قرائن ومشاهدات لا تصح في نسب القرآن 2
نأتي الآن الى القرينة الأولى التي ساقها الباحث فرانسوا دوبلوا لتكون دليل على تناص وأستيحاء القرآن منها كما يدعي . هذه القرينة المدعاة هي كلمة (النسيئ)، وأن هذه الكلمة قد وجدها الباحث على نقش يمني صُنف تحت الرمز (Cih547) . النسيء لغوياً تعني تأخير وتأجيل، يقول ابن منظور في لسان العرب (نسأ الشيء ينسؤه نسأَ وأنسأه: أخره)، والنسيئة هي ممارسة دأب عليها عرب الجاهلية، حيث كانوا ينسأون الشهور، فيحلون شهر من الأشهر الحرم، وعادتاً مايكون محرم، ويحرمون بدلاً عنه شهر آخر، وهو صفر، أي أنهم يقدمون ويؤخرون حسب رغبتهم وما ترتأي مصالحهم، ويُقال أن قبيلة كنانة العدنانية، وهم من أهل الحرم المكي، هي من أسست لهذا التبديل لتسلسل الأشهر الحرم، والتي هي رجب منفرد، و(ذي العقدة، ذي الحجة،محرم) على التوالي، واٍن أول شخص أشار الى هذا الفعل يُدعى حذيفة بن عبد نعيم أو فقيم، وفقيم ترجع الى كنانة، ولما جاء الأسلام ألغى النسيئة، كما جاء في سورة التوبة آية 36 (اٍن عدة الشهور عند الله اٍثنا عشر شهراً في كتاب الله يَوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حُرم )، وجاء أيضاً (اٍنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يُحلونه عاماً ويحرمونه عاماً ليواطؤُوا عددَّة ما حَرم الله). فقد أتفق العرب على تحريم القتال في هذه الأشهر الأربعة، وهي قاعدة أرساها نبي الله أبراهيم، وتوارثت عبر الموروث العربي آنذاك، ولكنهم كسروا هذا التقليد على يد أحد أفرع قبيلة كنانة، وبالتحديد على يد أحد رجالاتها الذي ذكرنا أسمه أعلاه (حذيفة)، ولكن القبائل الأخرى أستهوت ذلك لأنه ينسجم ورغبتها بالحروب وغزوا بعضهم البعض، فهذه القبائل لا يهدأ لهم بال بدون الحروب لأنهم يعتبروها أحد مصادر عيشهم، وتعويد تعودوا عليه، بل ويفتخرون به، حتى قال شاعرهم مفاخراً:
ألسنا الناسئين على معد
شهور الحل نجعلها حراما
*
وأي الناس لم يدرك بذكر
وأي الناس لم يعرف لجاما
فهم يفتخرون بهذا التبديل والأحلال لهذه الشهور المحرم فيها القتال، ويعتبرونه مفخرة، لأنهم كسروا عرفاً لم يجرأ أن يكسروه سابقاً غيرهم، مفضلين الحرب على السلام، والنهب والسلب على التبادل التجاري السلمي . أنها شريعة الغاب، فجاء الأسلام، فحرم النسيئة، وأعادها الى منوالها الأول الذي أسس له النبي أبراهيم الخليل، مادامت شُعيرة تعيد الأمن والأمان والأستقرار للمجتمع الأنساني، والعمل على تثبيت حالة من الهدوء لمجتمع أَلف الحروب . يتبين من خلال هذا السرد التاريخي لظاهرة النسيئة، أنها ذات منشأ مقره وسط الجزيرة العربية، وهم من أصلوا لها على يد أحد أفراد عشيرة كنانه، المدعو حذيفة بن عبد نعيم، وهناك من قال (صفوان بن محرث)، الذي هو أيضاً من كنانة، والذي يتبين لنا إن النسيئة لا علاقة لها باليهود وممارساتهم،لأن اليهود كانوا يُضيفوا شهر واحد كل سنتين أو ثلاث سنوات على أساس الدورة الميتوتية (القرآن ونقوش اليمن ص98) وهذه يقوم بها اليهود لكي تناسب شهور فصول السنة، وهو ما يُسمى اليوم بالسنة الكبيسه، فالعملية هي عملية أضافة، وليس تأجيل وتبديل كما هي النسيئة عند عرب الجاهلية، وحتى لو نأتي الى كلمة نسيء في اللغة العبرية، فهي تعني (أمير) كما يقول الباحث الأسكندنافي (موبيرج) في مقالة له بعنوان(nasi)، وهنا يعني أن هذه الكلمة لا صلة لها مع الصيغة العربية نسيء، التي تعني التأجيل والتأخير، فالفرق واضح وكبير، فهو تماثل باللفظ ومختلف بالمعنى، والمعنى هو الأصل في اللغة، لأن الألفاظ فقط أوعية للمعنى وحاملة لها .
وفي أنتقالة للنقوش اليمنية، نجد أن هناك باحث يُدعى (هاليفي) في سبعينات القرن التاسع عشر يقول أن النقش المعروف بأسم (NASi) هو نقش توبة يقدم فيه أبناء عشيرتين أعتذارهم للإله (حلفان) عن أهمالهم في أداء عمل طقسي يُسمى مطرد، والذي أقترح الباحث بيستون ترجمته بمعنى (صيد طقسي)، وهنا ينبغي التأكيد على كلمة أقتراح من قِبل الباحث بيستون، وهو أقتراح على سبيل الأفتراض، وهو أفتراض قابل للصدق والكذب كما يقول الفيلسوف الأمريكي اٍريك هيرش، كما ذكرنا بالحلقة الأولى حول الحدس في تفسير النصوص، ونحن وأن أخذنا بها، فهي لا تتفق وما جاء من معنى النسيئة التي جاءت بالقرآن الكريم، لا لغةً ولا أصطلاحاً.-
تبين لنا من خلال ترجمة بيستون للنقش (CIH547) بأنه غير أكيد، على أعتبار أنه أقتراح بمعنى (صيد طقسي)، ألا أننا نتساير معه على أقتراحه، ولكن نقول ما علاقة الصيد الطقسي، وماقاموا بتأجيله بسبب أنشغالهم بالحرب، مما أدى الى أنشغالهم بعبادة الرب (حلفان)، وقد أدوه في شهر ذو عثتر بدل ذو موصب والمعنى الذي جاء به القرآن، المختلف معه قصداً، مما يعني حسب الباحث أنهم أجلوا أداء طقوسهم لربهم حلفان شهرين، مما جعله يغضب عليهم، ويمنع عنهم المطر خلال موسم الرياح الربيعية. لقد شعر عرب اليمن بهذا الخطأ الجسيم، وأعتبروها محنة نزلت عليهم بسبب غضب الرب، فَدَونوا هذا النقش الأسترضائي حسب تعبير الباحث . متعهدين بعدم تكرار خطئهم.
أننا لو عملنا مقارنة، مع فرض أن كلمة نسيء تحمل معنى التأجيل والتأخير في القرآن، وفي النقش اليمني، لكن هناك أختلاف كبير في المقاصد، ففي القرآن وصف من كسر مبدأ الشهر الحرم بأنه زيادة بالكفر، أي أيغال بالكفر على كفرهم، وهو أمر متعمد، ناجم عن رغبة مع سبق الأصرار، في حين النسيء (التأجيل) عند عرب اليمن كان أنشغال غير متعمد، وقد ندموا عليه، في حين تأجيل عرب مكة وكسرهم لهذا المبدأ يتفاخرون به، وقد عبر شاعرهم عمير بن القيس عن هذا الأفتخار بشعر ذكرناه أعلاه. كما أن اليمنيون، هم من قرروا عدم تكرار ماحدث، في حين في القرآن أن الأسلام هو من أوقف هذا التجاوز في عملية كسر توال الأشهر الحرم، وأستبدال شهر بدل شهر آخر رغبةً في أستئناف الحرب والغزوات الأعتدائية. هنا نتسائل، بأي تماثل يحتج به هؤلاء المستشرقون والباحثون بين نقوش اليمن، وبين ما جاء في القرأن في موضوع النسيئة. أذن َتوفر لنا أكثر من سبب يدعونا الى أن لاصلة بين النسيئة اليمنية، وما جاء بالقرآن، فهناك بُعد زمني كبير بينهم، حيث يشير الباحث الى أن النقش عُمل فيما بين (200 -100) قبل الميلاد، في حين أن بعثت الرسول محمد 615م، وهو بداية نزول القرآن،حتى وفاته 632م (الأسلام-ويكيبيديا).، أضافة الى الأختلاف في المقاصد، ففي القرآن كان تغيرهم لمبدأ الأشهر الحرم تعمدي، ومتكرر، ولغرض أعتدائي، في حين تأخر أهل اليمن غير تعمدي، وكان لمره واحدة، وقُبل بالأعتذار والأسترضاء، في حين الحالة المكية متكرره، ومتعمده، ومصره على الأستمرار، كما في الحالة اليمنية هناك تكفير عن الذنب، أما في الحالة المكية هناك مظاهر أفتخار وأعتداد، كما نرى بالحالة اليمنية، هم من تراجعوا عن فعلتهم، في حين في الحالة المكية، فرض عليهم القرآن التراجع عن فعلتهم أمتثال لمبدأ أُرسي من زمن أبراهيم، في حين في الحالة اليمنية كان أمتثال لحالة وثنية، لا علاقة لها أطلاقاً بما جاء به القرآن، لأنه ينتمي لحالة سماوية.
الخلاصة أن النقوش اليمنية، الحدسية المعنى والتأويل على قول بيستون لا يمكن أن تفيد بأنها تساهم في فهم سياق ما جاء بالقرآن الكريم من أوامر وتعليمات، لا على المستوى النصي، ولا القصدي…يتبع
***
أياد الزهيري