ليس العجب ممن نجا كيف نجا، و أمّا العجب ممّن هلك كيف هلك
عظمة و سعة رحمة الله
محمد جواد الدمستاني
روي عن الإمام زين العابدين عليه السلام «لَيْسَ اَلْعَجَبُ مِمَّنْ نَجَا كَيْفَ نَجَا، وَ أَمَّا اَلْعَجَبُ مِمَّنْ هَلَكَ كَيْفَ هَلَكَ مَعَ سَعَةِ رَحْمَةِ اَللَّهِ»، بحار الأنوار،ج75،ص153، هذا بيان لعظمة و سعة رحمة الله، و المعنى أنّ دخول الجنة ليس أمرا عجيبا للبشر أو الخلق، و لكن العجيب هو دخولهم النار مع سعة رحمة الله.
و مناسبة الحديث هو أنّه قيل لعليّ بن الحسين عليه السلام يوما إنَّ االحسن البصريّ قال: «لَيْسَ اَلْعَجَبُ مِمَّنْ هَلَكَ كَيْفَ هَلَكَ، وَ إِنَّمَا اَلْعَجَبُ مِمَّنْ نَجَا كَيْفَ نَجَا!».
فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: «أَنَا أَقُولُ لَيْسَ اَلْعَجَبُ مِمَّنْ نَجَا كَيْفَ نَجَا، وَ أَمَّا اَلْعَجَبُ مِمَّنْ هَلَكَ كَيْفَ هَلَكَ مَعَ سَعَةِ رَحْمَةِ اَللَّهِ!».
و الكلام حول سعة رحمة الله الرحمن الرحيم، رحمة الله التي تشمل الإنسان في الدنيا من ولادته حتى مماته، و في الآخرة، و في كل مراحل وجوده، و قد ذكر الله في كتابه عدد كبير من الآيات حول الرحمة الإلهية، و بدأ السور القرآنية بـــ «بسم الله الرحمن الرحيم»، فاختار من أسمائه صفتي الرحمن الرحيم دون غيرها من اسمائه الحسنى، و ذكر الله رحمته و سعتها في الآيات الكريمة، قال تعالى:
«رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ» في سورة غافر:7.
«وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ». سورة الأعراف:١٥٦
«سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ»، الأنعام: ٥٤.
«كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ». سورة الأنعام:١٢
و في الحديثِ القُدسِيّ كما في بحار الأنوار «وَ قَالَ سُبْحَانَهُ أَهْلُ طَاعَتِي فِي ضِيَافَتِي، وَ أَهْلُ شُكْرِي فِي زِيَادَتِي، وَ أَهْلُ ذِكْرِي فِي نِعْمَتِي، وَ أَهْلُ مَعْصِيَتِي لاَ أُويِسُهُمْ مِنْ رَحْمَتِي، إِنْ تَابُوا فَأَنَا حَبِيبُهُمْ، وَ إِنْ دَعَوْا فَأَنَا مُجِيبُهُمْ، وَ إِنْ مَرِضُوا فَأَنَا طَبِيبُهُمْ، أُدَاوِيهِمْ بِالْمِحَنِ وَ اَلْمَصَائِبِ لِأُطَهِّرَهُمْ مِنَ اَلذُّنُوبِ وَ اَلْمَعَايِبِ». بحار الأنوار ،ج74، ص 42، يا أرحم الراحمين.
و قد وردت روايات كثيرة في رحمة الله سبحانه و تعالى و سعتها، و منها:
الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام في أمالي الصدوق: «إِذَا كَانَ يَوْمُ اَلْقِيَامَةِ نَشَرَ اَللَّهُ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى رَحْمَتَهُ حَتَّى يَطْمَعَ إِبْلِيسُ فِي رَحْمَتِهِ». الأمالی (للصدوق)، ج1، ص205
و في البحار عن كنز جامع الفوائد عن الصادق عليه السّلام في قوله تعالى: «وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ»، البقرة:١٠٥، قال: المختصّ بالرحمة نبيّ اللّه و وصيّه (صلوات اللّه عليهما و آلهما)، انّ اللّه خلق مائة رحمة، تسعة و تسعون رحمة عنده مذخورة لمحمّد و عليّ و عترتهما عليهم السّلام و رحمة واحدة مبسوطة على ساير الموجودين». بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج ٢٤، ص ٦٢.
فرسول الله و آله صلوات الله عليهم مظهر رحمة الله، قال تعالى «وَمٰا أَرْسَلْنٰاكَ إِلاّٰ رَحْمَةً لِلْعٰالَمِينَ» أي أنك رحمة مرسلة إلى البشرية جمعاء، المؤمن منهم و الكافر.
و في كنز العمال عن النبي صلى الله عليه و آله: «إنّ اللَّهَ تعالى خَلَقَ مائةَ رحمَةٍ، فرحمَةٌ بينَ خَلقِهِ يَتَراحَمُونَ بها، وادَّخَرَ لأوليائهِ تِسعَةً وتِسعينَ». كنز العمال،ج٣،المتقي الهندي، ص٩٧،ميزان الحكمة، ج٤، محمد الريشهري،ص٣٨٨.
و كنز العمال أيضا عن رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه و آله: «إنّ اللَّهَ تعالى خَلَقَ مِائةَ رَحمَةٍ يَومَ خَلَقَ السماواتِ والأرضَ، كُلُّ رحمةٍ مِنها طِباقُ ما بينَ السماءِ والأرضِ، فَأهبَطَ رَحمَةً مِنها إلى الأرضِ فَبِها تَراحَمَ الخَلقُ، وبها تَعطِفُ الوالِدَةُ على وَلَدِها، وبها تَشرَبُ الطيرُ والوُحوشُ مِن الماءِ، وبها تَعِيشُ الخلائقُ». كنز العمال، المتقي الهندي، ج٤، ص٢٧٣.
و في سعة الرحمة الإلهية روي عن الإمام الصادق عن آبائه عليهم السلام عن رسول الله صلى الله عليه و آله «أَوْحَى اَللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ إِلَى دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ يَا دَاوُدُ كَمَا لاَ تَضِيقُ اَلشَّمْسُ عَلَى مَنْ جَلَسَ فِيهَا كَذَلِكَ لاَ تَضِيقُ رَحْمَتِي عَلَى مَنْ دَخَلَ فِيهَا». الأمالی (للصدوق)، ص305
و الرواية عن الإمام الكاظم عليه السلام «فَمَا ظَنُّكَ بِالرَّءُوفِ اَلرَّحِيمِ، اَلَّذِي يَتَوَدَّدُ إِلَى مَنْ يُؤْذِيهِ بِأَوْلِيَائِهِ فَكَيْفَ بِمَنْ يُؤْذَى فِيهِ، وَ مَا ظَنُّكَ بِالتَّوَّابِ اَلرَّحِيمِ اَلَّذِي يَتُوبُ عَلَى مَنْ يُعَادِيهِ فَكَيْفَ بِمَنْ يَتَرَضَّاهُ وَ يَخْتَارُ عَدَاوَةَ اَلْخَلْقِ فِيهِ»، بحار الأنوار،ج1،ص155.
و عن الإمامُ زينُ العابدينَ عليه السلام في مُناجاتِه: «يا مَن هُو أبَرُّ بِي مِن الوالِدِ الشَّفيقِ، و أقرَبُ إلَيَّ مِن الصاحِبِ اللَّزِيقِ (الرَّفِيقِ)، أنتَ مَوضِعُ انسِي في الخَلوَةِ إذا أوحَشَنِي المكانُ، ولَفَظَتنِي الأوطانُ». بحار الأنوار،ج91، ص153
أمير المؤمنين عليه السلام «لَئِنْ ثَبَتَتْ قَدَمُكَ، وَ تَمَّتْ وَلاَيَتُكَ، وَ اِنْبَسَطَتْ يَدُكَ، فَاللَّهُ أَرْحَمُ بِكَ مِنْ نَفْسِكَ». الأمالي (للطوسی)،ج1ص173.
و في تصوير رحمة الله ما روي عن النبي صلى الله عليه و آله: قُدِمَ على النبيّ صلى الله عليه و آله بِسَبِيٍّ فإذا امرأةٌ مِن السَّبِيِّ تَسعى إذ وَجَدَت صَبيّاً في السَّبِيِّ أخَذَتهُ فَألصَقَتهُ بِبَطنِها وأرضَعَتْهُ، فقالَ لنا النبيُّ صلى الله عليه و آله: أتَرَونَ هذِه طارحَةً وَلَدَها في النارِ؟ قلنا: لا، وهِي تَقدِرُ عَلى أن لا تَطرَحَهُ، فقالَ: اللَّهُ أرحَمُ بعِبادِهِ مِن هذِهِ بوَلَدِها. كنز العمال، المتقي الهندي، ج ٤، ص ٢٧٣.
و عن الرسول صلى الله عليه و آله: «لَو تَعلَمُونَ قَدْرَ رحمَةِ اللَّهِ تعالى لَاتَّكَلتُمْ علَيها». كنز العمال، المتقي الهندي، ج ٤، ص٢٥٠
و ذكر في الروايات ما يوجب الرحمة فقد روي عن أمير المؤمنين عليه السلام: «بِذِكرِ اللَّهِ تُستَنزَلُ الرحمَةُ»، عیون الحکم،ج1ص188، «بالعَفوِ تُستَنزَلُ الرحمَةُ»، «رحمَةُ الضُعَفاءِ تَستَنزِلُ الرحمَةَ»، غرر الحکم، ص303، «بِبَذلِ الرحمَةِ تُستَنزَلُ الرحمَةُ»، غرر الحکم،ص305.
كما أنّ الظلم و القسوة مع النّاس تمنع الرحمة «مَن لم يَرحَمِ الناسَ مَنَعَهُ اللَّهُ رحمَتَهُ»، غرر الحکم، ص651
و قد بدأ أمير المؤمنين عليه السلام الدعاء في دعاء كميل برحمة الله الواسعة، قال: «اَللّـهُمَّ اِنّي أَسْأَلُكَ بِرَحْمَتِكَ الَّتي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْء»، فقد سأل الله بالرحمة أول ثم بالقوة و الجبروت و العزّة و العظمة و بالأسماء و الصفات، قال عليه السلام «وَ بِقُوَّتِكَ الَّتي قَهَرْتَ بِها كُلَّ شَيْء، وَ خَضَعَ لَها كُلُّ شَيء، وَ ذَلَّ لَها كُلُّ شَيء، وَ بِجَبَرُوتِكَ الَّتي غَلَبْتَ بِها كُلَّ شَيء، وَ بِعِزَّتِكَ الَّتي لا يَقُومُ لَها شَيءٌ، وَ بِعَظَمَتِكَ الَّتي مَلأَتْ كُلَّ شَيء، ..».
و في دعاء كميل نفسه قال عليه السلام «فَبِالْيَقينِ اَقْطَعُ لَوْ لا ما حَكَمْتَ بِهِ مِنْ تَعْذيبِ جاحِديكَ، وَ قَضَيْتَ بِهِ مِنْ اِخْلادِ مُعانِدِيكَ، لَجَعَلْتَ النّارَ كُلَّها بَرْداً وَسَلاماً، وَ ما كانَت لِاَحَد فيها مَقَرّاً وَ لا مُقاماً، لكِنَّكَ تَقَدَّسَتْ اَسْماؤُكَ اَقْسَمْتَ اَنْ تَمْلاَها مِنَ الْكافِرينَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النّاسِ اَجْمَعينَ». مفاتيح الجِنان، المحدّث الشيخ عباس القمّي.
يبيّن الإمام عليه السلام سعة رحمة الله و عفوه و أنّه لولا حكمه تعالى بتعذيب الجاحدين و إخلاد المعاندين لجعل النّار بردا و سلاما، و لما بقى أحد فيها.
اللّهم إنّا نسألك الرحمة و المغفرة بحق محمد و آل محمد، اللهم صلّ على محمد و آله محمد.