التعليم و التأديب يبدأ بالنفس
محمد جواد الدمستاني
قال أمير المؤمنين عليه السلام:
مَنْ نَصَبَ نَفْسَهُ لِلنَّاسِ إِمَاماً فَلْيَبْدَأْ بِتَعْلِيمِ نَفْسِهِ قَبْلَ تَعْلِيمِ غَيْرِهِ
وَ لْيَكُنْ تَأْدِيبُهُ بِسِيرَتِهِ قَبْلَ تَأْدِيبِهِ بِلِسَانِهِ
وَ مُعَلِّمُ نَفْسِهِ وَ مُؤَدِّبُهَا أَحَقُّ بِالْإِجْلَالِ مِنْ مُعَلِّمِ النَّاسِ وَ مُؤَدِّبِهِمْ.
نهج البلاغة – حكمة 73
الحكمة موجّهه نحو مواقع الرئاسة في المجتمع و المواقع التربوية و القيادية السياسية و الدينية و الاجتماعية و العسكرية و غيرها، فإنّ الكلام جاري فيها كلها بضرورة أن يكون القائد و رأس الهرم في تلك المؤسسات و المجتمعات يمثل قدوة و أسوة لكل النّاس من تحته و كل الأمة.
و الكلام فيمن نصب نفسه، أما من نصبه الله من الأنبياء و الأوصياء فقد هيأ لهم و أدبهم بقدرته و طهرهم تطهيرا، فهذا منصب إلهي له رجاله.
و تتضمن الحكمة ثلاث توصيات، و هي:
الأولى: «مَنْ نَصَبَ نَفْسَهُ لِلنَّاسِ إِمَاماً فَلْيَبْدَأْ بِتَعْلِيمِ نَفْسِهِ قَبْلَ تَعْلِيمِ غَيْرِهِ».
يجب على المعلم و القائد أن يبدأ بنفسه فيؤدبها قبل تأديب الآخرين، و لا يستطيع تأديب الآخرين دون تأديب نفسه، و لا يكون مؤهلا لتعليم الغير دون كفاءة علمية ذاتية، و فاقد الشيء لا يعطيه، و مؤدب النفس أبلغ أثرا و وقعا في النفوس، و النّاس تستقبح تعليم الفاسد لهم.
فيجب ترويض النفس لتكون في أفضل الصفات و أتم الفضائل و ليرى النّاس و الأمة أنّ صاحبها نموذجا يُقتدى و أسوة تُتبع، و هذا يحتاج إلى جدّ و اجتهاد، و سعي حثيث لأن يكون صالحا و محافظا على الفضائل، و يتخلص من النواقص إن وجدت، و يسير نحو الكمال حتى يصل إلى مرتبة الأسوة و القدوة.
و من القبيح أن يقوم الإنسان بتعليم غيره و يهمل تعليم نفسه و يغفل عنها، و لا يطبق تعاليمه للنّاس على نفسه، و في القرآن الكريم توعد لمن لا تتطابق أفعالهم مع أقوالهم، قال تعالى:«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ»، سورة الصف:2-3، فمن الضروري و الواجب أن يكون المعلم و القائد و الداعي متطابقا في أفعاله و أقواله. قال تعالى: «أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ»، سورة البقرة : 44 .
و لا يصلح للقائد أو المعلم أو الموجّه و من هو في موقع النصيحة و الإرشاد أن يعلّم النّاس و يرشدهم بلسانه و أقواله، دون تطبيق في أفعاله، فإن فعل ذلك و رآه النّاس يقول شيئا و يفعل ما يخالفه أو نقيضه فسيكون مثالا عكسيا و نموذجا سلبيا لتعاليمه.
و في حكمة أخرى لأمير المؤمنين (ع) ذكر فيها صفات الإنسان الكامل و منها تطابق فعله مع قوله، قال عليه السلام: «كَانَ لِي فِيمَا مَضَى أَخٌ فِي اللَّهِ،..، وَ كَانَ يَقُولُ مَا يَفْعَلُ وَ لَا يَقُولُ مَا لَا يَفْعَلُ»، نهج البلاغة، حكمة 289، فمن الصفات الأساسية للمؤمن الصادق هو تطابق و توافق بين أفعاله و أقواله، فإذا لم يكن توافق بل خلاف و تباين بين الأقوال و الأفعال، فإنّ الأمر يحتاج إلى مراجعة و بحث عن خلل في إيمانه ينبغي تصحيحه.
و أمير المؤمنين و هو الأسوة، يوضح و يؤكد على التطابق و اسبقية الأفعال على الأقوال، قال عليه السلام «أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي وَ اللَّهِ مَا أَحُثُّكُمْ عَلَى طَاعَةٍ إِلَّا وَ أَسْبِقُكُمْ إِلَيْهَا، وَ لَا أَنْهَاكُمْ عَنْ مَعْصِيَةٍ إِلَّا وَ أَتَنَاهَى قَبْلَكُمْ عَنْهَا»، نهج البلاغة، خطبة 175.
و قال عليه السلام «وَ انْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَ تَنَاهَوْا عَنْهُ ، فَإِنَّمَا أُمِرْتُمْ بِالنَّهْيِ بَعْدَ التَّنَاهِي»، نهج البلاغة، خطبة 105.
و في مجموعة ورّام، «قِيلَ أَوْحَى اَللَّهُ تَعَالَى إِلَى بَعْضِ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ عِظْ نَفْسَكَ فَإِنِ اِتَّعَظْتَ فَعِظِ اَلنَّاسَ وَ إِلاَّ فَاسْتَحْيِ مِنِّي»، مجموعة ورّام، ص239. و في كنز العمال «أوحى الله إلى عيسى ابن مريم: عظ نفسك بحكمتي، فان انتفعت فعظ الناس، وإلا فاستحي منه»، كنز العمال، ج١٥، ص٧٩٥، ميزان الحكمة،ج4ص3601.
و في الشعر العربي:
يأيها الرجلُ المعلّمُ غيرَه هلاّ لنفسك كان ذا التعليمُ
ابدأ بنفســــــــــــــك فانهَها عن غَيِّها فإذا انتهــــــــت عنـه فأنتَ حكيمُ
لا تنه عن خُلُقٍ وتــــــــــــــأتي مثله عارٌ عليكَ إذا فـــــــعلتَ عظيمُ
الثانية : «وَ لْيَكُنْ تَأْدِيبُهُ بِسِيرَتِهِ قَبْلَ تَأْدِيبِهِ بِلِسَانِهِ».
يبدأ بتعليم الأمة بسيرته و في كل شؤون حياته، و كل أفعاله و أعماله، فهذا تعليم عملي، و لتكن أقواله موافقة لأفعاله، و أفعاله موافقة لعلمه، لأن الناس أقرب إلى الاقتداء بما يشاهدون من الأفعال و الأحوال منهم بالأقوال فقط، ذلك أنّ الأفعال أقوى و أكثر تأثيرا، و النّاس أكثر تفاعلا و انفعالا في الأعمال من الأقوال و الكلام و النصائح، و هكذا المشاهد التمثيلية من مسلسلات أو أفلام أقوى من النصيحة الكلامية لعامة النّاس غالبا.
الثالثة: «وَ مُعَلِّمُ نَفْسِهِ وَ مُؤَدِّبُهَا أَحَقُّ بِالْإِجْلَالِ مِنْ مُعَلِّمِ النَّاسِ وَ مُؤَدِّبِهِمْ».
حق النفس في تأديبها أحق من تأديب غيرها، فهذه مسؤولية القائد أو المعلم مباشرة و هي أقرب من تأديب و تعليم الآخرين، و هو أحق بالإجلال و التعظيم من مؤدب غيره دون نفسه، و أعظم منه من علّم نفسه و علّم النّاس و لم يكتف بتعليم نفسه، أما معلم النّاس و الناسي لنفسه و الغافل عنها فهذا قبيح فعله.
و هو عليه السلام مثال و مصداق لهذا الكلام و هو مثال الأسوة فقد كتب إلى واليه بالبصرة عثمان بن حنيف الأنصاري «أَلَا وَ إِنَّ لِكُلِّ مَأْمُومٍ إِمَاماً يَقْتَدِي بِهِ وَ يَسْتَضِيءُ بِنُورِ عِلْمِهِ، أَلَا وَ إِنَّ إِمَامَكُمْ قَدِ اكْتَفَى مِنْ دُنْيَاهُ بِطِمْرَيْهِ وَ مِنْ طُعْمِهِ بِقُرْصَيْهِ، أَلَا وَ إِنَّكُمْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ وَ لَكِنْ أَعِينُونِي بِوَرَعٍ وَ اجْتِهَادٍ وَ عِفَّةٍ وَ سَدَادٍ»، نهج البلاغة، كتاب 45
و ليس الإمام و القائد كغيره في ملبسه و مشربه و مسكنه و بقية شؤون حياته، و الفارق بينهما في كونه موضع الأسوة و القدوة، و كان الإمام عليه السلام يوصي غيره بالاعتدال و يعمل بمستوى ضعفة النّاس كما قال عليه السلام لمن تساءل عن وضعه عليه السلام في زهده و بساطة عيشه و انصرافه عن الرفاه و التنعّم، حيث قال عاصم بن زياد «يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَذَا أَنْتَ فِي خُشُونَةِ مَلْبَسِكَ وَ جُشُوبَةِ مَأْكَلِكَ»، قال عليه السلام: «وَيْحَكَ إِنِّي لَسْتُ كَأَنْتَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَى أَئِمَّةِ الْعَدْلِ أَنْ يُقَدِّرُوا أَنْفُسَهُمْ بِضَعَفَةِ النَّاسِ كَيْلَا يَتَبَيَّغَ بِالْفَقِيرِ فَقْرُهُ»، نهج البلاغة، خطبة 209.
و هذه من الأمور الحياتية المهمة على مستوى الأمم و الشعوب بمختلف مواقعها و بيئاتها في ضرورة أن يعيش القائد كأضعف النّاس حيث يتأسون به و يقتدون، فإن لم يستطع فليعش بمستوى متوسط حال النّاس أو ما بعبر عنه بالطبقة الوسطى و لها آثار اجتماعية و سياسية كبيرة على الأمم.
و في الكافي روى عنه عليه السلام «إِنَّ اَللَّهَ جَعَلَنِي إِمَاماً لِخَلْقِهِ، فَفَرَضَ عَلَيَّ اَلتَّقْدِيرَ فِي نَفْسِي وَ مَطْعَمِي وَ مَشْرَبِي وَ مَلْبَسِي كَضُعَفَاءِ اَلنَّاسِ، كَيْ يَقْتَدِيَ اَلْفَقِيرُ بِفَقْرِي، وَ لاَ يُطْغِيَ اَلْغَنِيَّ غِنَاهُ»، الکافي، ج1، ص410.
و الحكمة دعوة إلى أنّ من يتصدر القيادة و الزعامة يجب أن يكون من أصحاب الصفات النبيلة و الفضائل، و منها ترويض النفس بالطاعات و التزام التقوى، ثم تعليمها للغير، و أن يكون مؤدبا بسيرته في مختلف شؤون حياته و نموذجا نقيا، و على النّاس رفض من لا يملك المؤهلات من ذوي الشهرات الإعلامية أو الاجتماعية أو السياسية دون مؤهلات أخلاقية و دينية و إنسانية، و رفض قبولهم تصدر المشهد السياسي أو الاجتماعي و المواقع القيادية و الأمامية، و أنّ من يستحق الإجلال و التعظيم هو من يتصف بصفات التقوى و النبل و قبول الحق و رفض الباطل و يعلمها غيره.
و في دعاء مكارم الأخلاق: «اللَّهُمَّ وَأَنْطِقْنِي بِالْهُدَى، وَ أَلْهِمْنِي التَّقْوَى، وَ وَفِّقْنِي لِلَّتِي هِيَ أَزْكَى، وَ اسْتَعْمِلْنِي بِمَا هُوَ أَرْضَى، اللَّهُمَّ اسْلُكْ بِيَ الطَّرِيقَةَ الْمُثْلَى، وَ اجْعَلْنِي عَلَى مِلَّتِكَ أَمُوتُ وَأَحْيَا»، و الحمد لله ربّ العالمين، و صلّ اللهم على محمد و آله الطاهرين.