آلة الرئاسة و أدواتها
«آلة الرئاسة سعة الصدر»
محمد جواد الدمستاني
إنّ سعة الصدر و رحابته و التعامل بالحلم و الصبر و العفو و التحمّل و التجلّد و سعة الأخلاق هي أداوات و آلات ضرورية للرئاسة و الحكم و السياسة، و عند فقدان هذه الأدوات تُفقد القدرة على الرئاسة، و قد روي عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله: «آلَةُ الرِّيَاسَةِ سَعَةُ الصَّدْرِ»[1].
و «سَعَة الصَّدر» بمعنى التّسامح و الحلم، و القدرة على التحمّل و عدم ردة الفعل المتسرعة، أو الانفعال الخاطئ، و روي عنه (ع) قريب من هذا المعنى قوله: «الْحِلْمُ رَأْسُ الرِّئَاسَةِ»[2].
و الرئاسة أو الرياسة بمعنى موقع المسؤولية الأولى عامة في دولة أو قبيلة أو عشيرة أو أسرة أو منظمة أو مؤسسة أو مصنع أو شركة أو جامعة أو مركز ديني أو طبي أو غير ذلك.
و المعنى هو أنّه حتى ينجح هذا المسؤول أو الرئيس في رئاسته و الحاكم في حكومته لابد أن تكون له آلة يتوصل بها إلى النجاح، و هذه الآلة هي «سعة الصدر» مع مرؤوسيه.
فسعة الصدر من أهم الصفات التي يحتاجها الرؤساء في رئاستهم، مطلق الرؤساء بما فيهم النموذج المصغر وهو رئيس أو ربّ الأسرة، أما المصداق الأوسع موضوعا فهو رئاسة البلدان والدول فإن الرئيس ترد عليه أحداث كبيرة من أحوال النّاس و مشاكلهم و خصوماتهم و منازعاتاهم، و الفتن و الابتلاءات و الأزمات، و الحروب و النزاعات و الصراعات التي تحتاج إلى تجلّد و سعة صدر، إضافة إلى أنّ الرئاسة نفسها موضوع للتنافس و التعارض و أحيانا من أقرب الناس إليه من حليف أو خليف فهم أيضا قد يتآمرون عليه و ينازعونه، فالرئيس يواجه قضايا و مشاكل كثيرة تحتاج منه إلى التحمّل و التصبّر و التجلّد و الرحابة.
و من لم يكن عنده «صدر رحب» و حلم، و ليس لديه قدرة على التحمّل، و لا يملك هذه الأداة فإنه يفشل و لا يستطيع الاستمرار في الرئاسة لأنّه يواجه أنماط من النّاس متعددة الأمزجة و السلوك منهم المسيء و الناقد و المتبرم و الجاحد و الطامح و الطاغي و الناقم و المظلوم، و لأنّ خلاف السعة هو الضيق و الانفعال و التسرع الذي يُفقد به العدل و القرارات السليمة، و النّاس ترغب و تحبّ من يتعامل معهم بالرحب و السعة و الحلم و لا يحبون من لا يتحملهم و يضيق عليهم و يظلمهم، و نهاية يكون وضعه مزريا مؤسفا و يخيب و تفسد دولته و تنتهي رئاسته.
و ينبغي على من هو في موقع المسؤولية من الرؤساء أن يدرك هذه الحقيقة و أن يتميّز بهذه الصفة فيكون واسع الصدر، حليما و متسامحا مع شعبه، يحكم بالعدل و الإنصاف، و يستوعب أبناء أمته مع اختلاف مشاربهم و تعدد آرائهم، لا أن يكون عكس ذلك أو يتحول إلى وحش يمسك سيف السلطة و يضرب به المعترضين على سياسته أو المختلفين معه في الرأي.
و بعض الرؤساء أو الحكام يتوهم بأنّ إطالة الحكم يتم عبر القهر و القمع و القتل و القوة، و إخضاع الشعب و إذلاله، و بالاعتقالات و السجون و التعذيب و الانتهاكات، و بالاستئثار و الاستبداد، و هذا اشتباه فادح و خطأ باهظ و وهم كبير، فإنّ ذلك في الحقيقة هو العكس تماما لأنّه يقصّر من مدد حكمهم، و يؤدي إلى سرعة هلاكهم، بل هذا التفكير بحد ذاته هو مصيبة و كارثة و يعني أنّ الحاكم لا يفقه الحاضر و لا الماضي و لا يقرأ التاريخ و لا يعتبر بدروسه فهو جاهل أحمق، و قد رأى من كان قبله من الحكام و الرؤساء و الزعماء من ذاق مرارة ظلمه بأشد العذاب و التنكيل، و «إِنَّ لَكُمْ فِي الْقُرُونِ السَّالِفَةِ لَعِبْرَة،ً أَيْنَ الْعَمَالِقَةُ وَ أَبْنَاءُ الْعَمَالِقَةِ، أَيْنَ الْفَرَاعِنَةُ وَ أَبْنَاءُ الْفَرَاعِنَةِ، أَيْنَ أَصْحَابُ مَدَائِنِ الرَّسِّ الَّذِينَ قَتَلُوا النَّبِيِّينَ وَ أَطْفَئُوا سُنَنَ الْمُرْسَلِينَ وَ أَحْيَوْا سُنَنَ الْجَبَّارِينَ، أَيْنَ الَّذِينَ سَارُوا بِالْجُيُوشِ وَ هَزَمُوا بِالْأُلُوفِ وَ عَسْكَرُوا الْعَسَاكِرَ وَ مَدَّنُوا الْمَدَائِنَ»[3].
إنّ الذي يطيل عمر الرئاسة هو العدل و الحق و الإنصاف و إعطاء الحقوق، و حسن التدبير و السياسة العادلة، و في الطغاة في كل العصور عبرة، و روي عنه (ع) في هذا المقام قوله: «مَنْ حَسُنَتْ سِيَاسَتُهُ دَامَتْ رِيَاسَتُهُ»[4]، و «حُسْنُ السِّيَاسَةِ يَسْتَدِيمُ الرِّيَاسَةَ»[5]، و «مَنْ قَصُرَ (قصّر) عَنِ السِّيَاسَةِ صَغُرَ عَنِ الرِّيَاسَةِ»[6].
و اشتباه آخر يقع فيه بعض الرؤساء و الحكام و هو ظنهم و توهمهم أنّ الحاكم أو الرئيس حينما يتلحف خلف قوى كبيرة تحميه و تبطش بمخالفيه ستكون كافية لديمومة حكمه، بينما كل القوى الداخلية أو الخارجية ممكن أن تختفي بين عشية و ضحاها، و يجعلها الله هباء منثورا، فلا تبقى إلا قوة الشعب.
لابد لهذه الفئة من الحكام أن يفهموا أنّ الرئاسة ليست بالعنف و القهر و القوة التي هي في مهبّ الزوال في أي لحظة، بل بالقدرة على تحمّل النّاس و مراعاتهم و العدل معهم، و تحمّل ملاحظاتهم و انتقاداتهم، و الاستماع إليهم و إعطائهم حقوقهم، و حسن التدبير في شؤون حياتهم، فمن لم يكن عنده شيء من هذا فستضيق عليه الرئاسة، و خير له أن يبتعد عنها من أن تبعده بقوة و إذلال.
لكن سعة الصدر ليست هي الآلة الوحيدة في الرئاسة بل احداها و من أقواها فإنّ الرئاسة في الدول و الأقاليم تحتاج إلى علم و معرفة لفهم مجمل القضايا و تلك المتعلقة بالحكم و الإدارة، و حسن التدبير بالإجراءات و الترتيبات، و الحنكة السياسية و الحكمة و القدرة على اتخاذ القرارات المناسبة، و العدل و الإنصاف بين النّاس و هو أحد أسس الحكم و محبة النّاس «مِلَاكُ السِّيَاسَةِ الْعَدْلُ»[7]، و الحزم و الحسم في المواقف المهمة و الصعبة، كما يحتاج إلى اللطف و المحبة و الرحمة «وَ أَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ وَ الْمَحَبَّةَ لَهُمْ وَ اللُّطْفَ بِهِمْ وَ لَا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ»[8]، و «نِعْمَ السِّيَاسَةُ الرِّفْقُ»[9]، كما يحتاج إلى حسن التخاطب و التواصل، و الشجاعة و الجود «زَيْنُ الرِّيَاسَةِ الْإِفْضَالُ»[10]، و «مَنْ بَذَلَ مَعْرُوفهُ اسْتَحَقَّ الرِّئاسَةَ»[11]، و حسن التخطيط للحاضر و المستقبل، و التواضع و المرونة مع النّاس، و النزاهة و الأمانة، و المشورة إلى غير ذلك من أدوات الرئاسة و الإدارة.
-
– نهج البلاغة، حكمة 176 ↑
-
– غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد الآمدى التميمي، ص ٤٦، عيون الحكم والمواعظ، علي بن محمد الليثي الواسطي، ص ٢٤ ↑
-
– نهج البلاغة، خطبة 182 ↑
-
– غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد الآمدى التميمي، ص ٦١٦ ↑
-
– غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد الآمدى التميمي، ص ٣٤٤ ↑
-
– غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد الآمدى التميمي، ص ٦٢١، عيون الحكم والمواعظ، علي بن محمد الليثي الواسطي، ص ٤٥٠ ↑
-
– تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد الآمدى التميمي، ص ٣٣٣ ↑
-
– نهج البلاغة، كتاب 53 ↑
-
– تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد الآمدى التميمي، ص ٣٣٣ ↑
-
– غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد الآمدى التميمي، ص ٣٩١، عيون الحكم والمواعظ، علي بن محمد الليثي الواسطي، ص ٢٧٦ ↑
-
– غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد الآمدى التميمي، ص ٥٩١، عيون الحكم والمواعظ، علي بن محمد الليثي الواسطي، ص ٤٣١ ↑