محمد جواد الدمستانيمحمد جواد الدمستاني

Loading

في زهد النبي عيسى عليه السلام

وَ إِنْ شِئْتَ قُلْتُ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عليه السلام فَلَقَدْ كَانَ يَتَوَسَّدُ الْحَجَرَ

خطبة – 160

محمد جواد الدمستاني

قال أمير المؤمنين عليه السلام «وَ إِنْ شِئْتَ قُلْتُ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عليه السلام فَلَقَدْ كَانَ يَتَوَسَّدُ الْحَجَرَ، وَ يَلْبَسُ الْخَشِنَ، وَ يَأْكُلُ الْجَشِبَ، وَ كَانَ إِدَامُهُ الْجُوعَ، وَ سِرَاجُهُ بِاللَّيْلِ الْقَمَرَ، وَ ظِلَالُهُ فِي الشِّتَاءِ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَ مَغَارِبَهَا، وَ فَاكِهَتُهُ وَ رَيْحَانُهُ مَا تُنْبِتُ الْأَرْضُ لِلْبَهَائِمِ، وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ زَوْجَةٌ تَفْتِنُهُ، وَ لَا وَلَدٌ يَحْزُنُهُ، وَ لَا مَالٌ يَلْفِتُهُ، وَ لَا طَمَعٌ يُذِلُّهُ، دَابَّتُهُ رِجْلَاهُ، وَ خَادِمُهُ يَدَاهُ». نهج البلاغة – خطبة 160.

هذه الفقرة من خطبة رقم 160 للإمام علي عليه السلام في نهج البلاغة، أولها في عظمة الله «أَمْرُهُ قَضَاءٌ وَ حِكْمَةٌ وَ رِضَاهُ أَمَانٌ وَ رَحْمَةُ..»، ثم الحمد و الثناء «اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى مَا تَأْخُذُ وَ تُعْطِي وَ عَلَى مَا تُعَافِي وَ تَبْتَلِي..»، ثم ذكر الأسوة و القدوة في الزهد و ذم الدّنيا، فذكر نبيّنا الأكرم محمدا صلى الله عليه و آله «وَ لَقَدْ كَانَ فِي رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) كَافٍ لَكَ فِي الْأُسْوَةِ وَ دَلِيلٌ لَكَ عَلَى ذَمِّ الدّنيا وَ عَيْبِهَا،..»، ثم الأنبياء موسى و داود و عيسى عليهم السلام، ثم ذكر ثانية نبينا الأكرم صلى الله عليه و آله «فَتَأَسَّ بِنَبِيِّكَ الْأَطْيَبِ الْأَطْهَرِ»، ثم ختمها كما في نسخة نهج البلاغة بقوله عليه السلام: «وَ اللَّهِ لَقَدْ رَقَّعْتُ مِدْرَعَتِي هَذِهِ حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَاقِعِهَا».

الفقرة هذه من الخطبة يتحدث الإمام عليه السلام عن النبي عيسى عليه السلام و أحواله في الدّنيا و زهده، قال عليه السلام: «وَ إِنْ شِئْتَ قُلْتُ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عليه السلام،..».

«وَ إِنْ شِئْتَ» الزيادة في معرفة الأسوة و ذمّ الدّنيا على ما ذكرت، «قُلْتُ» في أحوال عيسى ابن مريم عليه السلام و زهده في الدّنيا.

«فَلَقَدْ كَانَ يَتَوَسَّدُ الْحَجَرَ» أي يجعل الحجر وسادة و يضع عليه رأسه و ليست له وسادة ليّنة و ناعمة بل يكتفي بالحجر، و لا فراش فاخر.

«وَ يَلْبَسُ الْخَشِنَ» أي الخشن غير الناعم من الثياب و اللَّباس، ليس قطنا أو حريرا ، و هي وصية رسول الله صلى الله عليه و آله، ففي الرواية التقي أبو الأسود الدولي أبا ذر في الربذة فأخبره بوصية رسول الله صلى الله عليه و آله، و هي طويلة، و منها: «يَا أَبَا ذَرٍّ اِلْبَسِ اَلْخَشِنَ مِنَ اَللِّبَاسِ وَ اَلصَّفِيقَ مِنَ اَلثِّيَابِ لِئَلاَّ يَجِدَ اَلْفَخْرُ فِيكَ مَسْلَكاً»، مجموعة ورّام،ج2ص51.

و روي أيضا أنّه: «رُئيَ على عليٍّ عليه السلام إزارٌ خَلَقٌ مَرقوعٌ، فقيلَ لَهُ في ذلكَ، فقالَ: يَخشَعُ لَهُ القَلبُ، و تَذِلُّ بهِ النَّفسُ، و يَقتَدي بهِ المؤمنونَ»، مكارم الأخلاق، ص114.

«وَ يَأْكُلُ الْجَشِبَ» الغليظ من الطعام، و هو طعام البسطاء و الفقراء، و ليس طعام المترفين و المرفهين، و الرواية في عدّة الدّاعي عن الإمام الصادق عليه السلام في الإنجيل إنّ عيسى قال: «اللّهُمّ ارزُقْني غُدوَةً رَغيفاً مِن شَعيرٍ، وعَشِيَّةً رَغيفاً مِن شَعِيرٍ، و لا تَرزُقْنِي فَوقَ ذلكَ فَأطغى»، عدة الداعي، ص104، و هو رسول معصوم عليه السلام، قال تعالى:«كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ».سورة العلق:6-7.

و في مكارم الأخلاق: من كتاب زهد أمير المؤمنين عليه السلام، عن عقبة بن علقمة قال: «دخلت على أمير المؤمنين عليه السلام و إذا بين يديه لبن حامض قد أذاني حموضته، و كسرة يابسة، قال: فقلت: يا أمير المؤمنين أتأكل مثل هذا ؟ قال لي: يا أبا الجنود إني أدركت رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم يأكل أيبس من هذا، و يلبس أخشن من هذا، و إن لم آخذ بما أخد به رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم خفت أن لا ألحق به»، مكارم الأخلاق، ص ١٥٨

«وَ كَانَ إِدَامُهُ الْجُوعَ» الإدام: ما يُؤكَل بالخبز، أو ما يخلط معه لتطييبه من لحم أو عسل أو خَلّ أو غيره، وَ كَانَ إِدَامُهُ الْجُوعَ أي ليس له إدام، و لعل المعنى أنّه لا يأكل شيئا إلا بعد الجوع الشديد و الاشتهاء، فيتلذذ بالطعام من شدة الجوع و كانّ الجوع إدام، و الجائع يتلذذ بالطعام مهما كان نوعه و صفته، فيتلذذ بكسيرات خبز يابسة أكثر مما يتلذذ الشبعان بأفضل أنواع الطعام.

«وَ سِرَاجُهُ بِاللَّيْلِ الْقَمَرَ» يعني يستضيء بنور القمر، و ليس لديه مصباح أو شمعة أو وسيلة يستضيء بنورها في اللَّيالي.

«وَ ظِلَالُهُ فِي الشِّتَاءِ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا»، أي ما يظله من البرد حركته نحو المشرق و المغرب، فلم يكن له مأوى من بيت أو دار ليقيه و يدفأه من البرد.

«وَ فَاكِهَتُهُ وَ رَيْحَانُهُ مَا تُنْبِتُ الْأَرْضُ لِلْبَهَائِمِ» فاكهته و ثماره، و كذا ريحانه و خضرواته ما تنبت الأرض للبهائم من النبات، و ليس ما يأكله الناس من الفواكه والخضروات، فليست فاكهته و ثماره الرمان و التفاح، و ليس ريحانه و خضرواته الفجل والبصل، بل مَا تنبت الأرض للبهائم من الأعشاب و النباتات.

«وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ زَوْجَةٌ تَفْتِنُهُ» أي توجب فتنته و امتحانه، كما يحصل لكثير من النّاس.

«وَ لَا وَلَدٌ يَحْزُنُهُ» أي يوجب حزنه و هَمّه، و ذكر صفة الحزن للأولاد لأّنهم كثيرا ما يعرضون آباءهم لذلك من مرض أو موت أو فتنة يقعون فيها أو مشاكل يرتكبونها ترتد على آباءهم أحزان و قد لا يكون الأولاد يقدرون موقفهم و لا أحزان آباءهم منها، و الرواية في «من لا يحضره الفقيه» عن الإمام الصادق عليه السلام: «قيل لعيسى بن مريم مالك لا تتزوج؟ فقال: و ما أصنع بالتزويج؟ قالوا: يولد لك، قال: و ما أصنع بالأولاد؟ إن عاشوا فَتَنُوا، و إن ماتوا حَزُنُوا»، من لا يحضره الفقيه، ج ٣، ص ٥٥٨.

«وَ لَا مَالٌ يَلْفِتُهُ» أي يصرفه و يلهيه و يجلب التفاته و انشغاله عن الآخرة، فليس له تجارة و لا مبادلات مالية و لا تجميع أموال، قال تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ»، سورة المنافقون:9.

«وَ لَا طَمَعٌ يُذِلُّهُ» الطمع يذل و يهين الطامع، و قد يطمع الإنسان بأموال أو منصب، أو مطالب دّنيوية تجلب له مذلة وهو في غنى عنها، و كلما ابتعد الإنسان الطمع صار أعز و أشرف.

و في غرر الحكم «قرن الطمع بالذل»، ص497، و «بالأطماع تذل رقاب الرجال»، ص306، و «ثمرة الطمع ذل الدنيا و الآخرة»، ص 361.

«دَابَّتُهُ رِجْلَاهُ»، ليس له دابة يستعملها كوسيلة مواصلات و انتقال، بل وسيلة النقل و الانتقال عنده هي رجلاه من مدينة إلى أخرى، و من مكان إلى آخر.

«وَ خَادِمُهُ يَدَاهُ» أي يقضي حوائجه بنفسه، دون الاستعانة بخادم.

و يقال أنّ النبي عيسى عليه السلام هكذا كان الغالب في حياته، و لكنه ربما ركب الدابة، وخدمه حواريوه و أكل غير ما تنبت الأرض للبهائم.

و قد ذكرت أحاديث من النبي و آله صلوات الله عليهم كثيرة في الزهد، و أن يكون المؤمن متزنا في حياته الدّنيا، و يبتعد عن الغرق، و قال أمير المؤمنين عليه السلام: «الزُّهْدُ كُلُّهُ بَيْنَ كَلِمَتَيْنِ مِنَ الْقُرْآنِ، قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ)، وَ مَنْ لَمْ يَأْسَ عَلَى الْمَاضِي، وَ لَمْ يَفْرَحْ بِالْآتِي فَقَدْ أَخَذَ الزُّهْدَ بِطَرَفَيْهِ»، نهج البلاغة، حكمة 439، و الآية من سورة الحديد:23.

و تروى في البحار رواية قريبة كلماتها من هذه عن النبي عيسى عليه السلام، قال: «خادِمي يَدايَ، و دابَّتي رِجلاي، و فِراشي الأرضُ، و وِسادي الحَجَرُ، و دِفئي في الشِّتاءِ مَشارِقُ الأرضِ، و سراجي بالليل القمر، و إدامي الجوع، و شعاري الخوف، و لباسي الصوف، و فاكهتي و ريحانتي ما أنبتت الأرض للوحوش و الانعام، أبِيتُ و لَيسَ لِي شيءٌ، و أصبِحُ ولَيسَ لِي شيءٌ، و لَيسَ على وَجهِ الأرضِ أحَدٌ أغنى مِنّي»، بحار الأنوار، ج ١٤، ص٢٤١

و ليس أحد أغنى مني يعني غنى النفس و عدم الحاجة إلى الناس، و هو الغنى الحقيقي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *