غلاء الأسعار و التسليم لله اللطيف الخبير
محمد جواد الدمستاني
ذُكر عند الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام غلاء السِّعر فقال: «وَمَا عَلَيَّ مِنْ غَلَائِهِ، إِنْ غَلَا فَهُوَ عَلَيْهِ، وَإِنْ رَخُصَ فَهُوَ عَلَيْهِ»، الکافي،ج5ص81،تهذيب الأحكام،ج6ص، 321، عليه أي على الله، و هو تسليم و رضا، و ترك الاعتراض في الأمور الواردة عليه عليه السلام و منها ارتفاع الأسعار و تحويلها إلى الله سبحانه و تعالى، و هو اللطيف العليم.
السِّعْرِ و الجمع أسعار هو تقدير العوض الذي يباع به الشئ، يشتري شخص غذاءً أو دواءً مثلا أو أي سلعة و يدفع عوضها أو مقابلها مالا، هذا سعره.
و غلاء الأسعار هو زيادة السِّعر عما جرت به العادة مع اتحاد الوقت و المكان، مثلا كانت سلعة تباع بدينار في مكان بينما الآن تباع بدينارين أو ثلاثة فقد على سعرها.
و رخص الأسعار هو انخفاض السِّعر عما جرت به العادة مع اتحاد الوقت و المكان، فمثلا كانت سلعة تباع بدينار في مكان بينما الآن تباع بنصف دينار أو ربع فقد رخص سعرها.
و اعتبار الوقت و المكان واضح فإنّ السلع تختلف في مواسمها و وقت ظهورها عن غير مواسمها و ظهورها، و سعر الرطب مثلا في الصيف غير سعره في الشتاء، و سعره في أماكن زراعة النخيل مختلف عن سعرها في أماكن أخرى لا تزرع فيه، و سعر السلع في مواسمها و أمكنتها أو في بيئتها أرخص، و سعر الفواكه و الخضروات في بداية مواسمها و آخره أغلى من وسط مواسمها.
و الأسعار الطبيعية للمواد المختلفة خاضعة في ارتفاعها أو انخفاضها لقانون العرض و الطلب، كمية الطلب مرتبطة بالسعر، أي عند زيادة سعر السلعة تقل الكمية المطلوبة منها، و عند انخفاض سعر السلعة يزيد الطلب عليها، و العرض الكثير للسلعة يقل من قيمتها، و العرض القليل للسلعة يزيد من قيمتها.
فغلاء الأسعار لقلة العرض و زيادة الطلب كما هي العادة في الأسواق و التجارات.
وقد ترتفع الأسعار نتيجة ظروف و حوادث مثل الحروب و الكوارث و المجاعات أو الاحتكار أو الأمراض.
و في السنوات الماضية فترة الأمراض و فايروس كورونا، ثم الحرب في أوكرانيا ارتفعت أسعار بعض السلع بصورة متضاعفة.
فالحروب مؤثر كبير لزيادة الأسعار في منطقة الحرب و ما حولها، و في هذه الأزمنة تنعكس بشكل كبير على مناطق العالم كما حدث في الحرب في أوكرانيا.
و كذلك ترفع الحروب من قيمة التأمينات فترتفع الأسعار، و هذه أحد آثار الحروب و الصراعات.
وقد ترتفع الأسعار نتيجة ارتفاع بعض المواد الأساسية المؤثرة في إيصالها، و حينما ترتفع قيمة الوقود فإنّ المواد ترتفع معها، فارتفاع قيمة الوقود يرفع معه أسعار المنقولات بوسيلته، و هي كل المواد المنقولة، كما ترتفع قيمة الشحن.
و فقدان العدالة الاجتماعية و الاقتصادية و خاصة من الحكام مسبب رئيسي لغلاء الأسعار .
و الضرائب غير المتناسبة التي تؤخذ على الكسبة و التجار تؤدي إلى رفع الأسعار. و كذلك جشع التجار.
و الأعياد و المناسبات الخاصة بالبلدان تؤدي إلى ازدياد الطلب على المواد و السلع و الخدمات و خاصة مع قلة تلك المواد فينتج ارتفاع الأسعار.
و ضعف إمداد المواد و توصيلها إلى مناطق الحاجة كما حدث فترة انتشار فايروس كورونا ترفع الأسعار أيضا.
و الحصارات الاقتصادية التي تقوم بها دول مستكبرة ضد الشعوب بسبب مواقف حكوماتها تؤدي إلى ارتفاع أسعار بعض المواد و السلع في البلدان المحاصرة اقتصاديا.
و إذا ارتفعت الأسعار تتأثر أخلاق الناس سلبا، و أماناتهم، و أوضاعهم النفسية كما في الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام «غَلَاءُ السِّعْرِ يُسِيءُ الْخُلُقَ، ويُذْهِبُ الأَمَانَةَ، و يُضْجِرُ الْمَرْءَ الْمُسْلِمَ»، الكافي، ج5ص164، و لذا فإنّ النّاس في البلدان الغنية و المستقرة اقتصاديا أكثر التزاما مع بعضهم بالأخلاق العامة و الأمانات و أكثر استقرارا نفسيا أيضا، و أكثر أمنا، و إن كان للغنى آثار أيضا سلبية.
الرواية التي ذكرناها عن أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَالِيِّ قَالَ ذُكِرَ عِنْدَ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عليه السلام غَلَاءُ السِّعْرِ فَقَالَ: «وَمَا عَلَيَّ مِنْ غَلَائِهِ إِنْ غَلَا فَهُوَ عَلَيْهِ وَإِنْ رَخُصَ فَهُوَ عَلَيْهِ». و هو تعبير بالتسليم المطلق لله و بكامل الاطمئنان دون قلق أو اضطراب أو تتضايق، و سيطرة نفسية تامة على كل متقلبات الأسعار و الحياة.
و كثيرا ما يُطرح السؤال عن المسؤول عن ارتفاع الأسعار، الله سبحانه و تعالى أو من النّاس، و تعليق الشيخ الصدوق في التوحيد أنّه: فما كان من الرخص و الغلاء عن سعة الأشياء و قلّتها فإن ذلك من اللّه تعالى يجب الرضا به والتسليم له، وما كان من الغلاء والرخص ممّا يؤخذ به الناس لغير قلّة الأشياء و كثرتها من غير رضى منهم به، أو كان من جهة شراء واحد من الناس جميع طعام بلد فذلك من المسعّر والمتعدّي بشراء طعام المصر كله.
و من روايات القسم الأول ما روي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «إِنَّ اللَّه جَلَّ وعَزَّ وَكَّلَ بِالسِّعْرِ مَلَكاً فَلَنْ يَغْلُوَ مِنْ قِلَّةٍ ولَا يَرْخُصَ مِنْ كَثْرَةٍ»، الكافي،ج5ص162.
و عن الإمام زين العابدين عليه السلام قال: «إِنَّ اللَّه عَزَّ وجَلَّ وَكَّلَ بِالسِّعْرِ مَلَكاً يُدَبِّرُه بِأَمْرِه»، الكافي، ج 5ص162.
و عن الإمام الصادق عليه السلام قَالَ: «إِنَّ اللَّه عَزَّ وجَلَّ وَكَّلَ بِالأَسْعَارِ مَلَكاً يُدَبِّرُهَا»، الكافي، ج 5ص162.
ومن روايات القسم الثاني ما روي في الاحتكار و المحتكر و هذا قديم و يتكرر في كل زمان، و أيام النبي صلى الله عليه و آله كان رجل يسمى حكيم بن حزام، و كان إذا دخل الطعام المدينة اشتراه كله فمر عليه النبي صلى الله عليه و آله «يا حكيم بن حزام إياك أن تحتكر»، الإستبصار،ج3ص115، و في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه و آله «مَرَّ بِالْمُحْتَكِرِينَ فَأَمَرَ بِحُكْرَتِهِمْ أَنْ تُخْرَجَ إِلَى بُطُونِ اَلْأَسْوَاقِ وَ حَيْثُ تَنْظُرُ اَلْأَبْصَارُ إِلَيْهَا»، الإستبصار،ج3ص112.
اَللَّهُمَّ مُنَّ عَلَيَّ بِالتَّوَكُّلِ عَلَيْكَ، وَ اَلتَّفْوِيضِ إِلَيْكَ، وَ اَلرِّضَا بِقَدَرِكَ، وَ اَلتَّسْلِيمِ لِأَمْرِكَ، حَتَّى لاَ أُحِبَّ تَعْجِيلَ مَا أَخَّرْتَ وَ لاَ تَأْخِيرَ مَا عَجَّلْتَ يَا أَرْحَمَ اَلرَّاحِمِينَ، مصباح المتهجد، ص 378.