التعامل مع النّاس بالرحمة و المحبة و اللطف
النّاس صنفان إمّا أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق
نهج البلاغة – كتاب 53
محمد جواد الدمستاني
كتب أمير المؤمنين عليه السلام عهدا في إدارة شؤون الدولة إلى مالك الأشتر النخعي حينما ولاه مصر، و من ضمنه قوله عليه السلام «الناس صِنْفَانِ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ وَ إِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ»، و هو كتاب رقم 53 في نهج البلاغة، و أوصى عليه السلام في التعامل مع النّاس باللطف و الرحمة و المحبة «وَ أَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ، وَ الْمَحَبَّةَ لَهُمْ، وَ اللُّطْفَ بِهِمْ، وَ لَا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً، تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ، فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ: إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، وَ إِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ».
و هذا الكلام و إن كان موجها أساسا للرؤساء و الحكام إلا أنّه عام يصلُح لكل صاحب مسؤولية، بمراعاة هذه الوصايا المهمة، و البعد عن العنف إلى اللطف.
و «نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ»، نظير و جمعها نّظائر بمعنى المشابه بعضهم بعضا ، و ورد عنه عليه السلام : «اسْتَغْنِ عَمَّنْ شِئْتَ تكُنْ نَظِيرَهُ». الخصال،ج2ص420.
و النّاس أو الرعية أو الشعب بالنسبة للحاكم جميعا هما صنفان و قسمان: «إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ»، تشترك معه الدين الإسلامي، «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ»، الحجرات:١٠.
أو «نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ» تشترك معه في الإنسانية و ليس في الدين، فهو مشابه لك و مماثل.
و القسمان و عموم الناس يجب أن تشعر قلبك أيها الحاكم و أيها الإنسان الرحمة و المحبة لهم و اللطف بهم.
«وَ لَا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً» قاسيا معهم، عنيفا ضدهم، و إن ارتكبوا زَّلَلا أو عِلَلُا أو خطأً، عليك أن تتعامل معهم بالعفو و الصفح و التسامح « يَفْرُطُ مِنْهُمُ الزَّلَلُ، وَ تَعْرِضُ لَهُمُ الْعِلَلُ، وَ يُؤْتَى عَلَى أَيْدِيهِمْ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَإِ، فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وَ صَفْحِكَ».
و هنا عظمة الحاكم الحكيم العظيم أمير المؤمنين عليه السلام في هذه الوصايا بالرحمة و المحبة و العفو و الصفح، و هكذا كان عليه السلام.
و لكن غالبية الحكام في التاريخ و الحاضر بل و المستقبل لا يسمعون و لا يَعُون و لا يدركون إلا حين السقوط أو الموت، يتعاملون مع الشعوب بالقسوة و الشدة و الطغيان و مختلف الانتهاكات وخاصة لمن يخالفهم الرأي أو يعترض على سفههم و ظلمهم.
وهنا تأكيد على أنّ النّاس كل النّاس لهم كرامة و حقوق و إِحْتِرام دون النظر إلى أديانهم، هل هم مسلمون أو غير مسلمين، و دون النظر إلى مذاهبهم، و قومياتهم، و لغاتهم، و أصولهم، فالأصل أنّ لجميع الناس كرامة، قال الله تعالى «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ»، سورة الإسراء:70، و بني آدم كل الناس، و كلهم لهم كرامة و ينبغي التعامل معهم بمكارم الأخلاق، و الالتزام لهم بالحقوق و القيم الإنسانية، و بالاحترام و المحبة و بحسن التعايش أو التعايش السلمي، و في رواية الإمام الباقر عليه السلام، عليه السلام «صَلاحُ شَأن ِالنّاسِ التَّعايُشُ»، بحار الأنوار،ج1ص167، التعايش بالأُلفة و المودّة و المحبة.
و خلاف التَّعايُش هو التباغض والتنافر و الخُصُومة و العَداوَة، و كل هذه الصفات تجر إلى المنازعات و الاحتراب و الاقتتال حتى تصل النوبة إلى الحروب و القتل و سفك الدماء.
و الذي له الأثر الكبير على تعايش النّاس أو تنافرهم هو الحاكم نفسه، و في هذا المقام ممكن الرجوع إلى رسالة الحقوق المروية عن الإمام زين العابدين عليه السلام و اعتبارها نموذجا واضحا للقيم الإنسانية.
وفي حياة الإمام عليه السلام حصلت شواهد تطبيقية في احترام الناس و حفظ كرامتهم، مثل قصة النصراني المكفوف في شوارع الكوفة، ففي التهذيب «مَرَّ شَيْخٌ مَكْفُوفٌ كَبِيرٌ يَسْأَلُ، فَقَالَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ «مَا هَذَا»؟ فَقَالُوا يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ نَصْرَانِيٌّ، قَالَ فَقَالَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ «اِسْتَعْمَلْتُمُوهُ حَتَّى إِذَا كَبِرَ وَ عَجَزَ مَنَعْتُمُوهُ، أَنْفِقُوا عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ اَلْمَالِ». تهذيب الأحكام،ج6ص292، وسائل الشیعة،ج15ص66
قال الإمام عليه السلام: ماهذا؟ و ما قال من هذا؟ فما كان سؤاله عن الشخص بل كان عن الوضع، فالوضع غير إنساني و غير أخلاقي، فالتضامن و التكافل و مراعاة الحقوق تلزم رعايته و كفالته بعد عجزه، فقال عليه السلام «اِسْتَعْمَلْتُمُوهُ حَتَّى إِذَا كَبِرَ وَ عَجَزَ مَنَعْتُمُوهُ».
و هذا هو منطق الإسلام الحقيقي من أمير المؤمنين عليه السلام، و هو عامة منطق الأديان و الشرائع و الحضارات، و قد سبق الاسلام بقرون عديدة أولئك الذين ينادون اليوم بحقوق الإنسان من مؤسسات أو دول، على أنّ كثيرا من تلك الدول و الجهات الحقوقية لديها تجزأة و تبعيض و حدود في حقوق الإنسان، فحدودهم هي مصالحهم و مناطق نفوذهم و توابعهم، فمن كان معهم يسعون على حفظ حقوقه و من كان ضدهم يهملونه كأنه ليس صاحب حق، و من كان معهم لا يُعتبر منتهك لحقوق الإنسان مهما انتهك، و من يخالفهم يعتبرونه منتهك لحقوق الإنسان مهما كان عادلا منصفا محقا أمينا صادقا.
و هذا ما يسمى بالمعايير المزدوجة (Double standards)، و من يتعامل بهذه الكيفية فهو نفسه منتهك لحقوق الإنسان، دول كانت أو منظمات.
و من وصايا الإمام زين العابدين عليه السلام في العلاقات الاجتماعية و التعامل مع الآخرين ما روي في الاحتجاج وهي وصايا ينبغي على العالم المتحضر و الساعي إلى القيم الأخلاقية و الأفراد الناظرون لمكارم الأخلاق مع النّاس وعيها و الانتباه لها و تطبيقها، قال عليه السلام:
«أَمَا عَلَيْكَ أَنْ تَجْعَلَ اَلْمُسْلِمِينَ مِنْكَ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ بَيْتِكَ،
فَتَجْعَلَ كَبِيرَهُمْ بِمَنْزِلَةِ وَالِدِكَ،
وَ تَجْعَلَ صَغِيرَهُمْ بِمَنْزِلَةِ وَلَدِكَ،
وَ تَجْعَلَ تِرْبَكَ مِنْهُمْ بِمَنْزِلَةِ أَخِيكَ؟
فَأَيَّ هَؤُلاَءِ تُحِبُّ أَنْ تَظْلِمَ، وَ أَيُّ هَؤُلاَءِ تُحِبُّ أَنْ تَدْعُوَ عَلَيْهِ، وَ أَيُّ هَؤُلاَءِ تُحِبُّ أَنْ تَهْتِكَ سِتْرَهُ،
وَ إِنْ عَرَضَ لَكَ إِبْلِيسُ لَعَنَهُ اَللَّهُ بِأَنَّ لَكَ فَضْلاً عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ اَلْقِبْلَةِ فَانْظُرْ
إِنْ كَانَ أَكْبَرَ مِنْكَ فَقُلْ قَدْ سَبَقَنِي بِالْإِيمَانِ وَ اَلْعَمَلِ اَلصَّالِحِ فَهُوَ خَيْرٌ مِنِّي،
وَ إِنْ كَانَ أَصْغَرَ مِنْكَ فَقُلْ قَدْ سَبَقْتُهُ بِالْمَعَاصِي وَ اَلذُّنُوبِ فَهُوَ خَيْرٌ مِنِّي،
وَ إِنْ كَانَ تِرْبَكَ فَقُلْ أَنَا عَلَى يَقِينٍ مِنْ ذَنْبِي وَ فِي شَكٍّ مِنْ أَمْرِهِ فَمَا لِي أَدَعُ يَقِينِي لِشَكِّي
وَ إِنْ رَأَيْتَ اَلْمُسْلِمِينَ يُعَظِّمُونَكَ وَ يُوَقِّرُونَكَ وَ يُبَجِّلُونَكَ فَقُلْ هَذَا فَضْلٌ أَخَذُوا بِهِ
وَ إِنْ رَأَيْتَ مِنْهُمْ جَفَاءً وَ اِنْقِبَاضاً فَقُلْ هَذَا لِذَنْبٍ أَحْدَثْتُهُ،..». الاحتجاج،ج2ص319.
فإذا كان المجتمع يتعامل بهذه المعاني و القيّم و بهذه الوصايا التي يوصي بها أهل البيت عليهم السلام فإنّه بلا شك سيرتقي من الناحية الأخلاقية و الحضارية و تنتشر فيه صفات الرحمة و اللطف و سيسوده الأمن و الأمان، من الحاكم و المحكوم، و سيصل إلى درجات من السعادة و الكمال.
اللهمّ صلّ على محمد و آله، و هب لنا معالي الأخلاق، و الحمد لله ربّ العالمين، و صلّ اللهم على محمد و آله الطاهرين.