محمد جواد الدمستانيمحمد جواد الدمستاني

Loading

هذا ما كنتم تتنافسون فيه بالأمس

«هذا ما بخل به الباخلون»

محمد جواد الدمستاني

يتنافس النّاس على خيرات الدّنيا و متاعها و قد يتحاسدون و يتحاربون ثم تصير إلى زوال، و الرواية عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: وَ قَدْ مَرَّ بِقَذَرٍ عَلَى مَزْبَلَةٍ : «هَذَا مَا بَخِلَ بِهِ الْبَاخِلُونَ»[1]، وَ رُوِيَ فِي خَبَرٍ آخَرَ أَنَّهُ قَالَ «هَذَا مَا كُنْتُمْ تَتَنَافَسُونَ فِيهِ بِالْأَمْسِ»[2]، فهذا الذي كنتم تنافستم و تزاحمتم عليه صار مصيره وسخ في مزبلة.

باخلون جمع باخل، و بخلاء جمع بخيل، و البخل هو الشّحّ و التّقتير و إمساك المال عن العطاء، و ضده الكرم و الجود و السّخاء.

و المعنى هو إنّ الأشياء التي كنتم تبخلون بها و تحرصون عليها و تمسكونها عن العطاء و تمنعونها، و يظلم بعضكم بعضا لأجلها و امتلاكها و الزيادة فيها صارت غايتها مزبلة، و أنّ الأطعمة اللَّذيذة التي تحرصون عليها تصبح بعد فترة في المزابل، و أنّ الذي «كنتم تتنافسون فيه» و تتسابقون عليه و تتغالبون لأجله و ربما تتقاتلون بسببه بالأمس أصبح محل نفور في مكان غير مرغوب تفر الناس من رائحته و هي المزابل.

وعليه فلو دقّق النّاس و انتبهوا من الغفلة إلى هذه الغاية لخفّت منافساتهم و قلّ بخلهم و تظالمهم، و ربما تطاحنهم، و هو المراد من الكلام.

و لا يعني ذلك أنّ النّاس لا ينبغي لها أن تأكل أطعمة لذيذة أو لا تملك مالا أبدا، و لكن ينبغي ألا يملكها المال، و أن تتصرف فيه بمخارج صحيحة و ألا تستعمله لأغراض سلبية أو للشرور، و ألا يكون بينهم تطاحن و تقاتل و تخاصم و تنازع لأجل ما يكون غايته مزابل، بل و أن يرحم بعضهم بعضا و يجود بعضهم على بعض، و ألا يبخلوا.

و النّاس عامة تتنافس في الحصول على الأموال و تحرص في صرفها، و لكنّها لا تتقيد بحسن التصرف فيها فلا تمنع نفسها من الإسراف و التبذير، بل يظهر إفراطها بوضوح في المزابل التي ترمى فيها أطنان من الطعام و الغذاء في مقابل ملايين من الجوعى في هذا العالم، و يزيد إسرافها و تبذيرها في المناسبات كالأعراس و الأفراح فترمى كميات هائلة في المزابل و في بعضها بأكثر مما يأكلون، و الإسراف حرام، قال الله تعالى: «وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ»[3].

و المطاعم و الفنادق أمكنة للسرف و خاصة تلك التي تدفع فيها قيمة الطعام مقدما و تكون كمية الأكل مفتوحة حيث يأخذون من الطعام أكثر من حاجاتهم، و يعبئون الصحون يكوّمون الطعام ثم يأكلون قليلا و يرمون الباقي في المزابل، بينما ينبغي انتشار ثقافة الاقتصار على المقدار اللازم من الطعام دون زيادة و إسراف و أنّ الإسراف حرام، و حالات الترف و إلاسراف و التبذير يقابلها في هذا العالم حالات من الجوعى و المحرومين و من يبيتون دون طعام و دون حاجاتهم الرئيسية، و بعضها يجد صعوبة للحصول على الماء.

و هذه في الاتعاظ و الاعتبار فلو اعتبر الإنسان و أدرك لرأى أنّ الأشياء إلى زوال و كل ما يملك و يحرص عليه و يبخل به فهو صائر إلى نهاية، بل و حتى هو نفسه و جسمه سيكون مصيره الموت و الفناء بمثل ما كان من مصير ما يتنافسون فيه، و في الرواية أنّ رسول الله صلى اللّه عليه و آله: «وَقَفَ عَلى مَزبَلَةٍ فَقالَ: هَلُمّوا إلَى الدُّنيا، وأخَذَ خِرَقا قَد بَلِيَت عَلى تِلكَ المَزبَلَةِ و عِظاما قَد نَخِرَت، فَقالَ: هذِهِ الدُّنيا»[4].

أما إذا لم تصل النوبة إلى المزبلة فإنّ ما يجمعه البخيل يصير إلى غيره في حياته أو بعد موته و في نهج البلاغة: قال (ع): «يَا ابْنَ آدَمَ مَا كَسَبْتَ فَوْقَ قُوتِكَ فَأَنْتَ فِيهِ خَازِنٌ لِغَيْرِكَ»[5]، و هو أولى بأمواله من غيره، و الغير هو الحادث و الوارث.

و تتضمن الحكمة ذم البخل «هَذَا مَا بَخِلَ بِهِ الْبَاخِلُونَ»[6]، أي هذا ما يجمعه الباخلون أو البخلاء و يحرمون أنفسهم و الآخرين من الانتفاع و الاستفادة منه فتكون غايته و نهايته أن يرمى في القمامة دون فائدة أو قيمة، و انّ عاقبة البخل هي الرمي في المزابل.

و فيها تحذير للبخلاء بأنّ أموالهم التي بخلوا بها و حرصوا عليها و صارت نهايتها المزابل مورد محاسبة و حسرة و ندم لهم يوم الحساب، قال تعالى: «وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُم بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ»[7].

و بها حث على الإنفاق و بذل المال فهو خير من البخل فيه و رميه و ضياعه أو الإسراف فيه، و التنافس يكون في الطاعات و الخيرات لا في حطام الدّنيا، و عوض ما يبخلون به في حياتهم و يمنعونه عمّن يحتاجه بما فيهم المحرومين و المعوزين إنفاقه و التقرّب به على الله تعالى.

  1. – نهج البلاغة، حكمة 195

  2. – نهج البلاغة، حكمة 195

  3. – سورة الأعراف، آية 31

  4. – تنبيه الخواطر ونزهة النواظر ( مجموعة ورام )، ورام بن أبي فراس المالكي الاشتري، ج ١، ص ١٣٦

  5. – نهج البلاغة، حكمة 192

  6. – نهج البلاغة، حكمة 195

  7. – سورة آل عمران، آية 180

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *