ردّ العنف بالعنف و القوة بالقوة
«رُدُّوا الْحَجَرَ مِنْ حَيْثُ جَاءَ فَإِنَّ الشَّرَّ لَا يَدْفَعُهُ إِلَّا الشَّرُّ»
نهج البلاغة – حكمة 314
محمد جواد الدمستاني
ردّوا الحجر من حيث جاء، الحجر هنا كناية عن الشرّ ، و ردّ الحجر من حيث جاء بمعنى ردّ الشر بالشر أو مقابلة الشرّ بمثله، و المعنى هو ردّ اعتداء الظالم بمثله و عدم قبول الظُلم و الجَور، قال تعالى «فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّـهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّـهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ»، سورة البقرة:194، و قال تعالى «وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ». البقرة:193، الأنفال:39.
ردّ الحجر و دفع الشر و منع تجاوز الظَّالمين يكون بردّ ظُلمهم إليهم و ردّ شرّهم عليهم، و الشرّ لا يدفعه إلا الشرّ، و في هذه الحالة إذا عُومل الظالم بمثل ما فعل و بمثل ما صنع فإنّه سيرتدع و يمتنع و يتوقف عن ظلمه، و أما إذا تُرك الظالم و لم يُردّ على ظلمه فإنه سيزيد في ظلمِه و يستمر في جَوره و عدوانه.
كما تشير الحكمة إلى أن يكون ردّ الظلم من حيث جاء أي يردّ إلى جهة صدوره، فبعد تشخيص الجهة الظالمة يردّ الظلم إليها تماما دون أطرافها أو متعلقاتها.
و ردّ الحجر و الشر أمر و دعوة بردّ فعل الظالم بمثله، يتناسب ردّ الفعل مع الظُلم الحاصل، «فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ» البقرة:149. و لعله مخصوص بحالة أنّ الظُلم الحاصل لا يندفع إلا بظلم مثله، و لا يندفع إلا بالشر، دون حلول أخرى سلمية لوجود الأوامر العامة بالحِلم و العفو و الصفح و الصبر.
فإذا انحصر ردّ المظلوم بردّ الشر بمثله فإنّه معذور «وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَٰئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ۚ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ». الشورى:41-42.
وهذه هي فلسفة القِصاص و الحدود و هي أساسية في ردع الظلم و الظالم، أمّا إذا لم يُردع الظالم فإنّه يزيد في ظلمه و إجرامه و تزيد الجرائم في المجتمع و يصبح مجتمع غير آمن، و هذه الفلسفة يذكرها الميرزا الهاشمي الخوئي في منهاج البراعة في شرح نهح البلاغة يذكر: و أنّ الإمام عليه السلام تعرّض لبيان فلسفة القِصاص في الشرائع و بيان أنّه إذا لم يجر حكم الإعدام على القاتل و القِصاص على الجاني لا يمكن دفع الشرور عن المجتمع، فقوله عليه السلام مقتبس من قول الله تعالى:«وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الأَلْبابِ» سورة البقرة:179، و من قوله تعالى«فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْه ِبِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ» البقرة:149.
و المعنى في «رُدُّوا الْحَجَرَ مِنْ حَيْثُ جَاءَ» متداول ففي العقود الماضية كانت تُقال عبارة «ردّ العُنْف بالعُنْف»، و كانت تستعمل في مواقع القتال. و يفترض أن يكون ردّ العنف بالعنف مع انحصاره به و دون فائدة من وسيلة أخرى.
قريب من هذا المعنى «رُدُّوا الْحَجَرَ..» في الأمثال العربية كما في مجمع الأمثال «الشَّرُّ للشَّرِّ خُلِقَ»، و«الْحَديِدُ بالْحَدِيِدِ يُفْلَحُ». و كذلك المثل البحراني «ما يفل الحديد إلا الحديد»، أي لا يؤثــِّر في الحديد إلاّ الحديد و لا تُجابه القوة إلا بالقوة، و كذا يُقال منذ عقود «ما أخذ بالقوة لا يسترجع إلا بالقوة».
رويت هذه الحكمة بردّ الحجر في نهج البلاغة في باب الحكم برقم 314، و في غرر الحكم ذكرها ضمن عدد من النكات الحربية و بصيغة المفرد، «رُدَّ اَلْحَجَرَ مِنْ حَيْثُ جَاءَكَ فَإِنَّهُ لاَ يُرَدُّ اَلشَّرُّ إِلاَّ بِالشَّرِّ»، و في تمام نهج البلاغة ضمن وصايا و تعاليم لأمير المؤمنين عليه السلام من وصية له عليه السلام لأصحابه علمهم فيها آداب الدين والدنيا.
و لابد لحكومة الحق و العدل أن تكون لها قوانين لردع و زجر الظالمين و إرجاع حقوق المظلومين بأسس قضائية عادلة، لا تكون فيها لأصحاب النفوذ و الثراء في الأحكام أولوية، و لا للمترفين فيها أفضلية، و لا تجّير الأحكام لهم، و لا يُضطهد فيها المستضعفون و المحرومون، و لا يشعر الإنسان العادي بأنّه مقهور مظلوم و مغلوب على أمره، و يقوم المجتمع على أسس الحق و العدل و المساواة، و يأمن الإنسان فيه على نفسه من الاستبداد و الطغيان و الظلم.
و ينبغي للمجتمع ابتداء ألا يعطي الطغاة و الأشرار فرصة للتقدم نحو إدارات الدولة و مرافقها الحيوية بردعهم عن كل سوء و ظلم من البداية لأنّهم ما أن يجدوا فجوة و ثغرة تمكنهم من الاستيلاء على السلطة فلن يتأخروا و سيقومون باستغلالها و ينقضون عليها و يتحكمون في دوائرها و يديرون مواردها بكل ظلم و جور و حيف حتى تصل النوبة إلى الاستبداد، و يُضطهد النّاس أشد الاضطهاد، ثم يدعون فلا يُستجاب لهم، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام «لَا تَتْرُكُوا الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَ النَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ فَيُوَلَّى عَلَيْكُمْ شِرَارُكُمْ ثُمَّ تَدْعُونَ فَلَا يُسْتَجَابُ لَكُمْ». نهج البلاغة، وصية 47.
و ما ينطبق على الأفراد و المجتمعات ينطبق على المؤسسات الدولية و منظماتها فهي شريكة في الجرائم و الظلامات في العالم بعجزها و تقصيرها، و هي من تكيل بمكاييل متعددة لا عدل فيها، و ما كان الأمر يصل إلى هذه الحالة و الانتكاسة في المنظمات الدولية إلا بضعف و فشل في الردع و المنع ابتداء.
و التوسع في معنى الحكمة يعني ضرورة أن تكون لدى البلدان قوة ردع كافية لصد الأعداء و الأشرار و أنّ ردّ الحجر هو أفضل علاج لصد الحجر، و بالقوة تعالج القوة، و عند تحقق قوة رادعة للبلد ستكون مانعة للآخرين من التعديات و مطلق الانتهاكات، قال تعالى «وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ». البقرة:19.
أمّا في حالة الضعف و فقدان القوة الرادعة و عدم الاستطاعة لردّ الحجر فإنّ الظلم عليها سيزيد و بأشكال متعددة مما تعلم أو تجهل، و سيتجرأ بل سيتفنّن الظالمون بأنواع التعديات و الانتهاكات عليها.
و المعنى العام عقلي يرشد إليه العقل بردّ الظلم و الشر على أصحابه و ردّ الظالمين و الأشرار، وهو نوع دفاع عن النّفس، و لذلك تتفق فيه المجتمعات على اختلاف مشاربها و جغرافيتها، و هو مطلق على كل المستويات فردية و جماعية، و دولية.
و هو كذلك شرعي دلت عليه روايات أخرى و منها ما رُوي عن الإمام الباقر عليه السلام، قَالَ «قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: مَنْ قُتِلَ دُونَ مَظْلِمَتِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، ثُمَّ قَالَ يَا أَبَا مَرْيَمَ هَلْ تَدْرِي مَا دُونَ مَظْلِمَتِهِ؟ قُلْتُ جُعِلْتُ فِدَاكَ اَلرَّجُلُ يُقْتَلُ دُونَ أَهْلِهِ وَ دُونَ مَالِهِ وَ أَشْبَاهِ ذَلِكَ، فَقَالَ يَا أَبَا مَرْيَمَ إِنَّ مِنَ اَلْفِقْهِ عِرْفَانَ اَلْحَقِّ». الكافي،ج5ص52.
و من روايات كربلاء قول الإمام الحسين عليه السلام:
«أَ لاَ تَرَوْنَ إِلَى اَلْحَقِّ لاَ يُعْمَلُ بِهِ، وَ إِلَى اَلْبَاطِلِ لاَ يُتَنَاهَى عَنْهُ، لِيَرْغَبِ اَلْمُؤْمِنُ فِي لِقَاءِ رَبِّهِ مُحِقّاً فَإِنِّي لاَ أَرَى اَلْمَوْتَ إِلاَّ سَعَادَةً وَ اَلْحَيَاةَ مَعَ اَلظَّالِمِينَ إِلاَّ بَرَماً». اللهوف،ص66