محمد جواد الدمستانيمحمد جواد الدمستاني

Loading

درس أخلاقي من الإمام الكاظم (ع)

في النقد و إبداء الملاحظات

محمد جواد الدمستاني

درس أخلاقي من الإمام الكاظم عليه السلام في كيفية الانتقادات و إبداء الملاحظات، قال عليه السلام «كُلُّ شَيءٍ مِنكَ حَسَنٌ جَميلٌ ماخَلا شَيئاً واحِداً».

الرواية المعروفة في كتب الحديث عن صفوان الجمّال ويُؤتى بها في المكاسب المحرمة، من ضمن الأخبار الواردة في عموم تحريم معونة الظالمين، ولكن الكلام هنا في جانب أخلاقي من كلام الإمام عليه السلام يتعلق بإبداء الملاحظات أو النقد أو النصيحة للآخرين، والرواية يرويها صفوان بن مهران الذي كان يملك قطيعا من الجمال و يؤجره إلى هارون العباسي رأس السلطة الحاكمة و مرتبط بعقد تجاري معهم بنقلهم وأمتعتهم إلى الحج.

و بمقاربة عمله لمثل هذه الأيام و العصور فإنّ صفوان يملك شركة مواصلات ضخمة و بعقد تجاري كبير مع الحاكم و رأس السلطة هارون، و ضخامته بقرينة تجارته مع الحاكم فإنّ الحاكم لا يذهب منفردا و إنّما مع حاشيته و خدمه و غلمانه و ربما مسؤولي ديوانه أو بعضهم، و رجال و نساء، و من عادة الحكام و الملوك أن يستعملون من الأشياء أفخمها.

قال صفوان : دَخَلتُ عَلى أبِي الحَسَنِ الأَوَّلِ (الإمام الكاظم عليه السلام) فَقالَ لي: يا صَفوانُ، كُلُّ شَيءٍ مِنكَ حَسَنٌ جَميلٌ ماخَلا شَيئاً واحِداً، قُلتُ: جُعِلتُ فِداكَ، أيُّ شَيءٍ؟ قالَ: إكراؤُكَ جِمالَكَ مِن هذَا الرَّجُلِ؛ يَعني هارونَ (الحاكم العباسي)، قُلتُ: وَاللَّهِ ما أكرَيتُهُ أشَراً، ولا بَطَراً، ولا لِصَيدٍ، ولا لِلَهوٍ، و لكِنّي اكريهِ لِهذَا الطَّريقِ؛ يَعني طَريقَ مَكَّةَ، ولا أتَوَلّاهُ بِنَفسي و لكِن ‌أنصِبُ غِلماني، فَقالَ لي: يا صَفوانُ، أيَقَعُ كِراؤُكَ عَلَيهِم [أي هل يعطوك ثمن أجرتك]؟ قُلتُ: نَعَم جُعِلتُ فِداكَ، قالَ: فَقالَ لي: أتُحِبُّ بَقاءَهُم حَتّى يَخرُجَ كِراؤُكَ [أي أتحب بقاءهم حتى يعطوك أجرتك]؟ قُلتُ: نَعَم، قالَ: فَمَن أحَبَّ بَقاءَهُم فَهُوَ مِنهُم، ومَن كانَ مِنهُم كانَ وَرَدَ النّارَ.

تكملة الرواية صفوان باع جماله وعلم هارون وقال له :«فَوَاللَّهِ لَولا حُسنُ صُحبَتِكَ لَقَتَلتُكَ».

و الدرس في كيفية توصيل الملاحظة و النصيحة أو الانتقاد إلى الآخرين، فالتدبر في الرواية يتضح إنّ الإمام عليه السلام:

أولا و ابتداء استقبله، و ابتدأه في الكلام، وقدّم الجانب الإيجابي له.

و ثانيا قام بمدحه و توقيره بما يطابق الواقع، قبل النصح و النقد والعتاب.

و ثالثا نصحه مباشرة و لوحده و ليس أمام الآخرين ، و من آداب النصيحة عنهم عليهم السلام النصح و الوعظ سرا لا علانية، فقد روي عن الإمام أمير المؤمنين و الإمام الجواد و الإمام الحسن العسكري عليهم السلام قولهم «مَنْ وَعَظَ أَخَاهُ سِرّاً فَقَدْ زَانَهُ، وَمَنْ وَعَظَهُ عَلاَنِيَةً فَقَدْ شَانَهُ».

و بدأ الإمام عليه السلام بمدحه، قال: «كُلُّ شَيءٍ مِنكَ حَسَنٌ جَميلٌ»، ثم ذكر النقد كملاحظة أو نصيحة «ماخَلا شَيئاً واحِداً»، وهذا الترتيب مؤثر جدا في إبداء الملاحظة أو النُصح أو النقد، حيث يقدم مقدمة، و يمدحه صادقا، فينشرح صدره لاستقبال الكلام، ثم يأتي و يبيّن الملاحظة أو النقد.

ثم يبيّن موضع الخلل و السبب صراحة، وهذا مهم جدا، قال الإمام عليه السلام «إكراؤُكَ جِمالَكَ مِن هذَا الرَّجُلِ» أي تأجير الجمال للطاغية هارون، و إكراء الجمال و تأجيرها عمل تجاري لا مشكلة فيه بحد ذاته، و لكن المشكل هو إكراؤها و تأجيرها من هذا الرجل الطاغية هارون العباسي.

وهارون العباسي هذا و الذي يسمّيه بعض العرب هارون الرشيد هو الذي فعل الفضائع في عصره، ومنها أنّه أمر بقتل ستين علويا من نسل علي و فاطمة، و حبس و قتل من العلويين الكثير، و سار على سيرة جده المنصور في القتل بالاسطوانات فبعد أن نقض العهد غدر بيحيى بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب الثائر بالديلم حيث بنى عليه أسطوانة و هو حي، و قتل لاحقا الإمام الكاظم عليه السلام في سجن بغداد، و أمر بحرث قبر الحسين عليه السلام، و قطع السدرة التي كانت إلى جوار القبر، فهذا طاغية لا رشيد.

و في النصائح والعلاقات الاجتماعية والتربوية يلزم الناصح و المعلم و المربيّ بيان سبب و موضع الخلل، و كذا سبب العقوبة إن وجدت عقوبة، هكذا بين الآباء و الأبناء لابد من بيان السبب الرئيس للمشكلة موضوع النقد أو النصح أو العتاب، و كذلك لا بد من بيان موجب العقوبة و المجازاة إن وجدت، و إلا لن يتم تلافيها لاحقا بل ستتكرر، و كذلك بين المعلم و الطالب لابد من بيان السبب للمشكل و المجازاة.

 

ثم بيّن الإمام عليه السلام العلة الأصل في ذلك بقوله : «فَمَن أحَبَّ بَقاءَهُم فَهُوَ مِنهُم، ومَن كانَ مِنهُم كانَ وَرَدَ النّارَ»، حبّ الطغاة وبقاءهم يؤدي بصاحبه إلى النار، قال تعالى « وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ» سورة هود/113.

إذا تعامل شخص مع الطغاة، و عمل معهم، و سجّل في ديوانهم، فقد أصبح جزءا من نظامهم و سلطتهم الظالمة، و شيئا فشيئا سيجد نفسه مرتهنا لسياستهم، و مطبقا لإرادتهم، و لا مفر من تطبيق أوامرهم و مسايرتهم، و يصبح عنصرا من مجموعة البطّالين و الطبّالين، و يستصغر المحرمات، و يأنس الجرائم، و ترتبط مصالحه معهم فيحبّ بقاءهم، و إذا اصبح كذلك تتراكم عليه الذنوب و الآثام حتى يكون مصيره النّار.

و صفوان بعيد عن ديوان الطاغية كما هو سياق الرواية و لكن تجارته مع هارون تجعله ينتظر رجوعه و حاشيته ليعطيه أجوره، ومدة الانتظار هذه حتى إعطائه الأجور قليلة كانت أيام أو كثيرة أسابيع أو أكثر فإنّه يحب بقاءه و حاشيته فيها، وبقاء نظام الظالم و سلطته، مدة الانتظار هذه و محبته تدخله النّار.

فإذا أراد الإنسان أن ينجو من ذلك كله فعليه الابتعاد عنهم و الزهد فيما أيديهم، و يتقي الله في نفسه و أهله و مجتمعه، و يكون حذر من وساوس الشيطان فقد يأتيه بخدع توقعه في فخ الطغاة.

و قد يتبادر إلى حسن النية في هذا العمل و إنّما هو عمل مقابل أجرة، و لكن حسن النية لا تصحح العمل الباطل و الفاسد، و هنا في الرواية واضح أنّ نية صفوان حسنة و لكن عمله باطل، فقال صفوان: «وَاللَّهِ ما أكرَيتُهُ أشَراً، ولا بَطَراً، ولا لِصَيدٍ، ولا لِلَهوٍ، ولكِنّي اكريهِ لِهذَا الطَّريقِ» يعني طريق مكة، بمعنى ينبغي الانتباه و الدقة جيدا إلى العمل هل هو صحيح أو باطل، لأنّ النية الحسنة لا تصحح العمل الباطل، و الباطل هنا هو تأجير الجمال للطاغية.

وكذلك الانتباه أنّ الإنسان مسؤول عن عمله و كل عمل يقع تحت سلطته أو إدارته و إن وكّل غيره للقيام به، فقد قال صفوان: «ولا أتَوَلّاهُ بِنَفسي ولكِن ‌أنصِبُ غِلماني»، أو بمعنى آخر لا يشترط في سوء العمل و فساده قيام الشخص

بنفسه به، بل حتى مع توكيله الغير مادام العمل واقع تحت سيطرته و إدارته.

و من الفوائد العظيمة التي يجب الانتباه لها في هذه الرواية هي إيمان و عقيدة صفوان في الامتثال لتعاليم الإمام و تنفيذه إياها، لأنّ بيع الجمال ليس شيئا بسيطا بل يعرضه للمخاطر و الأضرار، ففي تكملة الرواية:

«قَالَ صَفْوَانُ فَذَهَبْتُ وَ بِعْتُ جِمَالِي عَنْ آخِرِهَا، فَبَلَغَ ذَلِكَ إِلَى هَارُونَ، فَدَعَانِي فَقَالَ لِي يَا صَفْوَانُ بَلَغَنِي أَنَّكَ بِعْتَ جِمَالَكَ قُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: لِمَ ؟ قُلْتُ: أَنَا شَيْخٌ كَبِيرٌ وَ أَنَّ اَلْغِلْمَانَ لاَ يَفُونَ بِالْأَعْمَالِ، فَقَالَ: هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ إِنِّي لَأَعْلَمُ مَنْ أَشَارَ عَلَيْكَ بِهَذَا، أَشَارَ عَلَيْكَ بِهَذَا مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ، قُلْتُ: مَا لِي وَ لِمُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ ! فَقَالَ: دَعْ هَذَا عَنْكَ فَوَ اَللَّهِ لَوْ لاَ حُسْنُ صُحْبَتِكَ لَقَتَلْتُكَ».

و المخاطر و الأضرار في جهتين، هما الجهة المالية الاقتصادية، و الجهة الأمنية السياسية.

فأما الجهة الأولى فإن امتناع صفوان من إكمال الصفقات التجارية مع الحاكم و بيعه كل الجمال سيعرضه بلا شك إلى خسائر مالية كبيرة ظاهرة، بل سيتوقف عمله و تجارته تماما، و لكنّ الرزق من الله « وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا ‎وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ۚ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا » سورة الطلاق 2-3.

و أما الجهة الثانية فهي أخطر فقد يعرضه هذا العمل من الامتناع و بيع الجمال إلى الانتقام و القتل، وهو الذي أوضحه هارون بقوله «فَوَاللَّهِ لَولا حُسنُ صُحبَتِكَ لَقَتَلتُكَ»، فالجهة الأمنية تعريضه للموت، و أما السياسية فهي شعور الطاغية بالاحتقار إذ أنّ هناك من الشعب من يعتقد و يؤمن و يرجع و ينفذ أوامر موسى بن جعفر وهو إمام القلوب، كما في الرواية حينما رأى الرشيد هارون الإمام موسى بن جعفر عليه السلام في المدينة فسأله: أنت الذي تُبايعك الناس سراً ؟ فقال عليه السلام: «أنا إمام القلوب وأنت إمام الجسوم»، هذه العقدة من عظمة أئمة القلوب تلاحق الطغاة و تشعرهم بالدونية و الاحتقار في أنفسهم، و قد تؤدي بهم إلى الانتقام و الجرائم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *