محمد جواد الدمستانيمحمد جواد الدمستاني

Loading

أهمية و ضرورة المشاورة

«لا ظهير كالمشاورة»

حكمة – 54

روي عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله «لَا غِنَى كَالْعَقْلِ، وَ لَا فَقْرَ كَالْجَهْلِ، وَ لَا مِيرَاثَ كَالْأَدَبِ، وَ لَا ظَهِيرَ كَالْمُشَاوَرَةِ»[1]، و الكلام حول الجملة الأخيرة من الحكمة و هي «لَا ظَهِيرَ كَالْمُشَاوَرَةِ»، و في غرر الحكم «كَفَى بِالْمُشَاَوَرَةِ ظَهِيراً»[2].

و الظَّهير هنا بمعنى المُعين و المساعد و النصير، و يقال هذه الأيام السند، أو الداعم، أو القوة التي تقف إلى جانب الشخص أو الجهة و تسندها، و في القرآن الكريم «والْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهيرٌ»[3]، و «فَلا تَكونَنَّ ظَهيراً لِلْكافِرينَ»[4].

يرشد أمير المؤمنين عليه السلام إلى المشاورة أو الاستشارة أو المشاورات و يبيّن أهميتها و ضرورتها، و في القرآن «وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ»[5]، و المعنى يرشد إلى أهمية المشاورة القصوى إذ لا معين و لا سند و لا داعم أقوى منها، و هي السند القويّ في حالتي النجاح و الإخفاق.

و في نهج البلاغة عدة حكم في الدعوة إلى المشاورة و أهميتها مثل: «لَا مُظَاهَرَةَ أَوْثَقُ مِنَ الْمُشَاوَرَةِ»[6]، «الِاسْتِشَارَةُ عَيْنُ الْهِدَايَةِ، وَ قَدْ خَاطَرَ مَنِ اسْتَغْنَى بِرَأْيِهِ»[7].

و لا ظهير كالمشاورة و لا كفؤ لها لأهميتها و ضرورتها، لأنها:

1- توصل إلى أصوب الآراء.

2- و لأنها تجعل الذين استشارهم الإنسان ظهرا و سندا له في العمل موضوع الاستشارة، فلا ظهير مثلها و لا مساوي لها من قوة أو كثرة عدد.

3- و لأنها تكشف الآراء المخفية غير الظاهرة أو الواضحة، و قال (ع) :«خَوَافِي الْآرَاءِ تَكْشِفُهَا الْمُشَاوَرَةُ»[8]، أي أنّ الاستشارة تكشف الآراء المخفية و المستورة قبل الاستشارة لأصحاب الأمر فإنّ كل من المستشارين ينتبه إلى جهة و معنى من موضوع الاستشارة قد يغيب عن الباقين فيقدّمه.

4- و لأن كل واحد من المستشارين يضيف من خبرته و تجاربه و نظره ما يقوّي القرار النهائي المتخذ، فتنكشف أمورا كانت غائبة عنهم و يتسع أفق تفكيرهم.

5- و لأن صاحب المشاورة أو المستشير في الحالتين ممدوح أو معذور، بمعنى إن وفق في عمله مدحه الناس، و إن لم يوفق عذره الناس، و قال عليه السلام: «مَنْ لَزِمَ الْمُشَاوَرَةَ لَمْ يَعْدَمْ عِنْدَ الصَّوَابِ مَادِحاً، وَ عِنْدَ الْخَطَأِ عَاذِراً»[9]، أما في حالة عدم الاستشارة فإنّ نصيبه المدح في حالة النجاح فقط، و أما في حالة الفشل فنصيبه اللوم و العتاب أو أكثر.

6- و لانفكاك المشير أو المستشار و هو الذي يقدّم الاستشارة من الضغط و الإرهاق و الميل النفسي فإنّه يكون أكثر راحة من الضغوط و الشروط التي تحكم المستشير (صاحب الاستشارة)، في الاستشارات الخاصة، و لديه تجرد نسبي، و حرية أكبر في التفكير مما يجعل رأيه أكثر موضوعية، قال عليه السلام: «إِنَّمَا حُضَّ عَلَى الْمُشَاوَرَةِ لِأَنَّ رَأْيَ الْمُشِيرِ صِرْف،ٌ وَ رَأْيَ الْمُسْتَشِيرِ مَشُوبٌ بِالْهَوَى»[10].

فمهما بلغ الإنسان من الخبرة و التجربة و العلم و الحنكة و البصيرة فإنّه لا غنى له من استشارة الآخرين المخلصين و أصحاب الخبرة و التجربة، فإذا خضوع موضوع الاستشارة إلى تمحيص و نقاش و تبادل آراء يثمر إلى نتائج أرشد و انضج، و يتجنب الزلل و الخطأ و النقاط السلبية، و يكون القرار النهائي أوفق و أصلح، فنعم الظهير المشاورة.

و قد أوصانا أمير المؤمنين عليه السلام بضرورة المشاورة، و عدم التفرد بالراي، فإنّها من الضروريات في الحياة و تزداد أهميتها و ضرورتها في المسائل المصيرية كفترات الأزمات و الحروب، و قد رويت عنه عليه السلام عدد من الروايات في أهمية الشورى و المشاورة و اجتناب التفرد و التوحد بالرأي لما في الشورى من فوائد، و لما للتفرد و الاستبداد من اضرار و هلاك، و ذلك في كل موقع و منصب، و في الأزمنة و الأمكنة المتعددة، و في كل جهات الحياة.

و قد تكرر من أمير المؤمنين عليه السلام الوصية بذلك و عدم الاستبداد بالرأي، و في كل زمان و مكان، و لكل فرد مهما علا شأنه و كبر ذكاؤه و عبقريته و خبرته في شؤون الحياة و النّاس، و في نهج البلاغة مقارنة أو مقابلة بين الشورى و الاستبداد، قال عليه السلام: «مَنِ اسْتَبَدَّ بِرَأْيِهِ هَلَكَ، وَ مَنْ شَاوَرَ الرِّجَالَ شَارَكَهَا فِي عُقُولِهَا»[11].

وفي كلمات أخرى يذكر أمير المؤمنين عليه السلام ظُهَراء و ظَهائِر أخرى غير المشاورة، كالحقّ و الصّبر و الحلم، قال عليه السلام: «الْحَقُّ أَقْوَى ظَهِيرٍ»[12]، أقوى معين و مساعد و مساند و ظهير هو الحق، و «نِعْمَ الظَّهِيرُ الصَّبْرُ»[13]، «لَا ظَهِيرَ كَالْحِلْمِ»[14]، و الجمع بينها هو في أنّ القوة الشديدة التي تقف مع الإنسان و تسانده و تعاضده هي الحق و الصّبر و الاستشارة و الحلم، كلٌ في موقعه.

و الإمام (ع) وصيّ رسول الله (ص)، و حجة الله على أرضه، مع إمامته و قيادته، و علمه الواسع و بصيرته و حكمته و خبرته الطويلة في الحياة عامة، و في شؤون الحرب و العسكر يأمر بالشورى و يستشير أصحابه عمليا، و قد ذكر في التاريخ عدد من الشواهد في حروبه عليه السلام في الجمل و صفين و النهروان.

فقبل حرب الجمل مير المؤمنين عليهأ

دعا ابن عباس، و محمد ابن أبي بكر، و عمار بن ياسر، و سهل بن حنيف، و أخبرهم بخروج أهل الجمل إلى البصرة، و قال (ع): «أَشِيرُوا عَلَيَّ بِمَا أَسْمَعُ مِنْكُمُ اَلْقَوْلَ فِيهِ»[15]، فأشار عليه ابن عباس بالمسير إلى الكوفة لجمع القوات من هناك، و بعث رجال يبايعوا الإمام في الكوفة، و مما أشار عليه أيضا أن يكتب إلى أم المؤمنين أم سلمة لتخرج معه في الحرب لكن الإمام رفض خروجها[16].

و قبل حرب صفين استشار الإمام المهاجرين والأنصار الذين كانوا معه، و قال عليه السلام: «أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّكُمْ مَيَامِينُ اَلرَّأْي،ِ مَرَاجِيحُ اَلْحِلْمِ، مَقَاوِيلُ بِالْحَقِّ، مُبَارَكُو اَلْفِعْلِ وَ اَلْأَمْرِ، وَ قَدْ أَرَدْنَا اَلْمَسِيرَ إِلَى عَدُوِّنَا وَ عَدُوِّكُمْ، فَأَشِيرُوا عَلَيْنَا بِرَأْيِكُمْ»[17].

فأبدى هاشم بن عتبة بن أبي وقاص رأيه، ثم عمّار بن ياسر، و قيس بن سعد بن عبادة، و سهل بن حنيف، و خطب مالك الاشتر، و عدى بن حاتم الطائي، و غيرهم أيضا فكانوا يرون محاربة معاوية، و إن كان بعضهم يراها بعد إكمال المكاتبات والمراسلات معه و إقامة الحجة عليه، و بعضهم سلّم رأيه للإمام عليه السلام فيما يراه[18].

  1. – نهج البلاغة، حكمة – 54

  2. – غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد الآمدى التميمي، ص ٥١٩، عيون الحكم والمواعظ، علي بن محمد الليثي الواسطي، ص ٣٨٦

  3. – سورة التحريم، آية 4

  4. – سورة القصص، آية 86

  5. – سورة آل عمران، آية 159

  6. – نهج البلاغة، حكمة رقم 113

  7. – نهج البلاغة، حكمة رقم 211

  8. – غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد الآمدى التميمي، ص ٨١٨

  9. – غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد الآمدى التميمي، ص ٦٥٠، عيون الحكم والمواعظ، علي بن محمد الليثي الواسطي، ص ٤٣٣

  10. – غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد الآمدى التميمي، ص ٢٧٦، عيون الحكم والمواعظ، علي بن محمد الليثي الواسطي، ص ١٧٩

  11. – نهج البلاغة، حكمة 161

  12. – غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد الآمدى التميمي، ص ٤٤، عيون الحكم والمواعظ، علي بن محمد الليثي الواسطي، ص ٤٣

  13. – غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد الآمدى التميمي، ص ٧١٧، عيون الحكم والمواعظ، علي بن محمد الليثي الواسطي، ص ٤٩٤

  14. – غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد الآمدى التميمي، ص ٧٦٨، عيون الحكم والمواعظ، علي بن محمد الليثي الواسطي، ص ٥٣٢

  15. – الجمل ، الشيخ المفيد، ص 128

  16. – الجمل ، الشيخ المفيد، ص 129

  17. – وقعة صفین، نصر بن مزاحم المنقري، ص92

  18. – وقعة صفين، ابن مزاحم المنقري، ص ٩٢

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *