الخبرة مقدمة على القوة
«راي الشيخ أحبّ إلي من جلد الغلام»
محمد جواد الدمستاني
في أهمية الخبرة و تقديمها على الحماس و القوة و التحمّل روي عن أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة قوله «رَأْيُ الشَّيْخِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ جَلَدِ الْغُلَامِ»[1]، و روي «رَأْيُ الشَّيْخِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ مَشْهَدِ الْغُلَامِ»[2]، و في كتاب كنز الفوائد: «رَأيُ الشَّيخِ أحَبُّ إلَيَّ مِن حيلَةِ الشّابِّ»[3].
رأي الشيخ أي رأي كبار السن و أهل الخبرة، و جلد الغلام يعني قوة الشاب و صلابته و شدته، و مشهد الغلام حضوره، و هي إشارة إلى أهمية الخبرة و التجربة في الحياة، فكلما زاد عمر الإنسان زادت تجاربه وخبراته، فالخبرة تتوفر عند كبار السن و ليس عند الشاب، و الخبرة و التجربة مقدمة على القوة، و رأي الشيخ أحبّ من قوة الشباب، فرأي الشيخ بمعنى رأي الحكيم المجرّب ذي الرأي السديد و هو المقدّم على جلد الغلام بمعنى قوته و نشاطه البدني دون خبرة و حنكة.
و المشاريع و الحروب و الأعمال الكبيرة اجتماعية كانت أو اقتصادية أو تجارية أو صناعية أو غيرها تحتاج قبل الشروع بالعمل بها و الابتداء إلى التخطيط و تداول الآراء و الأفكار و الخطط و هي تحتاج إلى خبرة، ثم تأتي مرحلة العمل و هي تحتاج قوة و صبر و تجلد، و الحرب كذلك – و لعل مناسبة الكلمة هي الحرب ففي كتاب مجمع الأمثال قال الميداني أنّ هذا الكلام قاله أمير المؤمنين عليه السلام في بعض حروبه – تحتاج إلى خطط حربية و عسكرية، و خطط دفاع و هجوم، و تكتيكات و استراتيجية، لتحقيق النصر أو منع الهزيمة أو تقليل الخسائر و هذه بيد أهل الخبرة و أصحاب التجارب و هم كبار السن و الشيوخ.
و كل المشاريع حربية كانت أو مدنية تبتني على دراسة و خطط و دراية و هي مقدمة على الاندفاع و الحماس.
و تلك المشاريع على اختلاف نوعيتها تحتاج إلى من يشيّدها و يعمّرها و يقوم بها و في الحرب و المعارك و القتال و الهجوم و الدفاع بحاجة إلى قوة و تحمّل و حماس و شجاعة و هي موجودة في الشباب و ليس في الكهول و الشيوخ.
و الكلام يرشد إلى الخبرة و الاستفادة من أهل الخبرة و الخبراء في تجاربهم في الحياة و في المشاريع المختلفة و منها الحرب و أزمنة الأزمات، فالخبرة مهمة في كل مجالات الحياة، و في كل زمان و مكان، و في كل موقع و إدارة، و عند كل مدير و عامل و مصنع و شركة و مدرسة و وزارة.
و الحرب و المعارك لا تُدار بالقوة و الشجاعة فقط و ليس بالبنية الجسدية و العضلات – و خاصة هذه العصور و ما بعدها فإنّ الموازين العسكرية ربما ترجّح كفة أصحاب الخطط العلمية و الالكترونية أكثر من حجم الجيوش و عتاد السلاح التقليدي- بل بالفكرة و الخطط الناجحة و الآراء الصائبة و مجموعة تدابير و إجراءات تهدف إلى تحقيق النّصر و هذه تحتاج إلى خبرة و تجربة و تمرّس و دراية و هي تتوفر عند الكهول و الشيوخ بحكم أعمارهم و تجاربهم أكثر من الشباب الذي يغلب عليه التسرّع و الحماس.
و هذه الحكمة و إن قيلت في الحرب و لكن معناها متعدد الاتجاه و المجال و تطبيقها في الاستفادة من أهل الخبرة و التجارب في كل موارد الحياة و في المشاريع المختلفة و الحروب و أزمنة الأزمات، و حتى في شؤون الأسرة و مستوى البيت و الأسرة فإنّ الأب و كبير العائلة يختصر بفكره جميع تجاربه ليُقدّم رأيه على الأولاد و الأحفاد.
و قال عليه السلام في موقع آخر: «الظَّفَرُ بِالْحَزْمِ، وَ الْحَزْمُ بِإِجَالَةِ الرَّأْيِ، وَ الرَّأْيُ بِتَحْصِينِ الْأَسْرَارِ»[4]، فالنصر يحتاج إلى حزم و رأي و حفظ اسرار، و إجالة الرأي بمعنى تقليب وجهات النظر و الآراء و الإمعان فيها و التدقيق قبل اتخاذ القرار و هذه تحتاج إلى أهل الخبرة و الشيوخ.
و كذلك يرشد الإمام عليه السلام في الحكمة إلى ضرورة المشاورة فإنّ للمشاورة أهلها و هم القادرون على إبداء الرأي بخبرتهم، و قد رويت عنه عليه السلام عدة روايات في المشاورة و أهميتها، و منها «لَا ظَهِيرَ كَالْمُشَاوَرَةِ»[5]، «مَنِ اسْتَبَدَّ بِرَأْيِهِ هَلَكَ، وَ مَنْ شَاوَرَ الرِّجَالَ شَارَكَهَا فِي عُقُولِهَا»[6]، «الِاسْتِشَارَةُ عَيْنُ الْهِدَايَةِ، وَ قَدْ خَاطَرَ مَنِ اسْتَغْنَى بِرَأْيِهِ»[7].
و قد أشار الإمام عليه السلام إلى أهمية الخبرة في عدة مناسبات و من كلماته (ع): «الْأَعْمَالُ بِالْخِبْرَةِ»[8]، «عِنْدَ الْخِبْرَةِ تَنْكَشِفُ عُقُولُ الرِّجَالِ»[9]، «الطُّمَأْنِينَةُ قَبْلَ الْخِبْرَةِ خِلَافُ الْحَزْمِ»[10]، فعندما يعمل الإنسان مشروعا أو يفتح مصنعا أو يدخل حربا دون خبرة و دون رؤية و يفتقد التخطيط و يفتقر االتدبير المحكم و دون استراتيجية واضحة فإنّه لا يمكنه الاطمئنان بالنتائج، فالاطمئنان أو «الطمأنينة قبل الخبرة خلاف الحزم»، فالحزم و الحسم أبعد ما يكون في هذه الحالات بل قد تتحول الحرب إلى مستنقع يستنزف كل طاقاته.
و في كتب الحديث روايات حول العقل و نموه و علاقته بالتجارب و الأعمار، و منها:
قال أمير المؤمنين عليه السلام: «يُرَبَّى اَلصَّبِيُّ سَبْعاً، وَ يُؤَدَّبُ سَبْعاً، وَ يُسْتَخْدَمُ سَبْعاً، وَ مُنْتَهَى طُولِهِ فِي ثَلاَثٍ وَ عِشْرِينَ سَنَةً، وَ عَقْلِهِ فِي خَمْسٍ وَ ثَلاَثِينَ سَنَةً، وَ مَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ فَبِالتَّجَارِبِ»[11].
و روي عن الإمام الباقر عليه السلام: «وَ إِنَّ اَلرَّجُلَ إِذَا كَبِرَ ذَهَبَ شَرُّ شَطْرَيْهِ، وَ بَقِيَ خَيْرُهُمَا ثَبَتَ عَقْلُهُ وَ اِسْتَحْكَمَ رَأْيُهُ وَ قَلَّ جَهْلُهُ»[12].
و عن الإمام الصادق عليه السلام: «يَزِيدُ عَقْلُ اَلرَّجُلِ بَعْدَ اَلْأَرْبَعِينَ إِلَى خَمْسِينَ وَ سِتِّينَ ثُمَّ يَنْقُصُ عَقْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ»[13].
-
– نهج البلاغة ، حكمة 86 ↑
-
– نهج البلاغة ، حكمة 86 ↑
-
– كنز الفوائد، أبي الفتح الكراجكي، ص ١٧١ ↑
-
– نهج البلاغة، حكمة 48 ↑
-
– نهج البلاغة، حكمة 54 ↑
-
– نهج البلاغة، حكمة 161 ↑
-
– نهج البلاغة، حكمة 211 ↑
-
– غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد الآمدى التميمي، ص ١٩، عيون الحكم والمواعظ، علي بن محمد الليثي الواسطي، ص ٣٦ ↑
-
– تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد الآمدى التميمي، ص ١٠٠، غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد الآمدى التميمي، ص ٤٥٤ (عند الحيرة تستكشف عقول الرّجال)، عيون الحكم والمواعظ، علي بن محمد الليثي الواسطي، ص ٣٣٨ (عند الحيرة تستكشف عقول الرجال). ↑
-
– غرر الحكم ودرر الكلم ( فارسى )، ج ١، عبد الواحد الآمدى التميمي ( مترجم : محلاتى )، ص ٢٤٢، و في (بحار الأنوار، المجلسي، ج74،ص280، تحف العقول، ابن شعبة الحراني، ص88، بحار الأنوار، المجلسي، ج74، ص236، تحف العقول، ابن شعبة الحراني، ص92) «وَ اَلطُّمَأْنِينَةُ قَبْلَ اَلْخِبْرَةِ ضِدُّ اَلْحَزْمِ». ↑
-
– من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ج٣، ص ٤٩٣ ↑
-
– من لا یحضره الفقیه، الشيخ الصدوق، ج3، ص468 ↑
-
– الاختصاص، الشيخ المفيد، ص ٢٤٤ ↑