ما كل مفتون يُعاتب
محمد جواد الدمستاني
إنّ الذين انخرطوا و انغمسوا في الفتنة بدرجة كبيرة قد تجاوزوا مرحلة اللوم و التأنيب و لايفيد معهم العتاب، و بعض الذين افتتنوا لهم قابلية الإصلاح و الرجوع، أو كانت فتنتهم بسبب عروض شبهة أوجبت التباس الأمور عليهم و ينفع معهم العتاب هؤلاء تُقدم لهم النصيحة و التذكير، و قد روي عن أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة قوله «مَا كُلُّ مَفْتُونٍ يُعَاتَبُ»[1].
المَفْتُون يعني الداخل في الفتنة، و المعنى أنّه ليس كل داخل في فتنة يوجّه إليه عتاب أو يُعاتب، و ليس كلّ مبتلى بمعصية ينفع معه عتاب، و تقال أيضا عند اليأس من تأثير الموعظة أو النصيحة في قلب المفتون «مَا كُلُّ مَفْتُونٍ يُعَاتَبُ»، فلا تفيد فيه النصيحة.
و الفتنة هنا في حديث الإمام عليه السلام و مناسبة كلامه بمعنى الافتتان و الانخداع بالدّنيا، و التعلق بها على حساب الحق، وليس المراد بها التباس الحق بالباطل و عدم التمييز، لأن المناسبة التي قيلت فيها و الأشخاص المعنيين كانوا يعرفون الحق و يعترفون به، فقد قال أمير المؤمنين عليه السلام هذه الكلمة لسعد بن أبي وقّاص، و محمّد بن مسلمة، و عبد الله بن عمر – كما يذكر ابن أبي الحديد – لما امتنعوا من الخروج مع الإمام عليه السلام لحرب أصحاب الجمل، و هم يعرفون الإمام حق المعرفة، و قال الإمام عليه السلام فيهم «خَذَلُوا الْحَقَّ وَ لَمْ يَنْصُرُوا الْبَاطِلَ»[2].
والمفتون هنا أو المفتونين غير معذورين، و قد أمر رسولُ الله صلّى الله عليه و آله أميرَ المؤمنين عليّا عليه السلام بقتال الناكثين و القاسطين و المارقين، و قال النبي صلَّى الله عليه و آله و سلّم فيه: «عَلِيٌّ مَعَ اَلْحَقِّ وَ اَلْحَقُّ مَعَ عَلِيٍّ لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ اَلْحَوْضَ»[3]، و قال (ص): «يَا عَمَّارُ إِنْ رَأَيْتَ عَلِيّاً قَدْ سَلَكَ وَادِياً وَ سَلَكَ اَلنَّاسُ كُلُّهُمْ وَادِياً فَاسْلُكْ مَعَ عَلِيٍّ فَإِنَّهُ لَنْ يُدْلِيَكَ فِي رَدًى وَ لَنْ يُخْرِجَكَ مِنْ هُدًى»[4].
و يُفهم من الكلام أنّ بعض المفتونين يعاتبون، (مَا كُلُّ مَفْتُونٍ يُعَاتَبُ، بل بعض المفتونين يعاتبون)، فإذا كان سبب الفتنة حبّ الدّنيا و انغماس المفتون فيها و مرض القلب فلا يُعاتب مفتونها إذ العتاب لا نتيجة له، و أمّا إذا كان سبب الفتنة التباس الأمور على المفتون و له قابلية الرجوع إلى الحق و الصواب بعد العتاب و البيان فهو ممن يُنصح و يُرشد إلى الصواب و يُعاتب، أو يعاتبون، و بعد العتاب قد يتراجعون، أو يتوبون و يهتدون، و في معركة الجمل فإنّ المشهور المتداول أنّ الزبير خرج من بين الصفوف و انسحب من المعركة بعد كلام أو حوار مع أمير المؤمنين عليه السلام و عتابه، و في معركة النهروان انسحب عدد كبير من الخوارج بعد حوار ابن عباس معهم و إقناعهم.
وممكن التوسع في معنى كلمة «مَفْتُون»، فإنّ كلمة مفتون تأتي بمعنى منحرف عن الطريق الصحيح، و تأتي مفتون بشيء بمعنى مُوَلّهٌ بِه، و تأتي مفتون بمعنى من يفعل ما لا ينبغي فعله، كما أنّ عموم الفتنة يشمل فتنة المال و السلطة و الهوى، فإذا وُجد أو رؤي مفتون قد لا يكون مناسبا توجيه العتاب أو اللوم أو التوبيخ له مباشرة، بل يُنظر في وضعه، و تُشخّص حالتُه و معرفة السبب في افتتانه، و هل لديه عُذر أو ليس لديه عُذر، قاصر أو مقصّر أو جاهل، و عليه تكون طريقة التعامل معه: يُعاتب أو لا يُعاتب، يُنصح أو لا يُنصح، و السعي في هدايته و توجيهه و إرشاده و تحذيره، و اتخاذ الموقف الأنسب لحالته.
و المعنى العام للحكمة أنّ ليس كل من أخطأ يستحق اللوم و العتاب و لا تُقدم له النصيحة مباشرة، فإنّ بعض من يخطئون أسير لجهله و قدر تفكيره و محدودية فهمه، و آخرون يخطئون مع كامل الانتباه منهم و الإصرار فهؤلاء الذين يستحقون اللوم و العتاب و التأنيب و حتى التعنيف.
و عامة فإنّ النّاس متعددون في قبول النصيحة و التوجيه فمنهم من يتأثر بها و يهتدي، و منهم من يجادل و يكابر، و ليس له قابلية للهداية، فإنّ نصيحة هؤلاء لغو دون فائدة، فمن يظهر تكبرا و إصرار على الباطل لا مجال لعتابه و نصيحته، و الحكيم يختار من يستحق التوجيه و من له قابلة الهداية، إلا أن يكون العتاب أو النصيحة أو التحذير لإقامة الحجة عليهم و لئلا يقولوا لولا أرسلتم لنا ناصحا من قبل أن نذل و نخزى.
و الحكمة تتضمن دعوة للإصلاح مع أصحاب اللياقة و القابلية، «وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ»[5]، و الحذر ممن ليس لهم قابلية «أَتَوَاصَوْا بِهِ ۚ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ»[6].
ولعل الشاعر أبو فراس الحمداني اقتبس هذا المعنى في قوله:
وَ ما كُلُّ فَعّالٍ يُجازى بِفِعلِهِ وَ لا كُلُّ قَوّالٍ لَدَيَّ يُجابُ
-
– نهج البلاغة – حكمة 15 ↑
-
– نهج البلاغة – حكمة 18 ↑
-
– الجمل و النصرة، الشيخ المفيد، ص 433 ↑
-
– بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج38، ص 38 ↑
-
– سورة الذاريات، آية 55 ↑
-
– سورة الذاريات، آية 53-54 ↑