الجار قبل الدار
(ضرورة اختيار الجار المناسب)
محمد جواد الدمستاني
قال أمير المؤمنين عليه السلام «سَلْ عَنِ الجارِ قَبل الدّارِ»، نهج البلاغة، كتاب 31، هذه الحكمة من وصيّة لأمير المؤمنين لإبنه الإمام الحسن عليهما السلام، قال: «سَلْ عَنِ الرَّفِيقِ قَبْلَ الطَّرِيقِ وَ عَنِ الْجَارِ قَبْلَ الدَّارِ».
وصية بالسؤال عن الجار قبل مجاورته، و أولوية السؤال بالجار عن الدار، و بحسن الجوار، و حسن السلوك مع الجوار، و هم الذين يسكنون بقُرب المنزل، أو المجاورون في المسكن.
و الجار الحسن أو الجار السيئ له نصيب في سعادة أو تعاسة جارهِ في السكن أو المكان، فقد تتحسن حياة الإنسان و ترتقي سعادة بسبب حسن الجيرة و أخلاق الجيران، و تعاملهم و تفاعلهم، و قد تتحول حياته و أسرته إلى مشقات و عذابات بسبب سوء أخلاقهم، يلزم أنّه إذا أراد شخص شراء أو استئجار دار أو بيت أو منزل أو شقة أن يسأل عن جِوَارها قبل الشراء أو الاستئجار، فإن كان صالحا حسنا في مجاورته يقبل مجاورته بشراء أو استئجار و إن لم يكن كذلك يرفضها.
كما أنّ لحسن الجيرة أو سوءها آثار اجتماعية مستقبلية تتعلق بالبيئة أو المحيط الاجتماعي و أثره في تربية الأولاد و سلوكهم، و في اكتساب آداب و فضائل أو رذائل من المحيط، و كذلك في حالات التعارف و التزاوج بين الجيران، لما في الجيرة من علاقات و صداقات و عِشْرة و ملاقات متكررة.
و لذا اختيار السكن المناسب عند الجيرة المناسبة ضروري و مؤثر في حياة الإنسان، فليست هذه وصية عابرة لا يتوقف الإنسان عندها، و إنّما هي وصية مهمة متعددة الجوانب و ينبغي مراعاتها و اعتبارها.
و المعنى ينصرف إلى جار السكن و لكن العلة واحدة في اختيار بقية الجيرة مثل اختيار المكان المناسب للعمل و جار العمل، أو جار الشركة و أين يضع الإنسان مقر شركته بالنظر إلى ما حولها من جيران و شركات، و كذلك العقار الذي يشتريه، أو المزرعة التي يشتريها و يريد زراعتها، لأنّ هذه الجيرة قد تكون سببا للسعادة أو التعاسة.
و هذه لها جهة اجتماعية كما في البيوت و جيران السكن، كما لها جنبة اقتصادية في جيرة الأعمال و الاقتصاد، و في الانتباه إلى الجوانب الفنية لمقر الأعمال و التجارات، و الموقع تشمله دراسة الجدوى الاقتصادية.
و الجار الصالح بمنزلة الملجأ لجاره و هو في كثير من الحالات موضع أسراره و كتمها، و أمينه على بيته، و سدّ لحاجته، و عائده في مرضه، و ناصحه و مرشده، و ساتر لنواقصه، و مواس له، إلى غيرها من فوائد و منافع الجار الحسن، و قد ذكر الإمام زين العابدين (ع) في أحد أدعية في الصحيفة السجادية آداب و صفات الجار (قسم منه آخر المقال هذا).
و كثيرا ما يحتاج الجيران لبعضهم البعض في مال أو أمانات، أو حتى الحاجة إلى مواد غذائية أو إنشائية أو آلات تصليح و آلات مطبخ، و ربما يحتفظ الجيران بأولاد جيرانهم في غيابهم، أو بمفاتيح البيت.
و بطريقة تعرف الأمثال بأضدادها فإن تصور وجود جار سوء، يؤذي جاره، و يحسده، و يراقبه أو قد يسرقه كما في بعض المجتمعات، و ربما يتجسس عليه فهذا هو النكسة الكبرى للجيرة.
و قد ذكر في القرآن الكريم ، في آداب العِشرَة مع النّاس ذكر الجيران في الآية ضمن الفئات القريبة المطلوب أن يُحسن إليها، قال الله تعالى:«وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ..» سورة النساء:36، الْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ الجار قريب النسب و الجار الأجنبي.
و الجار أوصى به رسول الله (ص) ففي وصية أمير المؤمنين (ع) عند شهادته، قال: «وَ اللَّهَ اللَّهَ فِي جِيرَانِكُمْ فَإِنَّهُمْ وَصِيَّةُ نَبِيِّكُمْ مَا زَالَ يُوصِي بِهِمْ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُمْ». نهج البلاغة، وصية 47، أي ظننا أنّ النبي (ص) سيجعل لهم نصيبا من الإرث.
و في رسالة الحقوق ذكر الإمام زين العابدين (ع) حقوقا للجار ينبغي مراعاتها و من المهم الرجوع إليها و معرفتها.
و في الرواية أنّ من آداب الجوار الصّبر على الأذى فضلا عن الأذى، و الرواية عن الإمام الكاظم عليه السلام: «لَيْسَ حُسْنُ الْجِوَارِ كَفَّ الْأَذى، وَلكِنَّ حُسْنَ الْجِوَارِ الصّبرُ (صَبْرُكَ) عَلَى الْأَذى»، تحف العقول،ص ٤٠٩، الكافي، ج4ص759
و لأمير المؤمنين عدد من الحكم في الجيران، منها «جَاوِرْ مَنْ تَأْمَنُ شَرَّهُ وَلَا يَعْدُوكَ خَيْرُهُ»، تصنيف غرر الحكم، ص٤٣٦، «بِئْسَ الْجَارُ جَارُ السَّوْءِ»، تصنيف غرر الحكم، ص٤٣٦.
و في توجد أبيات في الشعر العربي تبيّن علاقة بيع البيت بالجيرة أو الجيران، منها شعر لأبي الأسود الدؤلي صاحب أمير المؤمنين عليه السلام – و واضع علم النحو بأمر الإمام (ع)- في رغبته لبيع بيته، قال:
أَلَا مَنْ يَشْتَرِي دَارًا بِرُخْصٍ كَرَاهَةَ بَعْضِ جِيرَتِهَا تُبَاعُ
أبو الأسود يبيّن هنا سبب البيع و هو سوء الجيرة بالنسبة له، و لكن السبب نفسه هو سبب عدم الشراء أو تأخره بالنسبة لغيره.
و في تاريخ بغداد أو تاريخ مدينة السلام، قَالَ محمد بن علي بن الحسن : أراد جار لأبي حمزة السكري أن يبيع داره ، قَالَ : فقيل له : بكم ؟ قَالَ : بألفين ثمن الدار و الفين جوار أبي حمزة . قَالَ: فبلغ ذلك أبا حمزة فوجه إليه بأربعة آلاف، وَ قَالَ: خذ هذه ولا تبع دارك. تاريخ بغداد أو تاريخ مدينة السلام ،ج4،ص435
و فيه أيضا: كان إذا مرض الرجل من جيرانه تصدق بمثل نفقة المريض بما صرف عنه من العلة. تاريخ بغداد أو تاريخ مدينة السلام،ج٤،ص٤٣٦
و في الدعاء و إيثار المؤمنين بالدعاء روي عن الإمام الحسن المجتبى (ع)، في دعاء أمه الزهراء عليها السلام و قولها «يا بُنَيَّ، الجارُ ثُمَّ الدّارُ»، كشف الغمة، ج1ص468.
و للإمام زين العابدين عليه السلام في الصحيفة السجادية دعاء لجيرانه و أوليائه، أوله «اللَّهُمَّ صَـلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِـهِ، وَتَـوَلَّنِي فِي جيرَانِي وَمَوَالِيَّ وَالْعَـارِفِينَ بحَقِّنَا وَالْمُنَـابِذِينَ لأِعْدَائِنَا بِأَفْضَلِ وَلاَيَتِكَ، وَ وَفِّقْهُمْ لإقَامَةِ سُنَّتِكَ وَ الاَخْذِ بِمَحَاسِنِ أَدَبِكَ فِي إرْفَاقِ ضَعِيفِهِمْ، وَسَدِّ خَلَّتِهِمْ، وَعِيَادَةِ مَرِيضِهِمْ، وَهِـدَايَةِ مُسْتَـرْشِدِهِمْ، وَمُنَاصَحَةِ مُسْتَشِيرِهِمْ، وَتَعَهُّدِ قَـادِمِهِمْ، وَكِتْمَانِ أَسْرَارِهِمْ، وَسَتْرِ عَوْرَاتِهِمْ، وَنُصْرَةِ مَظْلُومِهِمْ، وَحُسْنِ مُوَاسَاتِهِمْ بِالْمَاعُونِ، وَالْعَوْدِ عَلَيْهِمْ بِـالْجِـدَةِ وَالإفْضَـالِ، وَإعْطَآءِ مَـا يَجِبُ لَهُمْ قَبْلَ السُّؤال».