محمد جواد الدمستانيمحمد جواد الدمستاني

Loading

تنظيم المصروفات المالية دون الإسراف أو التقتير

«ما عال من اقتصد»

محمد جواد الدمستاني

يعتبر الاعتدال و الاقتصاد في المصروفات المالية و حسن التدبير فيها من الأمور المهمة على مستوى الفرد و المجتمع، و في أهمية هذا الاعتدال و التوازن و التوفير في الإنفاق الذي يجنّب الإنسان الفقر و الحوج و الحرج وجّه أمير المؤمنين عليه السلام في حكمته إلى سلوك هذا الاعتدال و روي عنه (ع) في نهج البلاغة قوله: «مَا عَالَ مَنِ اقْتَصَدَ»[1]، و روى عن رسول الله صلى الله عليه و آله أيضا[2]، و روي عنه أيضا «ما عالَ امرُؤٌ اقتَصَدَ»[3]، و مثله عن النبي (ص): «لا يَعِيْلُ أحَدٌ على قَصْدٍ، و لا يَبْقَى على سَرفٍ كَثيرٌ»[4].

ما عال أي ما افتقر، و اقتصد أي توسّط و اعتدل في الإنفاق بين الإسراف و التقتير أي إنفاق دون إفراط و تفريط.

و المعنى في «مَا عَالَ مَنِ اقْتَصَدَ» أي ما افتقر من أنفق بقدر الحاجة المطلوبة و المتعارفة دون زيادة، و في سورة الفرقان «وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا»[5]، أي إنفاق متوسط قدر الحاجة دون إفراط أو تفريط، و التوكل على الله، و الله قد تكفل بأرزاق عباده، و في الرواية عن النبي (ص): «أَلاَ وَ إِنَّ لِكُلِّ اِمْرِئٍ رِزْقاً هُوَ يَأْتِيهِ لاَ مُحَالَة،َ فَمَنْ رَضِيَ بِهِ بُورِكَ لَهُ فِيهِ وَ وَسِعَهُ، وَ مَنْ لَمْ يَرْضَ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ وَ لَمْ يَسَعْهُ»[6].

والكلام توصية و حث على الانفاق بقدر الحاجة، و دعوة للاقتصاد و عدم الاسراف أو التبذير، بل تنظيم النفقات المالية حتى لا يقع الإنسان في ضيق و فقر و حرج، و في نهج البلاغة أيضا و «فَدَعِ الْإِسْرَافَ مُقْتَصِداً»[7].

و الاسراف و التبذير حرام، و خطر على الأفراد و على الأمة و الدول، و يؤدِيان إلى زوال النعمة، و الرواية عن الإمام الكاظم (ع): «مَنِ اقتَصَدَ و قَنَعَ بَقِيَت علَيهِ النِّعمَةُ، و مَن ‌بَذَّرَ و أسرَفَ زالَت عنه ‌ُالنِّعمَةُ»، فعلى مستوى الأفراد يؤدي الاسراف و التبذير إلى ضيق و فقر و حرج و ديون و أضرار نفسية و صحية، و تأثيرات اجتماعية سلبية، و خلافات عائلية إلى غيرها من الأضرار السلبية.

و الحكمة أقرب إلى إرشاد الفرد بحسن التصرف في موارده المالية و الاقتصاد في شؤون البيت و الأسرة و هذا يعني تجنب الإسراف و التبذير و التبديد و التظاهر بالغنى مما يزيد من المصروفات، و التفاخر مما يدفع الإنسان و خاصة النساء لمزيد من الشراء و الإسراف، و ترك الترف و السفه و المبالغات، و التمييز بين الحاجات و الرغبات، و الانتباه و الدقة للشراء التلقائي دون حاجة حين تقع عيناك على شيء يعجبك، و الحذر من التعلق بمتاع الدّنيا و الإكثار منه، و تجنب الديون قدر المستطاع خاصة تلك التي تقع في منطقة الكماليات و الفخامة و الأبّهة و هي فائضة عن الحاجة، فعلى مستوى الفرد يؤدي تطبيق الحكمة إلى ثبات مالي و سكينة نفسية و البعد عن القروض و الديون و الاستدانات و مظاهر الفخر المالي، و تحقيق للتوازن المالي و كذا النفسي.

و على مستوى الأمة و هي تجمع و تشكل من أفراد يؤدي الإسراف إلى ضرب الاقتصاد و تدميره و خرابه و فساد أخلاق النّاس بل قد يؤدي الإفلاس و انهيار الدولة، و الاعتدال في الإنفاق ليس هو فقط فضيلة أخلاقية دينية مطلوبة بل هو ضرورة في ثبات الدولة و استقرارها و حاجة اجتماعية ملحة فينبغي أن تكون للدولة استراتيجية و تخطيط مناسب و سياسات مالية متوازنة لضمان الاستقرار المالي و تجنب انعكاساته السلبية الاجتماعية و الأخلاقية و تفادي الأضرار، فتطبيق مراد الحكمة يساعد في هذا الاستقرار و يجنّب الافتقار.

و الحكمة مطلقة، أي إنّ الاقتصاد و الاعتدال مطلوب في مطلق الانفاق، في المأكل و الملبس و المسكن، و في الماء، و الكهرباء، و في أوجه الحياة المختلفة و المتعددة، و مطلق الإسراف مرفُوض في أوجه الحياة أيضا.

 

و إذا كان بعض الإسراف عادة و طبع فينبغي التخلص منها فورا، كما هي عادات بعض الناس في مأكولاتهم حيث يرمي من الطعام أكثر مما يأكل خاصة في الفنادق و الأعراس، و في طريقة الأكل المدفوع سلفا و غير المحدود و الذي يسمى البوفيه المفتوح فهو نموذج للإسراف الغذائي و التدمير الصحي، أو في ملبسهم و ملابسهم المتراكمة الذي قد تكفي لعشرات الأشخاص ممن يفتقدون اللباس المناسب، أو في السكن و المساكن و ما تحويه من متاع و أثاث.

و الإسراف حرام إذا كانت أموال المسرف حلال، و أما إذا كانت أموال المسرف حرام فالحرمة تتضاعف فالمال حرام و استعماله بإسراف حرام أيضا.

و قريب من هذه الحكمة في الخبر «التدبيرُ نصفُ المعيشة»[8]، و كذلك عن رسول الله «مَنِ اقتَصَدَ أغناهُ اللَّهُ، ومَن بَذَّرَ أفقَرَهُ اللّهُ»[9]، و في نهج البلاغة «كُنْ سَمْحاً وَ لَا تَكُنْ مُبَذِّراً ، وَ كُنْ مُقَدِّراً وَ لَا تَكُنْ مُقَتِّراً»[10]، و قال رجل للإمام الصادق (ع): «بَلَغَنِي أَنَّ اَلاِقْتِصَادَ وَ اَلتَّدْبِيرَ فِي اَلْمَعِيشَةِ نِصْفُ اَلْكَسْبِ، فَقَالَ (ع) لاَ بَلْ هُوَ اَلْكَسْبُ كُلُّهُ، وَ مِنَ اَلدِّينِ اَلتَّدْبِيرُ فِي اَلْمَعِيشَةِ»[11].

و يقابل الاقتصاد و الاعتدال من طرف الزيادة الإسراف و التبذير و هو تبديد المال و صرفه دون فائدة، و صرفه فيما لا يحتاج إليه، و الإسراف و التبذير أنواع و أشكال و منها إعطاء المال في غير حقّه كما عن أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة «أَلَا وَ إِنَّ إِعْطَاءَ الْمَالِ فِي غَيْرِ حَقِّهِ تَبْذِيرٌ وَ إِسْرَافٌ»[12]، و يقابله من جهة النقص التقتير و البخل و هو مذموم أيضا.

و معنى هذه الحكمة و تطبيقها ظاهر في الحياة الاجتماعية للبشر فإننا نرى أنّ الراضين و القانعين و أصحاب حسن التدبير و الاقتصاد في معيشتهم و الذين هم في تحكم دائم في مصارفهم و مخارجهم المالية يكونون في حالة مرضية و كافية لهم دون الوقوع في الحاجة و الفقر و الضيق، بينما يُرى آخرون من أصحاب الأموال أو متوسطي الحال يقعون في مطبّات و مآزق مالية كلما خرجوا من أحداها وقعوا في غيرها لسوء التدبير و الإسراف و التبذير و السفه في مصروفاتهم المالية، و لا يصمد حتى المال الكثير مع الإسراف و التبذير، كما في الرواية السابقة عن النبي (ص): «و لا يَبْقَى على سَرفٍ كَثيرٌ»[13]، فكم من ذي مال و ثري شتّت أمواله و أفلس نتيجة للسرف و سوء التدبير.

و هذا التوجيه العظيم من من أهل بيت النبوة صلوات الله و سلامه عليهم له قيمة تربوية كبيرة في كل العصور و في هذا العصر حيث توسع الإعلام و الإعلانات و الدعايات و برامج التواصل الاجتماعي التي تشجع على أنماط استهلاكية متجددة تزيد من المصروفات المالية المعتادة و تقع في خانة الإسرافات و التبذيرات مما يكون له أضرار نفسية و مالية و اجتماعية جاءت هذه الحكمة لتجنّبها، و توجّه الأفراد و المجتمعات لتلافيها بحسن التدبير و الاعتدال في الإنفاق مما يجعل الإنسان في سعة و رزق كريم دون ضيق و مآزق مالية و نفسية.

  1. – نهج البلاغة، حكمة 140

  2. – شهاب الأخبار، محمد بن سلامة القضاعي، ص331، المصنف، ابن أبي شيبة الكوفي، ج6، ص ٢٥٢، تنبيه الخواطر ونزهة النواظر (مجموعة ورام)، ج ١، ورام بن أبي فراس المالكي الاشتري، ج1، ص ١٧٥، ج2، ص ٥٤٩

  3. – الخصال، الشيخ الصدوق، ص ٦٢٠، تحف العقول عن آل الرسول (ص)، ابن شعبة الحراني، ص ١١١

  4. – الأمثال في الحديث النبوي، عبد الله بن حبان (أبي الشيخ الأصبهاني)، ج1، ص ٥٤

  5. – سورة الفرقان، آية 67

  6. – أعلام الدین، الديلمي، ص342

  7. – نهج البلاغة، كتاب 61

  8. – تنبيه الخواطر ونزهة النواظر ( مجموعة ورام )، ورام بن أبي فراس المالكي الاشتري، ج1، ص ١٧٥

  9. – تنبيه الخواطر ونزهة النواظر ( مجموعة ورام )، ورام بن أبي فراس المالكي الاشتري، ج1، ص ١٧٥

  10. – نهج البلاغة، حكمة 33

  11. – الأمالي، الطوسی، ص670، و عنه بحار الأنوار، المجلسي، ج68، ص349

  12. – نهج البلاغة، خطبة 126

  13. – الأمثال في الحديث النبوي، عبد الله بن حبان (أبي الشيخ الأصبهاني)، ج1، ص ٥٤

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *