الإيثار
في زيارة الأربعين
محمد جواد الدمستاني
الإيثار هو تفضيل الإنسان غيرَه على نفسه، و الفعل آثرَ، قال الله تعالى «وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ»، سورة الحشر:9، و يقابله الأَثَرة، و هو حُبّ النَّفس، أو تفضيل الإنسان نفسَه على غيره، الاستئثار، الأنانيَّة.
الإيثار و تفضيل الغيرَ على النفس هي قيمة دينية يحث عليها الشرع، و في رواياتهم عليهم السلام كثيرا من التأكيدات عليها، و بيان منزلتها:
و في غرر الحكم عن أمير المؤمنين عليه السلام: «خَيْرُ الْمَكَارِمِ الْإِيثَارُ»،ص354، «الْإِيثَارُ أَشْرَفُ الْإِحْسَانِ»، ص32، «الْإِيثَارُ أَشْرَفُ الْكَرَمِ»، ص51، «الْإِيثَارُ سَجِيَّةُ الْأَبْرَارِ وَ شِيمَةُ الْأَخْيَارِ»،ص128. «أَفْضَلُ اَلسَّخَاءِ اَلْإِيثَارُ»،ص187.
و الدعوة للمؤمنين بالإيثار «عَامِلْ سَائِرَ النَّاسِ بِالْإِنْصَافِ، وَ عَامِلِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْإِيثَارِ»، غرر الحکم،ص467.
و هذه الصفة و السجية تبيّن مكانة و سيادة أصحابها، و جوهر معدنهم، و قد تترشح بها صفات و فضائل أخرى، و لها تأثير كبير في استمالة و جذب النّاس لصاحبها دون تكلف.
و أحد مظاهر و صفات خدمة الأربعين و مواكبه و زواره هو الإيثار، و خاصة عند أصحاب المواكب، و إيثارهم على أنفسهم كنوع من الفداء و التضحية بما يملكون في خدمة زوار الحسين عليه السلام في الأربعين، و يقوم به أصحاب المواكب و خدمة الزوار كنوع من التعهد و الالتزام الديني و الأخلاقي بخدمة الزائرين على حساب أنفسهم في كل خدمة يستطيعون تقديمها.
الأربعين مكان و مظهر الإيثار في العالم، و مظاهر الإيثار في كل زاوية من مسير و إقامة زوار الحسين و مواكبه، مظهر الإيثار في تقديم الأطعمة، و مظهر الإيثار في الخروج من بيوتهم و تفريغها للزوار، و في كثير من المواصلات و الإقامات في كربلاء في الأربعين، و كل هذه بركات من المولى أبي عبد الله عليه السلام، و آل محمد صلوات الله عليهم.
و قد التقطت في أحد مواسم الأربعين صورة معبرة و مؤثرة في بيان الإيثار و انتشرت في برامج التواصل الاجتماعي و هي مجموعة من الزوار يتغذون في الشمس و يبدو أنّ الوقت ظهرا مع ارتفاع الحرارة، و حولهم مجموعة من الشباب يبدو أنّهم من أعضاء الموكب المضيّف يظللون لهم عن حرارة الشمس و أشعتها بكل سعادة و سرور و إخلاص، فهم يتحملون الشمس الحارقة و يَقُون زوار الحسين عليه السلام منها.
و صورة أخرى حصلت أمامي في السنة الماضية حيث مشينا أنا و أحد الأخوة الحجاج من أصحاب قوافل و حملات زيارة الأربعين بعد الظهر مباشرة، في حدود الساعة الثانية ظهرا أو أقل، قبل الأربعين بأيام و تقريبا بتاريخ 18 صفر 1446هـ و يوافق 23-08-2024م، و ترافقنا رغم صعوبة الحركة في هذا الوقت، و تحركنا من موكب بيت الأحزان و يقابله موكب شيعة بلجيكا و يقع في العمود 335 بين النجف و كربلاء، و كان يوم شديد الحرارة في العراق، و الشمس لا ظل لها ظهرا، و الطريق قليل الزوار في هذا الوقت، و كنا نضع الكوفية أو الشماغ أو الغترة فوق رؤوسنا لحمايتنا من أشعة الشمس و ضرباتها، و إذا بزائرين يمشيان أمامنا أحدهما لا شيء فوق رأسه في وقت الظهر، و إذا برفيقي قد رفع كوفيته و وضعها فوق رأس حاسر الرأس في جو من الإيثار عجيب، و قد أخجلنا جميعا، و حينما عرضت عليه لاحقا أن يأخد ما كنت أضعه فوق رأسي رفض، كما رفض أن نشتري له من الطريق كوفية أخرى، و هذا أحد مصاديق الإيثار و قد حدث بصورة عفوية، و مع احتمال خطورة قوية من حدوث ضربة الشمس المؤذية في هذا الوقت من اليوم و من السنة، حماه الله و الزوار جميعا و أظلهم بظله في يوم لا ظل إلا ظله، ببركة الحسين و آل محمد صلوات الله عليهم.
و أهل البيت عليهم السلام مظهر الإيثار، و قد نزل فيهم قوله تعالى «وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا»، سورة الإنسان:8-9. يؤثرون غيرهم على أنفسهم مع الحاجة الماسة إلى الطعام.
و روي «اِشْتَرَى عَلِيٌّ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ ثَوْباً فَأَعْجَبَهُ فَتَصَدَّقَ بِهِ، وَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ يَقُولُ: مَنْ آثَرَ عَلَى نَفْسِهِ آثَرَهُ اَللَّهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ اَلْجَنَّةَ». تفسير نور الثقلين،ج5ص285
و كذلك روي: إنّ أمير المؤمنين عليه السلام أتى سوق الكرابيس فإذا هو برجل وسيم فقال: يا هذا عندك ثوبان بخمسة دراهم؟ فوثب الرجل فقال: نعم يا أمير المؤمنين، فلما عرفه مضى عنه و تركه فوقف على غلام فقال له: يا غلام عندك ثوبان بخمسة دراهم؟ قال: نعم عندي ثوبان أحدهما أخير من الآخر واحد بثلاثة و الآخر بدرهمين، قال: هلمهما فقال: يا قنبر خذ الذي بثلاثة.
قال: أنت أولى به يا أمير المؤمنين تصعد المنبر و تخطب الناس.
قال: يا قنبر أنت شاب، و لك شره الشباب، وأنا أستحي من ربي أن أتفضل عليك لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه و آله يقول: ألبسوهم مما تلبسون و أطعموهم مما تأكلون، ثم لبس القميص ومد يده في ردنه فإذا هو يفضل عن أصابعه فقال: يا غلام اقطع هذا الفضل فقطعه، فقال الغلام: هلم أكفه يا شيخ فقال: دعه كما هو فإن الأمر أسرع من ذلك. بحار الأنوار،ج100ص94.
و أعظم من ذلك الجود بالنّفس كما في مبيت الإمام عليه السلام على فراش النبي صلى الله عليه و آله لحمايته من المشركين و نجاته، فهو إيثار لنفس رسول الله (ص) على نفسه (ع)، روي عَنْ جَابِرٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ: أَمَّا قَوْلُهُ: «وَ مِنَ اَلنّٰاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ اِبْتِغٰاءَ مَرْضٰاتِ اَللّٰهِ وَ اَللّٰهُ رَؤُفٌ بِالْعِبٰادِ» فَإِنَّهَا أُنْزِلَتْ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ حِينَ بَذَلَ نَفْسَهُ لِلَّهِ وَ لِرَسُولِهِ لَيْلَةً اِضْطَجَعَ عَلَى فِرَاشِ رَسُولِ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ لَمَّا طَلَبَتْهُ كُفَّارُ قُرَيْشٍ». تفسیر العیاشی،ج101.
روي عن الإمام الصادق عليه السلام في كيفية المعاملة مع النّاس و معرفة خاصة الله و المقرّبين له و أوليائه، فذكر أحد أصول المعاملة الإيثار بالموجود، قال في مصباح الشريعة:
«أُصُولُ مُعَامَلَةِ اَلدُّنْيَا سَبْعَةٌ: اَلرِّضَا بِالدُّونِ، وَ اَلْإِيثَارُ بِالْمَوْجُودِ وَ تَرْكُ طَلَبِ اَلْمَفْقُودِ، وَ بُغْضُ اَلْكَثْرَةِ، وَ اِخْتِيَارُ اَلزُّهْدِ، وَ مَعْرِفَةُ آفَاتِهَا، وَ رَفْضُ شَهَوَاتِهَا، مَعَ رَفْضِ اَلرِّئَاسَةِ فَإِذَا حَصَلَتْ هَذِهِ اَلْخِصَالُ فِي نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَهُوَ مِنْ خَاصَّةِ اَللَّهِ وَ عِبَادِهِ اَلْمُقَرَّبِينَ وَ أَوْلِيَائِهِ حَقّاً». مصباح الشريعة، ص5.
و الإيثار في مدرسة كربلاء العظمى، فهي مدرسة الإيثار و الفداء و التضحيات، حيث تتجسّد في المواقف كلها معاني الإيثار و الشهادة، و منها إيثار أبي الفضل العبّاس عليه السلام حينما وصل إلى الماء و لكنّه أبى أن يشرب و رمى الماء من يده، و قال:
يا نَفْسُ من بعدِ الحسينِ هُوني و بعدَهُ لاَ كُنْتِ أنْ تَكوني
هذا حسينٌ واردُ المَنونِ و تَشْربينَ بارِدَ المَعينِ
تاللهِ ما هذا فِعالُ دِيني و لا فِعَالُ صَادِقِ اليقينِ
حتى استشهد ظمآنا عليه السلام.
و في دعاء مكارم الأخلاق «اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ،..، وَ أجْرِ لِلنّاسِ عَلى يَديَ الخَيْرَ، وَلا تَمْحَقْهُ بِالمَنِّ، وَهَبْ لي مَعالِيَ الأخْلاقِ، وَاعْصِمْني مِنَ الفَخْرِ»، و الحمد لله ربّ العالمين، و صلّ اللهم على محمد و آله الطاهرين.