الحذر من مواقع و مواقف التّهمة
«من وضع نفسه مواضع التّهمة فلا يلومنّ من أساء به الظنّ»
محمد جواد الدمستاني
إنّ السمعة الحسنة للإنسان رصيد اجتماعي مهم و ضرورة فإذا استطاع الإنسان تجنب كل ما من شأنه تشويهه أو ذمه و إن كان عملا جائزا أصالة، و عدم ترك ثغرة قابلة للاستغلال ضده و ضد سمعته و شخصيته و خاصة في المجتمعات المضطربة بسوء الظنّ فإنّ ذلك خير له و أسعد، و قد روي عن أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة قوله «مَنْ وَضَعَ نَفْسَهُ مَوَاضِعَ التُّهَمَةِ فَلَا يَلُومَنَّ مَنْ أَسَاءَ بِهِ الظَّنَّ»
[1]، و هي ضرورة بسبب تأثيرها في المجتمع و الاعتماد عليها في التقييم، و هي قرينة لاستقامة الشخص و تأكيد لمصداقيته، فيسعى الإنسان جاهدا لحفظ نفسه و كرامته بنزاهة سلوكه و سيرته، فكأنّ هذه الاحتياطات درع حماية له يجنّبه سوء ظن الآخرين و تبعاته.
و «مَوَاضِعَ التُّهَمَةِ» أي المواضع التي يُتهم بسببها، أو يُظن به سوءا بسببها، «فَلَا يَلُومَنَّ مَنْ أَسَاءَ بِهِ الظَّنَّ»، بل يلوم نفسه، لأنه هو السبّب في إساءة الظن به، و هو السبب في تهمته.
و المراد هو إرشاد إلى الابتعاد عن مواقع الشبهات و الالتباسات و ضرورة تملك الوعي الكافي و المسؤولية الكاملة لجميع المواقف و التصرفات و اتخاذ خيارات واضحة إلى المواقف التي لا تترك تأويلات سلبية مع قدر المستطاع، و هي دعوة من أمير المؤمنين عليه السلام للمحافظة على السمعة و الصفاء و السلوك الظاهري كما هو الصفاء و السلوك الباطني، و تجنب مواقع الارتياب و التوهمات، و رعاية الاحتياطات، و تقدير فهم الآخرين، كما هي تحذير لسوء الظن فيهم بالمقابلة.
و في نهج البلاغة أيضا «وَ مَنْ دَخَلَ مَدَاخِلَ السُّوءِ اتُّهِمَ»[2]، مداخل السوء أو مداخل الشر و الضرر يمكن تصورها في كل الأمور التي تؤدي إلى الأفعال السيئة التي يُتهم صاحبها و يُساء الظن به، فالتهمة تتجه نحو الشخص الذي يتردد على أمكنة السوء و الشبهة، و أمكنة الفساد و اللهو و الأماكن التي يساء فهم التواجد فيها، و أماكن الاختلاط، المعاملات المالية غير الواضحة و بعض التجارات، و المزروعات، و منها مصاحبة الفسّاق فإنّها من أبواب التّهمه و إساءة الظن، و كل باب أو طريق يدخل منه السوء و الشر إلى النفس و عامة الإنسان، و كل منفد يستغله الشيطان و يثير شبهة و شك بمعاصي أو فساد فهو مؤشر سوء ينبغي تجنّبه و الحرص على الابتعاد عنه، و الظهور بمظهر سليم فإنّ النّاس يحكمون على ما يشاهدون لا على النوايا و يستعجلون في أحكامهم.
فمن يضع نفسه في مواقف مشكوكة أو مشبوهة فلا يلوم الآخرين لسوء ظنهم به أو التشكيك في نواياه، بل عليه أن يتلافى تلك الشكوك، و أن يكون حذرا و مسؤولا عن المواقف و المواقع التي تُفسر بطريقة سلبية ضده، و إذا لم يحذر من ذلك و اتّهمه النّاس أو أسائوا الظنّ به فلا يلوم أو يعاتب أو يوبخ من يسيء فهمه.
و التّهمة و إساءة الظن في هذه المداخل بسبب فعل صاحبها، فلا يلوم النّاس بسبب سوء الظن هذا بل يلوم نفسه، كما في الرواية عن الإمام الصادق (ع): «مَنْ دَخَلَ مَوْضِعاً مِنْ مَوَاضِعِ اَلتُّهَمَةِ فَاتُّهِمَ فَلاَ يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ»[3].
و هذه دعوة لتجنّب أماكن التّهمة و سوء الظن و هي مطلقة و تشمل كل مواقف ومواقع التّهمة من الأفعال و الأقوال و لها تطبيقات واسعة فيما يتعلق بالأمكنة المرتادة، و علاقات الاختلاط، و في مجال المال و الأعمال، فمن الضروري أن يسعى الإنسان لحفظ نفسه من المساوئ و النقائص و العيوب، و حفظ كرامته و الابتعاد عمّا قد يجرحها بسوء.
و من تلك المداخل الأمكنة و الأشخاص الذين يُظن بهم سوءا، و في وصية أمير المؤمنين (ع) لابنه الحسن (ع): «إِيَّاكَ وَ مَوَاطِنَ التُّهَمَةِ وَالْمَجْلِسَ الْمَظْنُونَ بِهِ السُّوءُ فَإِنَّ قَرِينَ السَّوْءِ يَغُرُّ جَلِيسَهُ»[4]، و في الكافي «و مَنْ يَدْخُلْ مَدَاخِلَ السُّوءِ يُتَّهَمْ، و مَنْ يُقَارِنْ قَرِينَ السَّوْءِ لَا يَسْلَمْ»[5]، مصاحبة رفيق السوء أو قرين أو أقران السوء و أصحاب السمعة السيئة من مداخل التّهمة فلا يسلم صاحبه.
و المعنى هو إرشاد الإنسان إلى الانتباه إلى خطورة المواقع المظنونة و الأمكنة المشبوهة و في حديث رسول الله (ص) «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إلَى مَا لَا يَرِيبُكَ»[6]، أي اخرج من منطقة الشك و الريبّ و الظنّ و الالتباس إلى منطقة الأمن و الوثوق و الاطمئنان، و السعي و الاجتهاد في الابتعاد عن مواضه التّهمة من الأمكنة و الأشخاص، و الحذر من الأقوال و الأفعال التي تسبب التّهمة، فإن الانزلاق فيها يؤدي إلى المهالك.
و رويت عن النبي (ص) «دَعْ مَا يُرِيبُكَ إِلَى مَا لاَ يُرِيبُكَ فَمَنْ رَعَى حَوْلَ اَلْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ»[7]، فمن حام حول الحمى و اقترب من المحظور أوشك أن يقع فيه، و رويت عنه (ص) «دَعْ مَا يُرِيبُكَ [إِلَى مَا لاَ يُرِيبُكَ]، فَإِنَّ اَلْحَقَّ طُمَأْنِينَةٌ وَ اَلْكَذِبَ رِيبَةٌ، وَ لَنْ تَجِدَ فَقْدَ شَيْءٍ تَرَكْتَهُ لِلَّهِ تَعَالَى»[8]، أي اترك و تجنب و ابتعد عمّا يثير حولك الريبة و الشك، و تضطرب معه النفس في مقابل سكونها حين يقينها.
و هذا نوع من الحذر و الاحتياط بالابتعاد مطلقا عن المواقف المثيرة و التي يحصل معها شك و ريب، و الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام «اِتَّقُوا مَوَاقِفَ اَلرِّيَبِ، وَ لاَ يَقِفَنَّ أَحَدُكُمْ مَعَ أُمِّهِ فِي اَلطَّرِيقِ فَإِنَّهُ لَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ يَعْرِفُهَا»[9].
و الأمر بالاحتياطات و التحذيرات باتقاء أماكن الريبة و الشك و التّهمة قد تكرر في رواياتهم عليهم السلام و منها قول أمير المؤمنين عليه السلام: «مَنْ كٰانَ يُؤْمِنُ بِاللّٰهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ فَلاَ يَقُومُ مَكَانَ رِيبَةٍ»[10]، أي مطلق أمكنة الشك و التّهمة.
و كما أنّ الإنسان يتقي أمكنة السوء و الريبة و التهمة لئلا يسيء الآخرون به الظن و يُتّهم، كذلك يحرص هو نفسه على تجنّب سوء الظن بالآخرين، فــ «إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ»، بل حملهم على محامل الخير ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
و قد يحتاج الإنسان أن يدفع الشك عن نفسه خارج مواضع التّهمة و سوء الظنّ، كما كانت نصيحة يعقوب النبي عليه السلام لدفع الشك في أولاده، و لم يكن دخول أخوة يوسف مصر من باب واحد به ذنب أو إثم أو نقيصة و لكن والدهم يعقوب (ع) أمرهم أن يدخلوا من أبواب متفرقة لئلا تتوجه لهم الأنظار و يتقوا الشبهة و الملاحظة و يتفادوا الشك الذي يجرهم للمساءلة أو التّهمة، فلتجنّب ذلك الشك و ما قد يتبعه من أمور مفاجئة أو طارئة أمرهم بالدخول متفرقي الأبواب، و قد ورد في سورة يوسف قول يعقوب (ع) لبنيه: «وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ»[11]، و قيل أنّ ذلك الأمر و النصيحة تفاديا للعين أو الحسد لجمال الأخوة و قد تثير ضدهم البغضاء، و أيّا كان فالنصيحة وقعت تفاديا للملاحظة أو الشك و التّهمة التي قد تحصل لسبب أمني أو اجتماعي أو نفسي أو غيره بالدخول الجماعي للأبناء، و هي ترشد الإنسان إلى اجتناب بعض الأمور الجائزة و المباحة حفاظا على شخصه و شخصيته، و مع هذا الاحتياط تمت ملاحظة الأخوة لاحقا، «وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُم مِّنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ»[12].
-
– نهج البلاغة، حكمة 159 ↑
-
– نهج البلاغة، حكمة 349 ↑
-
– الأمالي، الشيخ الصدوق، ص ٥٨٧، وسائل الشیعة، الحر العاملي، ج12، ص36، بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج72، ص91 ↑
-
– الأمالي، الطوسی، ص 7، كشف الغمة، الأربلي، ج1، ص 535 ↑
-
– الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص ٦٤٢ ↑
-
– غرر الحکم، الواحدي، ص 818، عیون الحکم، الليثي الواسطي، ص 249 ↑
-
– مجموعة ورّام (تنبيه الخواطر و نزهة النواظر)، ورّام بن أبي فراس، ج1، ص52 ↑
-
– نزهة الناظر و تنبیه الخاطر، الحلواني حسین بن محمد، ج، ص28، کنز الفوائد، الكراجكي، ج1، ص 351 (دَعْ مَا يُرِيبُكَ إِلَى مَا لاَ يُرِيبُكَ فَإِنَّكَ لَنْ تَجِدَ فَقْدَ شَيْءٍ تَرَكْتَهُ لِلَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ). ↑
-
– مستطرفات السرائر « باب النوادر» (موسوعة إبن إدريس الحلي)، ابن إدريس الحلي، ص ١١٤، وسائل الشیعة، الحر العاملي، ج12، ص37 ↑
-
– الکافي، الشيخ الكليني، ح2، ص377، وسائل الشیعة، الحر العاملي، ج16، ص262 ↑
-
– سورة يوسف، آية 67 ↑
-
– سورة يوسف، آية 68 ↑