ترك الذنب أهون من طلب التوبة
ترك الذنب أهون من طلب المعونة
محمد جواد الدمستاني
في الحذر من ارتكاب الذنب ابتداء فهو خير من تحمّل تبعاته لاحقا، و مراقبة و محاسبة النفس يروى عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله «تَرْكُ الذَّنْبِ أَهْوَنُ مِنْ طَلَبِ التَّوْبَةِ»[1]، و ذُكر في نسخ «تَرْكُ الذَّنْبِ أَهْوَنُ مِنْ طَلَبِ الْمَعُونَةِ»[2]، و التوبة بمقابلة الذنب أنسب، و لما روي عنه (ع) في قوله: «تَرْكُ الْخَطِيئَةِ أَيْسَرُ مِنْ طَلَبِ التَّوْبَةِ، و كَمْ مِنْ شَهْوَةِ سَاعَةٍ أَوْرَثَتْ حُزْناً طَوِيلاً»[3]، و للسياق كما في تمام نهج البلاغة ففيه «وَإِنْ قَارَفْتَ سَيِّئَةً فَعَاجِلْ مَحْوَهَا بِالتَّوْبَةِ، [ وَ ] تَرْكُ الذَّنْبِ أَهْوَنُ مِنْ طَلَبِ التَّوْبَةِ»[4]، و كذلك رواها الرضي في خصائص الأئمة (ع)[5].
هذا الكلام يجري مجرى المثل، و يضرب لمن بدأ في أمر يخاطر أو يغامر فيه، و يرجو التخلص منه فيما بعد بطريقة ما.
و ترك الخطأ و عدم ارتكاب الذنب و المعصية و الإثم ابتداء أهون و أيسر و أسهل على الإنسان من ارتكاب الذنب ثم طلب التوبة أو المعونة لاحقا، فالحكمة تحذير من الذنوب مطلقا صغائرها و كبائرها، و نهي عن ارتكابها ابتداء، و التوبة إن وقع الذنب و هي أصعب و أعسر من ترك الذنب.
و المعنى العام هو السعي لعدم ارتكاب الأخطاء مطلقا بأنواعها، و معها فلابد من تصحيحها و الآثار التي خلّفتها و هو أمر أصعب من الأخطاء نفسها للجهود الإضافية و التبعات و الآثار و لكن لابد منه.
في طلب التوبة -«تَرْكُ الذَّنْبِ أَهْوَنُ مِنْ طَلَبِ التَّوْبَةِ»-، سواء صدر الذنب في حق من حقوق الله أو حق من حقوق النّاس، فإنّ التائب يحتاج إلى جُهد إضافي للتوبة، و مشقة إضافية، فيحتاج إلى طلب العفو، و فيها ذُل للنفس في كثير من الحالات مع النّاس و خضوع، و قد يحصل له اختلال في الوضع النفسي فالنفس أو الحالة النفسية للإنسان قبل الذنب أكثر صفاء و نقاء منها بعد الذنب، و لأنّ الذنب الواحد قد يجر إلى ذنوب متعددة و الشيطان يزّين للإنسان المعصية، و قد يعجز الإنسان عن التوبة لضعف أو مرض أو كبر، أو عجز بسبب تعلّق قلبه بالذنب، أو لقلة إرادته فالذنب قد يضعفها و يجعله أسيرا لعادته إن اعتاد عليه، أو لكبرياء يمنعه منها أو أنفة، أو حياء و خجل، أو لغفلة، أو لعدم قدرة لاحقا أو لموت قبل التوبة، فالتوبة غير مقدورة و مضمونة دائما خاصة في حقوق الآدميين، و ترك الذنب أهون من ذلك كله.
و التوبة قد لا تحصل و قد لا توجد، و إذا حصلت فلها شروطها التي قد لا تتحقق و منها الندم على الذنب، و العزم على عدم التكرار، و تأدية الحقوق إلى أصحابها، و تأدية الفرائض التي ضيّعها، و الحزن و محو آثار الذنب، و إذاقة الجسم حلاوة الإيمان، كما ذكر أمير المؤمنين (ع) في حكمة أخرى لقائل قال بحضرته أستغفر الله[6].
و يروى عن الإمام الصادق (ع) قصة ذَكَرَ فيها العابد من بني اسرائيل و المرأة و فيها قالت المرأة: «يَا عَبْدَ اللَّه إِنَّ تَرْكَ الذَّنْبِ أَهْوَنُ مِنْ طَلَبِ التَّوْبَةِ، ولَيْسَ كُلُّ مَنْ طَلَبَ التَّوْبَةَ وَجَدَهَا»[7]، فالتوبة مفتوحة لعباد الله و هي باب للنجاة من المهالك و لكن خير منها عدم الحاجة إليها و عدم الوقوع في مسبباتها.
و في طلب المعونة -«تَرْكَ الذَّنْبِ أَهْوَنُ مِنْ طَلَبِ الْمَعُونَةِ»-، المعونة و العون و المساعدة ليست من صاحب الذنب، بل يطلبها صاحب الذنب من الآخرين لعلاج ذنبه و زلته، و فيها نوع من الإحراج و ثقل الاعتراف بالخطأ و المشقة و العناء، و قد يمنعه الكبر أو الخجل أو الضعف أو العجز، و يكون هذا أثقل و أصعب على النفس من الخطأ نفسه، و الإنسان في غنى عن هذا كله بعدم ارتكاب الذنب، بينما ترك الذنب ابتداء من صاحبه و بيده و هو قادر على الترك ابتداء.
و كمثال من يقوم بجريمة فيدخل بسببها السجن، ثم يحاول جاهدا الاستعانة بالآخرين لإخراجه منه بجهود كبيرة و مشقات و أموال و احراجات هو في غنى عنها بتجنب الوقوع في الجريمة ابتداء.
و قريب من هذه الحكمة المثل المشهور «الوقاية خير من العلاج» أي تجنب الأمراض خير من الإصابة بها و آثارها و المعاناة من أعراضها و علاجاتها لاحقا، فإنّ الجسم مع الوقاية و دون المرض أفضل صحة و عافية و صفاء، و ليس ذلك بعد المرض ففيه آلام و أوجاع المرض، و آثاره و بقاياه، و تغير الوضع النفسي للمريض بعده لاحتمال أن يكون في حالة مضطربة نفسيا و غير مستقرة، ثم أنّه يحتاج إلى علاج و بحث عن العلاج المناسب، و مقدمات العلاج و تطبيب و طبيب و مستشقى أو مستشفيات، و تكلفة العلاج إن وجد، و أنّه قد لا يوفق للعلاج و يستمر معه المرض و قد يقضي عليه فـــ «الوقاية خير من العلاج»، و يقال أيضا «درهم وقاية خير من قنطار علاج».
و المعنى هو المعنى العام و هو منع الأخطاء و الذنوب و المشاكل من أمراض و غيرها قبل حدوثها أفضل و أسهل و أيسر من التعامل معها بعد وقوعها، و التطبيقات على هذه الحكم و الأمثال لا حصر لها، و كأمثلة:
فإنّ التلقيحات و التطعيمات الصحية هي أيسر و أفضل من الإصابة بالأمراض الخطيرة و المعدية.
و الحذر من السرعة في سياقة السيارات و تلافي الحوادث أهون و أيسر مما تخلّفه الحوادث من أضرار و تصليحات و تطبيبات و حالات وفاة.
و بناء السدود أيسر و أسهل من طغيان المياه على الأحياء و خرابها و ما تخلفه من خسائر في الأرواح و تدمير في الممتلكات، و إتلاف في البنية التحتية، و انتشار للأمراض.
و عدم تدخين السكاير أيسر و أهون من الابتلاء بأمراض الرئة و السرطانات.
و الحذر من السقوط من الأماكن المرتفعة أو العالية من الجبال و المباني أيسر من تطبيب الجروح و الكسور و الإصابات.
فالحذر و الوقاية أيسر و أهون مما يسببه عدمها مع تقليل الإصابات و المخاطر، و توفير الجهد و الوقت، و للراحة النفسية و الاطمئنان دون الذنب و الخطأ و المرض.
و من روايات أهل البيت (ع) إنّ المسيح (ع) قال للحواريين: «إنَّ مَن لَيس علَيه ِدَيْنٌ مِن النّاسِ أروَحُ و أقَلُّ هَمّاً مِمَّن علَيهِ الدَّينُ و إنْ أحسَنَ القَضاءَ، و كذلكَ مَن لَم يَعمَلِ الخَطيئةَ أرْوَحُ هَمّاً مِمَّن عَمِلَ الخَطيئَةَ و إنْ أخْلصَ التّوبَةَ وأنابَ»[8].
-
– نهج البلاغة، حكمة 170، غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد الآمدى التميمي، ص ١٨٦ (أَفْضَلُ مِنْ طَلَبِ التَّوْبَةِ تَرْكُ الذَّنْبِ). ↑
-
– نهج البلاغة، حكمة 170 ↑
-
– الكافي، الشيخ الكليني، ج ٢، ص ٤٥١ (قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (ع) تَرْكُ الْخَطِيئَةِ أَيْسَرُ مِنْ طَلَبِ التَّوْبَةِ، وكَمْ مِنْ شَهْوَةِ سَاعَةٍ أَوْرَثَتْ حُزْناً طَوِيلاً، والْمَوْتُ فَضَحَ الدُّنْيَا فَلَمْ يَتْرُكْ لِذِي لُبٍّ فَرَحاً) ↑
-
– تمام نهج البلاغة، السيد صادق الموسوي، ص ٩٧٣ ↑
-
– خصائص الأئمة، الشريف الرضي، ص ١١٠ (تَرْكُ الذَّنْبِ أَهْوَنُ مِنْ طَلَبِ التَّوْبَةِ). ↑
-
– نهج البلاغة، حكمة 417 (وَ قَالَ (عليه السلام): لِقَائِلٍ قَالَ بِحَضْرَتِهِ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، أَ تَدْرِي مَا الِاسْتِغْفَارُ، الِاسْتِغْفَارُ دَرَجَةُ الْعِلِّيِّينَ، وَ هُوَ اسْمٌ وَاقِعٌ عَلَى سِتَّةِ مَعَانٍ، أَوَّلُهَا النَّدَمُ عَلَى مَا مَضَى، وَ الثَّانِي الْعَزْمُ عَلَى تَرْكِ الْعَوْدِ إِلَيْهِ أَبَداً، وَ الثَّالِثُ أَنْ تُؤَدِّيَ إِلَى الْمَخْلُوقِينَ حُقُوقَهُمْ حَتَّى تَلْقَى اللَّهَ أَمْلَسَ لَيْسَ عَلَيْكَ تَبِعَةٌ، وَ الرَّابِعُ أَنْ تَعْمِدَ إِلَى كُلِّ فَرِيضَةٍ عَلَيْكَ ضَيَّعْتَهَا فَتُؤَدِّيَ حَقَّهَا، وَ الْخَامِسُ أَنْ تَعْمِدَ إِلَى اللَّحْمِ الَّذِي نَبَتَ عَلَى السُّحْتِ فَتُذِيبَهُ بِالْأَحْزَانِ حَتَّى تُلْصِقَ الْجِلْدَ بِالْعَظْمِ وَ يَنْشَأَ بَيْنَهُمَا لَحْمٌ جَدِيدٌ ، وَ السَّادِسُ أَنْ تُذِيقَ الْجِسْمَ أَلَمَ الطَّاعَةِ كَمَا أَذَقْتَهُ حَلَاوَةَ الْمَعْصِيَةِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ تَقُولُ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ). ↑
-
– الكافي، الشيخ الكليني، ج8، ص385 (عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ كَانَ عَابِدٌ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمْ يُقَارِفْ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا شَيْئاً، فَنَخَرَ إِبْلِيسُ نَخْرَةً فَاجْتَمَعَ إِلَيْه جُنُودُه فَقَالَ مَنْ لِي بِفُلَانٍ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ أَنَا لَه فَقَالَ مِنْ أَيْنَ تَأْتِيه؟ فَقَالَ مِنْ نَاحِيَةِ النِّسَاءِ قَالَ لَسْتَ لَه لَمْ يُجَرِّبِ النِّسَاءَ، فَقَالَ لَه آخَرُ فَأَنَا لَه، فَقَالَ لَه مِنْ أَيْنَ تَأْتِيه؟ قَالَ مِنْ نَاحِيَةِ الشَّرَابِ و اللَّذَّاتِ قَالَ لَسْتَ لَه لَيْسَ هَذَا بِهَذَا، قَالَ آخَرُ فَأَنَا لَه، قَالَ مِنْ أَيْنَ تَأْتِيه؟ قَالَ مِنْ نَاحِيَةِ الْبِرِّ، قَالَ انْطَلِقْ فَأَنْتَ صَاحِبُه فَانْطَلَقَ إِلَى مَوْضِعِ الرَّجُلِ فَأَقَامَ حِذَاه يُصَلِّي قَالَ و كَانَ الرَّجُلُ يَنَامُ و الشَّيْطَانُ لَا يَنَامُ ويَسْتَرِيحُ و الشَّيْطَانُ لَا يَسْتَرِيحُ فَتَحَوَّلَ إِلَيْه الرَّجُلُ وقَدْ تَقَاصَرَتْ إِلَيْه نَفْسُه واسْتَصْغَرَ عَمَلَه فَقَالَ يَا عَبْدَ اللَّه بِأَيِّ شَيْءٍ قَوِيتَ عَلَى هَذِه الصَّلَاةِ فَلَمْ يُجِبْه، ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْه فَلَمْ يُجِبْه، ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْه، فَقَالَ يَا عَبْدَ اللَّه إِنِّي أَذْنَبْتُ ذَنْباً و أَنَا تَائِبٌ مِنْه فَإِذَا ذَكَرْتُ الذَّنْبَ قَوِيتُ عَلَى الصَّلَاةِ، قَالَ فَأَخْبِرْنِي بِذَنْبِكَ حَتَّى أَعْمَلَه و أَتُوبَ فَإِذَا فَعَلْتُه قَوِيتُ عَلَى الصَّلَاةِ، قَالَ ادْخُلِ الْمَدِينَةَ فَسَلْ عَنْ فُلَانَةَ الْبَغِيَّةِ فَأَعْطِهَا دِرْهَمَيْنِ و نَلْ مِنْهَا، قَالَ ومِنْ أَيْنَ لِي دِرْهَمَيْنِ مَا أَدْرِي مَا الدِّرْهَمَيْنِ فَتَنَاوَلَ الشَّيْطَانُ مِنْ تَحْتِ قَدَمِه دِرْهَمَيْنِ فَنَاوَلَه إِيَّاهُمَا فَقَامَ فَدَخَلَ الْمَدِينَةَ بِجَلَابِيبِه يَسْأَلُ عَنْ مَنْزِلِ فُلَانَةَ الْبَغِيَّةِ فَأَرْشَدَه النَّاسُ وظَنُّوا أَنَّه جَاءَ يَعِظُهَا فَأَرْشَدُوه فَجَاءَ إِلَيْهَا فَرَمَى إِلَيْهَا بِالدِّرْهَمَيْنِ و قَالَ قُومِي فَقَامَتْ فَدَخَلَتْ مَنْزِلَهَا و قَالَتِ ادْخُلْ، و قَالَتْ إِنَّكَ جِئْتَنِي فِي هَيْئَةٍ لَيْسَ يُؤْتَى مِثْلِي فِي مِثْلِهَا فَأَخْبِرْنِي بِخَبَرِكَ فَأَخْبَرَهَا، فَقَالَتْ لَه: يَا عَبْدَ اللَّه إِنَّ تَرْكَ الذَّنْبِ أَهْوَنُ مِنْ طَلَبِ التَّوْبَةِ ولَيْسَ كُلُّ مَنْ طَلَبَ التَّوْبَةَ وَجَدَهَا، وإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا شَيْطَاناً مُثِّلَ لَكَ فَانْصَرِفْ فَإِنَّكَ لَا تَرَى شَيْئاً فَانْصَرَفَ ومَاتَتْ مِنْ لَيْلَتِهَا، فَأَصْبَحَتْ فَإِذَا عَلَى بَابِهَا مَكْتُوبٌ احْضُرُوا فُلَانَةَ فَإِنَّهَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَارْتَابَ النَّاسُ فَمَكَثُوا ثَلَاثاً لَمْ يَدْفِنُوهَا ارْتِيَاباً فِي أَمْرِهَا فَأَوْحَى اللَّه عَزَّ وجَلَّ إِلَى نَبِيٍّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ لَا أَعْلَمُه إِلَّا مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ (ع) أَنِ ائْتِ فُلَانَةَ فَصَلِّ عَلَيْهَا و مُرِ النَّاسَ أَنْ يُصَلُّوا عَلَيْهَا فَإِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهَا وأَوْجَبْتُ لَهَا الْجَنَّةَ بِتَثْبِيطِهَا عَبْدِي فُلَاناً عَنْ مَعْصِيَتِي. ↑
-
– تحف العقول عن آل الرسول ( ص )، ابن شعبة الحراني، ص ٣٩٢، بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج1 ص ١٤٥، ج75 ص307 ↑