الرئاسة و الحكم ميدان الامتحان
«الولايات مضامير الرجال»
محمد جواد الدمستاني
الحكم و الرئاسة هي أحد مواقع امتحان و اختبار الإنسان في هذه الدّنيا و هو من أصعب الابتلاءات، و في الرواية عن أمير المؤمنين (ع) في نهج البلاغة «الْوِلَايَاتُ مَضَامِيرُ الرِّجَالِ»[1].
الولايات جمع ولاية و هي المنطقة الإداريّة التي يحكمها والٍ أو رئيس، مع اختلاف التسمية في البلدان فتسمى أقاليم، أقطار، أمصار، محافظات، أو بلدان أو دول.
و مضامير جمع مضمار و هي الأماكن الذي تتسابق فيها الخيل، أو ميدان و مجال سباق الخيل، و المسافات التي تجري فيها الخيل فيعرف السابق من اللاحق، و الجيد من الرّديء، و السريع من البطيء.
و عالم الدّنيا كله ميدان و مضمار سباق للآخرة يمتحن الله فيه عباده ثم ينقلون من عالم إلى آخر، و تكون الجنّة للفائزين، و في نهج البلاغة «أَلَا وَ إِنَّ الْيَوْمَ الْمِضْمَارَ، وَ غَداً السِّبَاقَ، وَ السَّبَقَةُ الْجَنَّةُ، وَ الْغَايَةُ النَّارُ»[2]، و غدا يعرف الرابح من الخاسر، و التنافس على الجنّة، و غاية العاصين النّار.
و بيان الحكمة أنّه كما هو مضمار الخيل أو ميدان السباق للخيل هو المكان المناسب الذي تعرف فيه قوة الخيل من ضعفه و جودته من رداءته كذلك الولايات هي مضامير الرجال و الأماكن المناسبة لمعرفة الرجال أو النّاس، فإنهم يعرفون بعد تولي الرئاسة أو الحكم أو السلطة فيعرف الصالح من الطالح، و المحسن من المسيء، و الأمين من الخائن، و العادل من الظالم، كما يعرف مستواه و قدرته في الأمور المرتبطة بالحكم و السياسة و الإدارة، و مدى كفاءته و حسن تدبيره، و قوته أو ضعفه، و نجاحه أو فشله، و حزمه و حسمه من عجزه.
و المعنى العام هو أنّ المناصب القيادية في الإدارة و الحكم هي ميادين امتحان للبشر يختبرون فيها في كفاءتهم و قدرتهم، و إنّ موقع الحكم و السلطة كاشف عن معادن الرجال و حقيقتهم و قدراتهم، و أنّ الولايات و الرئاسات و مناصب الدولة العليا ليس تميّزا أو غنيمة أو مكسبا خاصا، أو تشريفا أو موضعا للتباهي و التفاخر، أو لجمع متاع الدّنيا و زخرفها، أو للتسلط على رقاب النّاس و إخضاعهم، و إنّما هي مواقع اختبار و مسؤولية لصاحبها أو المبتلى بها و امتحان لقدرته و مدى قيادته و هو ابتلاء أكثر مما هو رفاه و رخاء، و مدى النجاح يكمن في إقامة الحق و العدل و دفع الظلم، و المكسب هو في حسن إدارة الدولة و الإنجازات الحقيقية للشعب و الأمة.
و قد استعار الإمام (ع) لفظ مضامير الخيل بالولايات للرجال، لأن الاثنين موضع اختبار، المضمار للخيل و الولاية للرجال، فالرئاسة و الولاية هي أحد مواطن الاختبار و الامتحان الواضحة و أما المعرفة العامة للأشخاص فلا تكشف عن معادن الرجال، و قدرتهم و منزلتهم، و يُروى عنه عليه السلام «عِنْدَ الِامْتِحَانِ يُكْرَمُ الرَّجُلُ أَوْ يُهَانُ»[3].
و الامتحان و الاختبار يكون في الأفعال و ليس في الأقوال فإنّ النّاس يقولون و يكثرون بما يقدرون و ما لا يقدرون، و هي من المجربات قبل الانتخابات السياسية أو البلدية حيث يعد المرشح الناخبين بما يشتهون و يريدون و بما لا يطيق و لا يقدر، و كثير منهم لا يطبق وعوده بل لا يستطيع تطبيقها، فالإنسان يمتحن بأفعاله كما روي عن أمير المؤمنين (ع) «يُمْتَحَنُ الرَّجُلُ بِفِعْلِهِ لَا بِقَوْلِهِ»[4].
و بعض الولاة أو الحكام أو الرؤساء مصداق واضح للآية «وَإِذ إِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ»[5]، و التاريخ و الحاضر مليء بالأمثلة و النماذج من الطغاة و المستبدين الظالمين، و يُذكر في التاريخ قصة عبد الملك بن مروان فلقد كان يسمى حمامة المسجد، فلما أتاه الخبر بخلافته كان المصحف في حجره فوضعه و قال: هذا فراق بيني وبينك! أو قيل فأطبقه و قال: هذا آخر العهد بك، و أصبح طاغية مستبدا سافكا للدماء، و يُنقل عنه قبل حكمه أنّه يتحرج أن يطأ نملة، و بعده قام بسفك الدماء و شرب الخمور، و الطاغية الحجاج السفاح أحد مخازيه و ولاته، و كان يكتب إليه في قتل النّاس فلا يعطي عبد الملك أية أهمية لسفك الدماء، فقد فشل في مضمار الولاية و الحكم أشد الفشل و انقلبت حمامة المسجد إلى وحش يغوص في الدماء، و هذا النموذج المتقلب يتكرر فما بعد السلطة ليس كما قبلها عند غالبية النّاس.
أما أولياء الله الحقيقيون و أمناء الله في أرضه، و حججه على عباده فلا تغيّر الولايات و الرئاسات منهم شيئا أبدا و لا تتبدل منهم صفة واحدة، و في نهج البلاغة قال الشريف الرضي: من خطبة له (ع) عند خروجه لقتال أهل البصرة، «..، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسِ دَخَلْتُ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (ع) بِذِي قَارٍ وَ هُوَ يَخْصِفُ نَعْلَهُ فَقَالَ لِي مَا قِيمَةُ هَذَا النَّعْلِ؟ فَقُلْتُ لَا قِيمَةَ لَهَا، فَقَالَ (ع) وَ اللَّهِ لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ إِمْرَتِكُمْ إِلَّا أَنْ أُقِيمَ حَقّاً أَوْ أَدْفَعَ بَاطِلًا»[6]، هذا علي بن أبي طالب عليه السلام.
و الحكم و السلطة لما فيها من قوة و قدرة هي موضع امتحان و اختبار، و عامة فإنّ امتلاك الإنسان نوع من القدرة و القوة و إن كانت جزئية و صغيرة هي نوع اختبار، و قال عليه السلام في موضع آخر: «الْقُدْرَةُ تُظْهِرُ مَحْمُودَ الْخِصَالِ وَ مَذْمُومَهَا»[7].
و ذكر أمير الؤمنين (ع) مواطن أخرى للاختبار مثل المال، المصيبة، المصاحبة، المعاملة، العزل، الغنى و الفقر، القرب من الملوك، قال عليه السلام:
«ثَلاَثٌ يُمْتَحَنُ بِهَا عُقُولُ اَلرِّجَالِ: هُنَّ اَلْمَالُ وَ اَلْوَلاَيَةُ وَ اَلْمُصِيبَةُ»[8]
«سِتَّةٌ تُخْتَبَرُ بِهَا عُقُولُ الرِّجَالِ [النَّاسِ] الْمُصَاحَبَةُ وَ الْمُعَامَلَةُ وَ الْوِلَايَةُ وَ الْعَزْلُ وَ الْغِنَى وَ الْفَقْرُ»[9].
«الْمَرْءُ يَتَغَيَّرُ فِي ثَلَاثٍ: الْقُرْبِ مِنَ الْمُلُوكِ، وَ الْوِلَايَاتِ، وَ الْغَنَاءُ مِنْ [بَعْدِ] الْفَقْرِ، فَمَنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ فِي هَذِهِ فَهُوَ ذُو عَقْلٍ قَوِيمٍ وَ خُلُقٍ مُسْتَقِيمٍ»[10].
-
– نهج البلاغة، حكمة 441 ↑
-
– نهج البلاغة، خطبة 28 ↑
-
– غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد الآمدى التميمي، ص ٤٥٤ ↑
-
– تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد الآمدى التميمي، ص ١٠١، عيون الحكم والمواعظ، علي بن محمد الليثي الواسطي، ص ٥٤٩ ↑
-
– سورة البقرة، آية 205 ↑
-
– نهج البلاغة، خطبة 33 ↑
-
– غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد الآمدى التميمي، ص ٦١ ↑
-
– غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد الآمدى التميمي، ص ٣٣٠ ↑
-
– غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد الآمدى التميمي، ص ٤٠١، عيون الحكم والمواعظ، علي بن محمد الليثي الواسطي، ص ٢٨٤ (سِتَّةٌ تُخْتَبَرُ بِهَا (أَحْوَالُ) عُقُولِ اَلرِّجَالِ: اَلْمُعَامَلَةُ، وَ اَلْمُصَاحَبَةُ، وَ اَلْوَلاَيَةُ، وَ اَلْعَزْلُ، وَ اَلْغِنَى، وَ اَلْفَقْرُ) ↑
-
– غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد الآمدى التميمي، ص ١٢٢ ↑