستئثار، و الأقلية القليلة من تسعى للعمل بالحق و التقاسم و التشارك و التشاور، و قد أنشد الشاعر المتنبي الذي في شعره من معاني كلمات و حكم الإمام أمير المؤمنين (ع) كثير من الأفكار قائلا:
الظُلمُ مِن شِيَمِ النُفوسِ فَإِن تَجِد ذا عِفَّةٍ فَلِعِلَّةٍ لا يَظلِمُ
فإذا أصبح الحاكم مستبدا ظالما انتشر استبداده و فساده، و ضاعت الحقوق و العدالة، و تركزت السلطات بيده و معينيه، و صار تطبيق القانون بالهوية و التمييز، و فُقدت الحريات، و غاب النشاط السياسي إلا الصوري للتزييف، و انتشر الفساد و نخر في مؤسسات الدولة.
فإن كان الغالب أو الأصل عند الملوك أو الرؤساء و الحكام هو الاستئثار و الاستبداد، فمالذي يدعو بعضهم إلى عكس ذلك من العدل و القسط و الإنصاف و الحق، أمران:
إما بسبب الالتزام بالقيّم الأخلاقية و الإنسانية عند الحاكم أو الملك أو الرئيس، من العمل بالحق و الحقوق و تحقيق العدل و الإنصاف، و رفض الظلم، و شراكة النّاس، إلى غيرها من مجموعة القيّم الأخلاقية و الإنسانية، أو بسبب الالتزام بالقيّم الدينية و الخشية من الله، و تطبيق أحكام الله، و الدعوة للحق و العدل و الأخلاق و القيّم، و الاعتقاد الديني الراسخ بالقيامة و الحساب و الكتاب و الجنّة و النّار فيردعه ذلك من الاستبداد و الاستئثار و الظلم.
أو لأسباب رقابية و حسابية و الخوف من العقوبة، لوجود أجهزة رقابة و محاسبة في البلد الذي يحكمه، و تخضعه في أي لحظة عند حصول المخالفة للمساءلة و العقوبة، فلا يستطيع أن يتجاوز تلك الأجهزة أو يقفز عليها، وهذه الأجهزة الرقابية مهمة جدا في إرساء العدل و منع الاستبداد، و في التقدم الحضاري للأمم.
و لذلك تراجع الازدهار و التقدم في كثير من الدول بسبب الاستئثار و الاستبداد، لأنّ الحاكم هو المحكمة و هو القاضي و هو الخصم و هو الشاهد، و هو المقنن و هو المشرّع و هو البرلمان، كما أنّه هو التاجر و هو الاقتصادي، و هو صاحب المستشفى، و هو صاحب المراكز التجارية و الفنادق، و هو صاحب الصالة الرياضية و هو الرياضي الأول إن أراد، و هو الشرطة و هو الجيش و هو العسكر، و هو الجمعية الخيرية، و هو كل شيء، و هذا أقوى مراتب الأنانية و الاستئثار.
و نتيجة الاستئثار و الاستبداد هو الهلاك و الموت كما في حكمة أخرى في نهج البلاغة عنه عليه السلام «مَنِ اسْتَبَدَّ بِرَأْيِهِ هَلَكَ، وَ مَنْ شَاوَرَ الرِّجَالَ شَارَكَهَا فِي عُقُولِهَا»[2]، و العبرة و العظة هو في الانتباه إلى هذا السلوك و السعي في عدم تمكينه في النفس أو إبعاده، و عدم قبوله في الآخرين و رفضه فإنّ الاستئثار و الاستبداد يؤديان إلى هلاك الأفراد و الأمم، و له عليه السلام عدد من الحكم في ذلك، و منها قوله (ع): «الِاسْتِبْدَادُ بِرَأْيِكَ يُزِلُّكَ وَ يُهَوِّرُكَ فِي الْمَهَاوِي»[3]، «مَنِ اسْتَبَدَّ بِرَأْيِهِ خَاطَرَ وَ غَرَّرَ»[4]، «مَنِ اسْتَبَدَّ بِرَأْيِهِ خَفَّتْ وَطْأَتُهُ عَلَى أَعْدَائِهِ»[5]، «مَنِ اسْتَبَدَّ بِرَأْيِهِ زَلَّ»[6]، «مَنْ قَنِعَ بِرَأْيِهِ هَلَكَ»[7].
فالحكمة و مشابهاتها من الحكم تتضمن التحذير بضرورة مراقبة النّاس لأعمالهم و التزام العدل و الإنصاف و العمل بالحق كل في موقعه في السياسة أو في أي منصب آخر و مسؤولية، و خاصة من طبقة الحكام و المناصب العليا لأن الاستئثار و الاستبداد يولد الظلم و الفساد و يؤدي إلى الانهيار و الهلاك كما يخبر عليه السلام، و هذا مُشاهد في التاريخ و في الحاضر القريب و البعيد، فلا يغتر أحد بملكه و حكمه و يستبد على النّاس بظلمه فإنّه يولد الانفجار و يؤدي إلى الهلاك و زوال الملك و الحكم و الرئاسة.
و أمير المؤمنين (ع) إمام المتقين، حكيم و خبير، و تاريخه حافل بالتطبيق في نفسه و في من ينصب من الولاة على الأمصار و البلدان فيأمرهم بالعدل و يوصيهم بالحق و عهد الإمام (ع) لمالك الأشتر أحد الشواهد بما فيه من دستور كامل للوالي و الدولة، و لا يتركهم دون رقيب و حسيب، بل يتابعهم فيما يعملون، و كتبه و رسائله متواصلة معهم، و في بعضها يحذّرهم عن الاستئثار و يحاسبهم، و حينما يبلغه أمر بمخالفة أحد ولاته أو تقصير يعزله مباشرة، و كانت القوة القضائية مستقلة في عاصمة دولته عليه السلام.
-
– نهج البلاغة، حكمة 160 ↑
-
– نهج البلاغة، حكمة 161 ↑
-
– غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد الآمدى التميمي، ص ٨١ ↑
-
– غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد الآمدى التميمي، ص ٦٦٦ ↑
-
– غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد الآمدى التميمي، ص 630 ↑
-
– غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد الآمدى التميمي، ص ٥٨١ ↑
-
– غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد الآمدى التميمي، ص ٥٧٩ ↑