المخاطرة في صحبة الحكّام و الرؤساء
«صاحب السلطان كراكب الأسد يُغبط بموقعه و هو أعلم بموضعه»
محمد جواد الدمستاني
قد يُظهر النّاس لشخص قريب من القيادة السياسية و رأس السلطة و الحاكم غبطة أو حسدا له خلاف حقيقة النظرة الواقعية في أنّ هذا القرب ليس محل غبطة و حسد بل هو محفوف بالمخاطر، قال أمير المؤمنين عليه السلام: «صَاحِبُ السُّلْطَانِ كَرَاكِبِ الْأَسَدِ يُغْبَطُ بِمَوْقِعِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَوْضِعِهِ»[1].
و السلطان بمعنى الحاكم أو الرئيس و الملك، و صاحب السلطان بمعنى صديقه أو رفيقه أو جليسه أو وزيره أو مستشاره أو مسؤول ديوانه، أو مسؤول قصره، أو غيرها من الصحبة و القرب فكلهم محفوفين بالمخاطر و علاقتهم بالحاكم مجازفة.
و الغِبطة هي أن يتمنى المرءُ مثل ما للمغبوط من النعمة أو المكانة من غير أَن يتمنّى زوالها عنه خلاف الحسد و فيه تمنّي ذلك.
أراد الإمام عليه السلام من التمثيل براكب الأسد خطورة الأمر، حيث لا يأمن راكب الأسد من الهلاك و الانقضاض عليه في أي لحظة و افتراسه، و بينما يتمنّى بعض الناس قرب السلطان و صحبة السلطان أو الملك أو الرئيس، يعلم هو -صاحب السلطان- أنّه في غاية المجازفة و المخاطرة بالنفس، و غاية الخوف والحذر، و أنّه بحركة يسيرة منه قد تكون عاقبته السجن أو القتل.
بالنسبة للأسد هذا مشاهد عمليا في بعض الميادين الاستعراضية و التي فيها ترويض بعض الأسود و قيامهم بحركات، و يأتي الأسد و صاحبه إلى الميدان، و يعجب المتفرجون بشجاعته وترويضه وهيبته و يبتهجون و يصفقون، و فجأة ينقض الأسد على صاحبه و يحاول افتراسه، فالحقيقة هي أنّ صاحب الأسد ليس بموقع الغِبطة، و كذلك ليست صحبة السلطان بموقع الغِبطة.
و بالنسبة للإنسان فإنّ صاحب السلطان الذي قد يغبطه النّاس و يرغبون بموضعه و مكانته و يظنون أنه في رفاه و نعيم هو نفسه أعلم بموقعه و حقيقته و ما يعانيه من مخاطر دائمة، و يمكن مشاهدة هذا في التاريخ الحديث ممن ينقم عليهم الحكّام و يعاقبونهم، أو ممن تقتلعهم الثورات بأنظمتهم، و في برامج الشاهدين على أزمنتهم و عهودهم في التلفزيون يرى المشاهد كيف ينقض الحكّام على أصحابهم في الحزب الحاكم أو القبيلة الحاكمة و يتآمرون عليهم و يقتلونهم، و في الدولة البعثية في العراق شاهد واضح على هذا ففي لحظة ممتلئة من العقد النفسية يقوم أعلى سلطة أو دونها رتبة بقتل رفاقه أو وزيره أو وزرائه، و يقتل أقاربه و صهره، و يقتل و يذل إدارييه، و كانوا بالأمس من المقرّبين.
و التاريخ القديم ملئ بالأمثلة و أحدها تاريخ المأمون العباسي فقد عيّن وزيره و هو باصطلاح اليوم رئيس الوزراء و هو الرجل الأول في الدولة بعد المأمون و الصاحب الأول للحاكم المأمون و هو الفضل بن سهل، ثم أراد التخلص منه فأمر بقتله، ثم تظاهر بالبراءة من قتله، و قتل القتلة الذين أمرهم بقتله و خادمه، ثم عزّى أخاه الحسن بن سهل.
و صاحب الحاكم و الرئيس الظالم من أسوأ الامتحانات و المصائب في الحياة خلافا لظاهرها المخادع، فصاحب السلطان الظالم يحتاج في صحبته إلى الكذب و النفاق و الدجل و التصنّع و التملّق، و يجره السلطان أو الحاكم للمعاصي و الذنوب بل و الكبائر و قتل النفس أو الأنفس البريئة أو تبرير قتلها، و إلى فساد متعدد الأوجه، ثم أنّه يظل في خوف وقلق دائم إذا لم يكن الحاكم أو السلطان عادلا كحال غالبية السلاطين.
و مشكلات الحاكم أو السلطان في دول الاستبداد لا حصر لها، و تبدأ من بيته و بين زوجاته و صراع أولاده، ثم بين وزرائه و مسؤوليه و ولاته، ثم الناقمين عليه، إلى الثائرين ضده، ثم الاضطرابات الداخلية، و الحروب الخارجية أحيانا، و كذلك في المشكله الكبرى في نفسه و في جدانه و اعترافه الخفي أنه ليس جديرا بالسلطة أو السلطنة أو الحكم و في الأمة أفضل منه و أعلم و أتقى و أكثر كفاءة إداريا و إخلاصا، و تحاصره عقدة الضمير و الوجدان، إلى غيرها من المشكلات التي تتجدد.
و إذا أردت أن تدرك حقيقة رأي الرؤساء في حكمهم فاقرأ ما كتبه أو قاله الحكّام قبل موتهم أو أثناء الاحتضار، فإنّ بعضهم يمهله الزمن ليقول هذه الحقيقة، يقول: «يا ليتني كنت رجلا عاديا و لم أتول من شؤون الناس شيئا»، و لكن هذا الكلام متأخر، و انتهى زمن الامتحان، و ينطبق عليه «الناس نيام فإذا ماتو انتبهوا»[2].
و المراد من الحكمة عدم الانخداع و الاغترار بظاهر الحال من حال الملوك و أصحابهم، من عزّ واهم، و ثراء خادع، و نفوذ ظالم، و أبّهة كاذبة، بل النظر إلى ماهو أبعد من ذلك و إلى تقلب أحوالهم، و سوءِ عاقبتهم.
و المعنى العام للحكمة أنّه لا تنظر دائما إلى الأمور بنظرة سطحية و بسيطة بل بأكثر من ذلك من التعمق فلا يغرنّك ظاهرها الزائف و انظر إلى ما وراء ذلك من حقيقتها، فإنّ كثيرا من الأمور يغاير عمقها ظواهرها و يباين سطحها بواطنها، و لا تنظر لظاهر حال من رغد عيش و رفاه و سلطة بل إلى ما وراء ذلك من المخاطر و المجازفات و الخوف و الترقبات التي قد يصير إليها صاحب الحاكم أو مستشاره كمثال.
و في الحكمة أيضا أنّ بعض أحوال النّاس النفسية تأتي من مقدمات غير صحيحة فتؤخذ بها نتيجة فاسدة كالحسد، فإنّ بعض حسّاد أصحاب الحكّام و من يتمنون مكانتهم في غير موضعها فليس هم في موقع الحسد بل في موقع المخاطرة، فعلى الحسّاد ترك الحسد أساسا فإن لم يستطيعوا لأنّ ذلك يحتاج جهاد نفس هم يفتقدونه فعليهم توفير حسدهم و التقليل منه و الاختصار على مواقع الحسد.
و من المعاني أن الإنسان ينبغي عليه تقدير الأمور بشكل جيد و يغوص في أعماق الأشياء في حياته عامة و مشاريعه، و لا يتسرع دون تفكر و مثاله صحبة الحكّام و السلطان و التقرب من السلطة فهي و إن كانت جالبة لمنافع بحق أو بباطل و لكنها معرضة للأخطار المفاجئة و غير المترقبة و أخرى محتملة و مكررة في تاريخ الحكّام و الشعوب و الأمم.
و عليه فمن يطمع بمنصب لدى الحاكم من رفقة أو استشارة أو صداقة يلزمه أن يقدّر العواقب و يقرأ المتغيرات فالجري وراء الانبهار بمنصب أو وظيفة قد تجر عليه حسرة و ندامة في الدّنيا و الآخرة.
فالعاقل يبتعد عن الحكّام الظالمين بل و مطلق الظالمين، و في هذا تُذكر قصة و طرفة في أيام الحجّاج الثقفي و هو الطاغية السفّاح في أنّه يوما كان يستحم بالنهر فأشرف على الغرق فأنقذه أحد المسلمين و عندما حمله إلى البر قال له الحجاج: اطلب ما تشاء فطلبك مجاب، فسأله الرجل عمّن يكون حتى يجيب أي طلب، فقال له أنّه الحجاج، فقال له الرجل: طلبي الوحيد أنني سألتك بالله أن لا تخبر أحداً أنني أنقذتك من الغرق.
و يتجنّب صحبتهم فإذا اضطر لها فليعمل بوصية أمير المؤمنين (ع) من الحيطة و الحذر «اصْحَبِ السُّلْطَانَ بِالْحَذَرِ»[3]، و إياك أن تشترك في ظلمهم، فإنّ الظلم ظلمات يوم القيامة، الرواية عن النبي (ص): «اتَّقُوا الظُّلْمَ ، فَإِنَّهُ ظُلُمَاتُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ»[4]، و اعلم أنّ هذه المكانة هي من مواطن البلاء لا الرخاء «الْمَكَانَةُ مِنَ الْمُلُوكِ مِفْتَاحُ الْمِحْنَةِ وَبَذْرُ الْفِتْنَةِ»[5].
و الروايات التحذيرية عنهم عليهم السلام في مصاحبة الحاكم الظالم شديدة إذ أنّ صحبته مقرونة بالظلم و ارتكاب المعاصي و قتل الأنفس المحترمة و غصب حقوق النّاس و أموالهم، و للإمام عليه السلام كلمات أخرى في التنفير من مصاحبة الحكام و الملوك، و روي عنه (ع) قوله:
«لَا تَرْغَبْ فِي خُلْطَةِ الْمُلُوكِ فَإِنَّهُمْ يَسْتَكْثِرُونَ مِنَ الْكَلَامِ رَدَّ السَّلَامِ وَيَسْتَقِلُّونَ مِنَ الْعِقَابِ ضَرْبَ الرِّقَابِ»[6]، في التعجرف و التكبر، و الاستهتار بالدماء.
«لَا تَطْمَعَنَّ فِي مَوَدَّةِ الْمُلُوكِ فَإِنَّهُمْ يُوحِشُونَكَ آنَسَ مَا تَكُونُ بِهِمْ وَيَقْطَعُونَكَ أَقْرَبَ مَا تَكُونُ إِلَيْهِمْ»[7]، في عدم الوفاء و الإخلاص في علاقاتهم، بل قد يتعاملون بالجحود و العقوق.
و روي عن النبي (ص) «يّاكُم ومُخالَطَةَ السُّلطانِ فإنّهُ ذَهابُ الدِّينِ، وإيّاكُم ومَعُونَتَهُ فإنّكُم لا تَحمَدُونَ أمرَهُ»[8].
-
– نهج البلاغة، حكمة 263 ↑
-
– خصائص الأئمة، الشريف الرضي، ص ١١٢، عيون الحكم والمواعظ، علي بن محمد الليثي الواسطي، ص ٦٦ ↑
-
– غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد الآمدى التميمي، ص ١٤٨ ↑
-
– الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص ٣٣٢ ↑
-
– غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد الآمدى التميمي، ص ١٢٧، عيون الحكم والمواعظ، علي بن محمد الليثي الواسطي، ص ٦٧ ↑
-
– غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد الآمدى التميمي، ص ٧٥٣، عيون الحكم والمواعظ، علي بن محمد الليثي الواسطي، ص ٥٢٣ ↑
-
– غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد الآمدى التميمي، ص ٧٦٦، عيون الحكم والمواعظ، علي بن محمد الليثي الواسطي، ص ٥٣٠ ↑
-
– مسند الرضا ( ع )، داود بن سليمان الغازي، ص ٦٤، بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج١٠، ص ٣٦٨ ↑