كما تدين تُدان
و كما تزرع تحصد
محمد جواد الدمستاني
روي عن أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة، من خطبة له يعظ فيها النّاس، قوله (ع): «وَ كَمَا تَدِينُ تُدَانُ، وَ كَمَا تَزْرَعُ تَحْصُدُ، وَ مَا قَدَّمْتَ الْيَوْمَ تَقْدَمُ عَلَيْهِ غَداً»[1].
و في تمام نهج البلاغة و البحار و مستدركي نهج البلاغة ( المحمودي، و الميرجهاني) : «وَ كَمَا تُدينُ تُدَانُ، وَ كَمَا تَزْرَعْ تَحْصُدْ، وَكَمَا تَصْنَعْ يُصْنَعْ بِكَ»[2].
و في غرر الحكم عن أمير المؤمنين عليه السلام، «مَنْ زَرَعَ شَيْئاً حَصَدَهُ»[3]، «مَنْ زَرَعَ خَيْراً حَصَدَ أَجْراً»[4].
و المعنى أنّ الجزاء من نوع الفعل، أي تدان و تجازى مثل فعلك الذي فعلته، خيرا أو شرا، و ما تعمله في الدّنيا تُجازى به في الآخرة، «كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ»[5]، و «الدُّنيا مَزرَعَةُ الآخِرَةِ»[6]. و إنّ الله سبحانه و تعالى عادل لا يظلم أحدا، و سيجزي الطائعين بطاعتهم، و يعاقب العاصين بمعصيتهم.
و «كمَا تَدِينُ تُدَانُ» حث و دعوة إلى وجوب العمل طبق أحكام الله و أنّ الجزاء بقدر العمل، الحسن بالثواب، و السيء بالعقاب، فإذا أطعت الله أثابك جزاء و جنّة، و إذا عصيته جازاك بالعقاب و النّار.
و للأعمال الحسنة أو السيئة آثارها في الدّنيا أيضا، و لكن ليس ضروريا أن يكون الجزاء من ثواب أو عقاب آنيا فوريا و قد يكون كذلك، و قد يتأخر لحكمة إلهية، و يعطي الله سبحانه الغفور الرحيم فرصة للتوبة و الاستغفار لتغيير العقوبة كما في قصة عقر ناقة صالح و نزول العذاب عليهم فإنّهم امهلوا ثلاثة أيام فلم يتوبوا فنزل العذاب.
و هي دعوة للأفراد للعمل الصالح و تجنب السيء، و دعوة إلى العدل و الإنصاف، و إلى الإحسان و عدم الإساءة، و تحذير من الظلم، و أنّ عاقبته ستعود على صاحبه، فإنّ النّاس يعاملون الشخص كما يعاملهم هو، و أنّ الأفعال لا تذهب سُدى، بل لها نتائج سيلاقيها أصحابها يوما ما، فمن أحسن للآخرين فقد أحسن لنفسه، و من أساء فلها أساء، و «هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ»[7]، و هذا مشاهد عمليا فإنّ الأفعال الحسنة تعود على أصحابها حسنا، و السيئة تعود على أصحابها سوءا.
و الاستخدام العام للحكمة «كما تدين تدان» اليوم يميل إلى استعمالها في سياق العدل و العدالة و الإحسان و المعاملة بين النّاس، و يميل إلى تطبيق سلبي للتعبير فتستعمل حين حصول مصائب و ابتلاءات يُرى أنّها انتقام من صاحب أفعال شر، و أما «كما تزرع تحصد» فقد يميل استعمالها اليوم إلى مجالات الحياة العامة بطريقة إيجابية، فتقال في الولد الصالح تقديرا لوالديه مثلا.
و «كَمَا تَزْرَعُ تَحْصُدُ»، تقريب المعنى في الجزاء الأخروي لما هم محسوس في الدّنيا من حصاد الإنسان لما يزرعه، إن زرع الإنسان خيرا حصد خيرا و إن زرع شرا حصد شرا، فالإنسان يحصل على ثمرة ما زرعه، فإن لم يزرع لا ثمرة له و لا حصاد، و إن زرع بذرة فاسدة فلن يخرج نبت أو نبات، و أنّ ثمرة زرعه نتيجة أصل ما زرعه هو، فحبة المشمش تنتج ثمرة مشمش لا ثمرة أخرى.
و كما في الزراعة تحتاج إلى بيئة و عوامل للحصول على الثمرة كالتربة الصالحة و الموسم المناسب و الماء و الوقت و البذرة السليمة و غيرها كذلك في الحياة عامة فإن بيئتها نية و عزم و عمل متقن و صالح و صبر و إخلاص و حب للخير لتأتي نتائج مناسبة تتيع المقدمات.
و هذا الجزاء للفعل و النتائج للمقدمات على مستوى الأفراد و الجماعات، فعلى المستوى الفردي فإنّ كل ما يعمله الإنسان يجد نتيجته و مقابله في الدّنيا و الآخرة و لكل عمل تأثير و حساب و كتاب.
و المجتمعات تحصد أعمالها من خير أو شر فإنّ المجتمعات مسؤولة عن كثير من خيراتها أو مصائبها، و في خطر ترك الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر روي عن أمير المؤمنين (ع) في وصيته لأولاده (ع) قبل شهادته :«لَا تَتْرُكُوا الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَ النَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ فَيُوَلَّى عَلَيْكُمْ شِرَارُكُمْ ثُمَّ تَدْعُونَ فَلَا يُسْتَجَابُ لَكُمْ»[8]. فالمجتمع مسؤول عن النتيجة إن حصلت من تولي الأشرار و عدم استجابة الدّعاء بسبب عدم القيام بالوظيفة الشرعية بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.
و هذا قانون عام و سنة حياة جارية في كل مجالات الحياة و منها المجال الصحي و الطبي فإنّ أمراضا تكون نتيجة إلى سوء العادة و الإكثار من الطعام و أكل الأطعمة المحرمة، و هذا مذكور في الروايات كـ «المعدة بيت الداء وان الحمية هي الدواء»[9].
«وَ مَا قَدَّمْتَ الْيَوْمَ تَقْدَمُ عَلَيْهِ غَداً»، أي كل ما يقوم به الإنسان من خير أو شر في الدّنيا سيلاقيه غدا في الآخرة، مكتوب و محفوظ فالمسؤولية عليه هو فلينتبه و ليحذر من الأعمال الطالحة، قال تعالى: «وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا»[10].
و في القرآن الكريم آيات في هذا الشأن، و أنّ الجزاء من نوع الفعل، قال تعالى: «مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ»[11] و «وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تجَدِوُهُ عِنْدَ اللّهِ»[12] و «فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ»[13]، «يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا»[14]، «الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ»[15].
و هذا المعنى من تبعية النتائج لمقدماتها و الجزاء لأفعاله متواتر في رواياتهم عليهم السلام، و في هذا المقام روي:
عن أمير المؤمنين (ع): «مَنْ عَابَ عِيبَ، وَ مَنْ شَتَمَ أُجِيبَ، وَ مَنْ غَرَسَ أَشْجَارَ اَلتُّقَى اِجْتَنَى ثِمَارَ اَلْمُنَى»[16].
و في غرر الحكم عن أمير المؤمنين (ع) «كَمَا تُعِينُ تُعَانُ»[17]، «كَمَا تَرْحَمُ تُرْحَمُ»[18]، «كَمَا تُقَدِّمُ تَجِدُ»[19]، «مَنْ قَدَّمَ خَيْراً وَجَدَهُ»[20].
و عن الإمام الصادق (ع) : «لا تَغتَبْ فتُغتَبُ، ولا تَحفِرْ لِأخِيكَ حُفرَةً فَتَقَعَ فيها، فإنَّكَ كما تَدينُ تُدانُ»[21].
و عنه عليه السلام قال: كان أبو ذر يقول في خطبته: «..، يَا مُبْتَغِيَ الْعِلْمِ قَدِّمْ لِمَقَامِكَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّه عَزَّ وجَلَّ فَإِنَّكَ مُثَابٌ بِعَمَلِكَ كَمَا تَدِينُ تُدَانُ»[22].
و في الانجيل كما جاء في أعلام الدين: «ألّا تَدينوا وأنتُم خُطّاءٌ فيُدانَ مِنكُم بِالعَذابِ، لا تَحكُموا بِالجَورِ فيُحكَمَ عَلَيكُم بِالعَذابِ، بِالمِكيالِ الّذي تَكيلونَ يُكالُ لَكُم، وبِالحُكمِ الّذي تَحكُمونَ يُحكَمُ عَلَيكُم»[23].
و تطبيق لهذا المعنى مروي عنهم عليهم السلام:
عن أمير المؤمنين عليه السلام: «أَحْسِنُوا فِي عَقِبِ غَيْرِكُمْ تُحْفَظُوا فِي عَقِبِكُمْ»[24].
و قال عليه السلام: «مَنْ أَسْرَعَ إِلَى النَّاسِ بِمَا يَكْرَهُونَ قَالُوا فِيهِ بِمَا لَا يَعْلَمُونَ»[25].
و عنه عليه السلام: «ومَن سَلَّ سَيفَ البَغيِ قُتِلَ بِهِ»[26].
و الإمام زين العابدين (ع) «مَن رَمَى الناسَ بما فيهِم رَمَوهُ بما ليسَ فيهِ»[27].
و الإمام الصادق (ع) «مَنْ عَذَرَ ظَالِماً بِظُلْمِه سَلَّطَ اللَّه عَلَيْه مَنْ يَظْلِمُه»[28].
و عنه عليه السلام : «مَن كَشَفَ عَن حِجابِ غَيرِهِ تَكَشَّفَت عَوراتُ بَيتِه، ومَن سَلَّ سَيفَ البَغيِ قُتِلَ بِهِ، ومَنِ احتَفَرَ لِأخيهِ بِئراً سَقَطَ فيها، ومَن داخَلَ السُّفَهاءَ حُقِّرَ، ومَن خالَطَ العُلَماءَ وُقِّرَ، ومَن دَخَلَ مَداخِلَ السَّوءِ اتُّهِمَ»[29].
و عنه (ع) «بَرُّوا آبَاءَكُمْ يَبَرَّكُمْ أَبْنَاؤُكُمْ، وعِفُّوا عَنْ نِسَاءِ النَّاسِ تَعِفَّ نِسَاؤُكُمْ»[30].
و المعنى في الحكمة «كَمَا تَدِينُ تُدَانُ وَ كَمَا تَزْرَعُ تَحْصُدُ» متداول بألفاظ متعددة في اللغة العربية، و اللغات الأخرى، ففي العربية و بلدانها، يقولون: «كما تَفعل يُفعل بك»، «كما تَجزي تُجزى»، «من لا يَرحم لا يُرحم».
و متداول في اللغات و الأديان الأخرى أيضا معني «كَمَا تَزْرَعُ تَحْصُدُ»:
ففي الفرنسية:
Tu récoltes ce que tu sèmes (أنت تزرع ما تحصد).
Qui sème le vent récolte la tempête (من يبذر الريح يحصد العاصفة).
في الإنجليزية:
You reap what you sow (تحصد ما تزرع).
و الفارسية:
«همانطور که میکاری درو می کنی» : أنت تحصد ما تفعل.
-
– نهج البلاغة، خطبة 153 (وَ ضَعْ فَخْرَكَ وَ احْطُطْ كِبْرَكَ وَ اذْكُرْ قَبْرَكَ فَإِنَّ عَلَيْهِ مَمَرَّكَ وَ كَمَا تَدِينُ تُدَانُ وَ كَمَا تَزْرَعُ تَحْصُدُ وَ مَا قَدَّمْتَ الْيَوْمَ تَقْدَمُ عَلَيْهِ غَداً). ↑
-
– تمام نهج البلاغة، السيد صادق الموسوي، ص ٣٦١ (وَكَمَا تُدينُ تُدَانُ ، وَكَمَا تَزْرَعْ تَحْصُدْ ، وَكَمَا تَصْنَعْ يُصْنَعْ بِكَ، وَمَا قَدَّمْتَ الْيَوْمَ تَقْدَمُ عَلَيْهِ لا مَحَالَةَ غَداً)، بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج٧٤، ص٤١١، نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة، الشيخ المحمودي، ج٢، ص ٣٢٢، مصباح البلاغة ( مستدرك نهج البلاغة )، الميرجهاني، ج٢، ص ١٩٧ ↑
-
– غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد الآمدى التميمي، ص ٦٦٨ ↑
-
– غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد الآمدى التميمي، ص ٦٦٨ ↑
-
– سورة المدثر، آية 38 ↑
-
– كما في الخبرعن النبي صلّى الله عليه و آله، تنبيه الخواطر ونزهة النواظر (مجموعة ورام)، ج ١، ورام بن أبي فراس المالكي الاشتري، ص ١٩١، عوالي اللئالي، ابن أبي جمهور الأحسائي، ج ١، ص ٢٦٧ ↑
-
– سورة النمل، آية 90 ↑
-
– نهج البلاغة، وصية 47 ↑
-
– الخصال، الشيخ الصدوق، ص ٥١٢، علل الشرائع، ج١، الشيخ الصدوق، ص ٩٩ ↑
-
– سورة الكهف، آية 49 ↑
-
– سورة النساء، آية 123 ↑
-
– سورة البقرة، آية 110 ↑
-
– سورة الزلزلة، آية 7-8 ↑
-
– سورة آل عمران، آية 30 ↑
-
– سورة الجاثية، آية 28 ↑
-
– كشف الغمة، أبي الحسن علي بن عيسى بن أبي الفتح الإربلي ، ج2، ص346 ↑
-
– غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد الآمدى التميمي، ص ٥٣٥ ↑
-
– غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد الآمدى التميمي، ص ٥٣٥ ↑
-
– غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد الآمدى التميمي، ص ٥٣٥ ↑
-
– غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد الآمدى التميمي، ص ٦٦٨ ↑
-
– الأمالي، الشيخ الصدوق، ص ٥٠٥ ↑
-
– الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص ١٣٤ ↑
-
– أعلام الدين في صفات المؤمنين، الحسن بن محمد الديلمي، ص ٣٢٨، بحار الأنوار، العلامة المجلسي ، ج ٧٤ ، ص ٤٣ (ألّا تَدينوا وأنتُم خُطّاءٌ فيُدانَ..). ↑
-
– نهج البلاغة، حكمة 264 ↑
-
– نهج البلاغة، حكمة 264 ↑
-
– تحف العقول عن آل الرسول ( ص )، ابن شعبة الحراني، ص ٨٨ ↑
-
– أعلام الدين في صفات المؤمنين، الحسن بن محمد الديلمي، ص ٢٩٩ ↑
-
– الكافي، الشيخ الكليني، ج٢، ص ٣٣٤ ↑
-
– كشف الغمة في معرفة الأئمة، علي بن أبي الفتح الإربلي، ج2، ص ٤٠٠، رويت عن أمير المؤمنين (ع) في تحف العقول، ابن شعبة الحراني، ص ٨٨ «ومَن سَلَّ سَيفَ البَغيِ قُتِلَ بِهِ ، ومَن حَفَرَ بِئراً لِأَخيهِ وَقَعَ فيها ، ومَن هَتَكَ حِجابَ غَيرِهِ انكَشَفَت عَوراتُ بَيتِهِ» ↑
-
– الكافي، الشيخ الكليني، ج٥، ص ٥٥٤ ↑