«النّاس أعداء ما جهلوا»
العلم و المعرفة قبل العداء و المحبة
محمد جواد الدمستاني
الإنسان قليل العلم و المعرفة في شؤون الحياة و الكون و النفس، و مجهولاته أكثر من معلوماته، «وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا»[1]، و يتعامل مع هذه المجهولات بنوع من العداء، و كلما زاد علم الإنسان اكتشف حقيقة جهله، و تبصّر على مجهولاته أكثر فأكثر، و رويت عن أمير المؤمنين عليه السلام حكمة عظيمة و كل حكمه عظيمة و هي قوله (ع): «النَّاسُ أَعْدَاءُ مَا جَهِلُوا»[2]، فالنّاس تعادي ما لا تعرفه أو لا تفهمه، أو لم تتعوّد عليه، فالجهل بالشيء يؤدي إلى عداوته، و الإنسان عامة قد يحذر أو ينكر أو يكره أو يرفض أو يعادي ما لا يدركه و لا يعلم حقيقته.
و من النّاس من يعارضون و يخالفون و يحذرون من كل ما لا يفهمونه صحيحا كان أو خطأ، و حقا كان أو باطلا، و يعادون عموما الأشخاص الذين لا يتفقون معهم في عاداتهم و أعرافهم الراسخة عندهم و إن كانت خطأ و خرافة، أو قد يعادون الأشخاص الذين لا يعرفونهم معرفة كافية، و قد يعادون الأفكار الجديدة و النظريات الجديدة دون علم، أو ثقافات جديدة دون تفحص، أو مجتمعات جديدة دون معاشرة، فالعداء أصله و سببه هو الجهل، فلابد من إزالة هذا الجهل و استبداله بالعلم فيكون العلم بالشيء و المعرفة به و الاطّلاع الكافي عليه هو سبب العداء أو المحبة لا الجهل و الهوى، و هذا ما تدعو إليه الحكمة ابتداء و هو بيان قيمة العلم و أهميته و الحث عليه و نبذ الجهل و التنفير منه.
و الدرس هنا هو ألا يتسرع الإنسان في إصدار الأحكام على القضايا حتى تكتمل عنده الرؤية، و يدرس جميع جوانب و زوايا الموضوع المتعددة، و يكون على بيّنة و بصيرة، و لذا فإنه كلما ارتفع الوعي و الادراك و المعرفة عند الإنسان صار تعامله أكثر منطقية و أكثر مقبولية.
و الحكمة تدعو إلى العلم و المعرفة و التفكر قبل إصدار الأحكام على مطلق الأشياء، و تدعو لفتح العقل و التدبر، و تجنب الحكم على الأشياء دون مقدمات صحيحة و دون فهم، كما تدعو إلى حسن الظن ابتداء و البعد عن سوءه، و التعامل الموضوعي عامة و مع كل جديد حتى تعلم حقيقته، و السعي لتقليل حالات العداء و الظلم و سوء الفهم.
و تدعو إلى قياس الأمور بميزانها الصحيح فلا يعادي الجاهلُ العالمَ، و لا يعادي أحدٌ دون سبب موضوعي يدعوه إلى العداء، سواء إلى الأشخاص أو إلى الأشياء و العلوم و المعارف و الثقافات و الأعراق.
و تدعو إلى تجنب الجهل و التزود بالعلم و المعرفة و الاطّلاع على المجهولات قبل الحكم عليها فإنّ كثيرا من القضايا تحمل أبعادا متعددة قد لا تظهر إلا بالنظر و التأمل.
و دعوة إلى النضج و التعقل في مقابل السطحية و التجهل في مطلق الأشياء و منها عقائد الآخرين و قد رأينا من كان يعادي الشيعة و يتحامل عليهم و يوصفهم بأوصاف سيئة و هو لم يطّلع على كتبهم و علومهم فلما درس مذهبهم و عقيدتهم و خرج من منطقة الجهل إلى العلم و المعرفة أصبح شيعيا و صار يستصغر و يستخف بمذهبه السابق و عقيدته و طريقته السابقة في الدين و التدين، فالعداء يحتاج إلى ترشيد و تصحيح و علاجه بالعلم و الفهم و المعرفة، و في مقام آخر قال أمير المؤمنين (ع): «إِنَّ دِينَ اَللَّهِ لاَ يُعْرَفُ بِالرِّجَالِ، بَلْ بِآيَةِ اَلْحَقِّ، وَ اِعْرِفِ اَلْحَقَّ تَعْرِفْ أَهْلَهُ»[3].
و الجُهَّال يعتقدون أنّ تصوّراتهم و توهماتهم هي الحقّ، و ما خرج من تلك التصورات و الأوهام فهو باطل و ضلال، و هذا الباطل و الضلال ينبغي أنّ يُعادى، قال تعالى: «بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ»[4]، و «وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَٰذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ»[5].
و قال تعالى: «وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا»[6]، و الآية تنهى عن اتباع ما لا علم به.
و بسبب الجهل فإنّ الجهّال أو الجهّل من النّاس يحاربون الأنبياء و الأوصياء و الصالحين، و تشتد عداوتهم للعلماء، لا لأن العلماء مقصرون و مذنبون بل لعدم فهم لهم، و شعورا بالنقص أمامهم، أو غيرة و حسدا أو خشية و خوفا منهم.
و بسبب الجهل أيضا تتعلق بعض المجتمعات بعادات اجتماعية و صحية غير صحيحة و تصّر عليها، و بسبب الجهل و التعصب يقوم البعض بأكاذيب و تلفيقات حتى في عقائد الآخرين، و يُذكر أنّ أحمد أمين و هو كاتب مصري كتب كتبا ضد الشيعة افتراء و ظلما، فلما زار النجف و التقى بالشيعة و قيل له في ذلك كان أقصى ما عنده من الاعتذار عدم الاطّلاع و قلّة المصادر و الاستفادة من مصادر خصوم الشيعة، توفى هو و ظلت كتبه و آثار كتاباته تلاحقه في قبره و آخرته.
و قريب من الحكمة قول أمير المؤمنين عليه السلام قوله «مَنْ جَهِلَ شَيْئاً عَادَاهُ»[7]، العداء لا بسبب سوء الشيء و قبحه بل بسبب الجهل و عدم المعرفة، و قد يتصور في حالات أنّ شخصا يعادي شخصا آخر و يكيد له و ربما ينزعج حتى من رؤيته دون سبب صحيح و واقعي، فقد اكتسب نظرة سلبية بمقدمات خاطئة أو اكتسبها من أشخاص لا يودون الآخر و لا يحبونه، و أصبحت قناعة راسخة في ذهنه و يتعامل معه بها، حتى تجمعه الظروف لرؤية الآخر عن قرب و الحديث معه فيرى أنّ هذا الرجل الذي يكرهه شيئا آخر لا يشبه في صفاته بالرجل المكروه في نفسه، بل و قد يكون خلاف ذلك تماما من صفاته النبيلة، و عكس ذلك قد يقوم شخص بمحبة آخر و مودته و لكن الآخر يظن بأنّه عدو له يسعى للكيد به أو الفتك، و لذا العداء ينبغي أن يكون بعد المعرفة و العلم لا بالهوى و الأكاذيب، و المحبة أيضا.
و قد لا يؤدي الجهل إلى العداء التام و لكن على ما دونه بدرجة من الرفض و المعارضة و الاستياء و الحذر دون علم و إدراك حقيقي، و هذا يسري في كل المجالات من نظريات علمية إلى أدوية طبيعية، و مدارس فقهية، أشخاص مشهورين، و ثقافات و آداب و غيرها.
و في الشعر المنسوب لأمير المؤمنين (ع):
وَقَدرُ كُلِّ اِمرِئٍ ما كاَن يُحسِنُهُ وَلِلرِجالِ عَلى الأَفعالِ اسماءُ
وَضِدُّ كُلِّ اِمرِئٍ ما كانَ يَجهَلُهُ وَالجاهِلونَ لِأَهلِ العِلمِ أَعداءُ
-
– سورة الإسراء، آية 85 ↑
-
– نهج البلاغة، حكمة 172، حكمة 438 ↑
-
– إرشاد القلوب، الديلمي حسن بن محمد، ج2، ص296، روضة الواعظين، الفتال النيسابوري، ص ٣١ (الحق لا يعرف بالرجال اعرف الحق تعرف أهله)، تاريخ اليعقوبي، ج ٢، اليعقوبي، ص ٢١٠ (إن الحق والباطل لا يعرفان بالناس، ولكن اعرف الحق تعرف أهله، و اعرف الباطل تعرف من أتاه). ↑
-
– سورة يونس، آية 39 ↑
-
– سورة الأحقاف، آية 11 ↑
-
– سورة الإسراء، آية 36 ↑
-
– كنز الفوائد، أبي الفتح الكراجكي، ج٢، ص١٨٢، الأمالي، الشيخ الطوسي، ص ٤٩٤، المناقب، ابن شهر آشوب، ج2، ص48، و ج ١، ص ٣٢٦، بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج40، ص163 ↑