شرّ الأصدقاء
الكاتب: محمد جواد الدمستاني
«شر الإخوان من تكلّف له»
في حكمة تبيّن أسوأ الأصدقاء و تشير إلى الضرر و الأذى الذي قد يصيب العلاقات الأخوية و الصداقات نتيجة لتحميل الصديق أو الرفيق أعباء إضافية في صداقته يتكلّف لها دون عادته و طريقته و خلاف أسلوبه في الحياة، أعباء بما يكره و لا يطيق، تثقله حين الالتزام بها أو مراعاتها، مما يضعه في ضغط في علاقته و صداقته أو أخوته، روي عن أمير عليه السلام «شَرُّ الْإِخْوَانِ مَنْ تُكُلِّفَ لَهُ»[1]، قال الشريف الرضي: لأن التكليف مستلزم للمشقة و هو شر لازم عن الأخ المتكلف له فهو شر الإخوان.
الإخوان أو الأخوة جمع الأخ و يطلق على الشقيق و الصديق و الرفيق و الصاحب و هنا قد ينصرف إلى الأصدقاء و الرفقاء و المقربين أكثر من الأخوة بالدم أو الأشقاء، و أشرّهم من يُتكلّف و يُتصنّع له، و تكلّف بمعنى تجشّم على مشقة، و تكلّف الشيء أي حمله على نفسه و ليس من عادته، و قال الله تعالى في كتابه الكريم «قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ»[2].
تشير الحكمة إلى ثغرة اجتماعية في العلاقات الأخوية و الصداقات و هي صفة التكلّف، و هذه تختلف بين النّاس و تختلف من مجتمع إلى آخر، بعضها يتسم بالبساطة و الصدق في علاقاته و هذه طبيعة العلاقات في القرى و الأرياف، و بعضها قائم على المجاملات و التكلفّات و المصالح و هذه تكثر في المدن.
و المعنى أنّ الأخ أو الصديق الذي يحوج أو يلجيء أخاه أو صديقه أو رفيقه إلى التكلّف و التصنّع و تحمّل أعباء إضافية هو شر الإخوان و أسوؤهم ذلك أنّ الأخوة و الصداقة الصادقة تظهر بطبيعتها بصفتها من التساهل و الانبساط و التسامح و أما التكلّف و التصنّع فهو يقابلها و ليس صفة للصداقة الصادقة.
فعلاقة الصداقة تبتني على الصدق و الصراحة و البساطة و الراحة و ليس على التكلّف و المجاملات التصنّعية، فإذا احتيج إلى التكلّف دلّ ذلك على أن الأخوة غير صادقة، و الأخ أو الصديق غير صادق، و الأخ غير الصادق هو شرّ الإخوان لأنّ بقية الإخوان صادقين و غير متكلفين.
و يحتاج الأخ في الحياة إلى صديق يخفّف عنه الهموم و يفرج الغموم فإذا كان يرغب في التكلّف و التصنع فهو ممن يزيد الهموم و الغموم، و قد تشعر معه أنّك لست نفسك بل تتصنع آخرا شبيها لك، فهو شر من الآخرين ممن صداقاتهم بسيطة دون إضافات من الهموم و التكلّفات.
فلا تكون مثل هذه الصداقة و العلاقة طبيعيةً و بسيطة و صادقة بل تحتاج إلى مزيد من الجهد و الرعاية و التصنّع، و قد تحتاج معها إلى إخفاء مشاعرك الحقيقية و تجنب الصراحة و الصفاء و الصدق، و قد تضطر معها إلى مجاملات خادعة أو مداهنات أو تملقات أو تدليس فتصل إلى منطقة خارج الصداقة و هي أمور سيئة و قبيحة، و قد يحدث هذا في العلاقات و الصداقات السياسية.
و في الحكمة تنبيه على اجتناب الأخ أو الصديق الذي يرغب في التكلّف و التصنّع له، ذلك لعدم الصدق في العلاقة معه، بل من الصعب استمرار مثل هذه العلاقة، و كأنّ لسان حال الحكمة يقول: لا تتكلف في صداقاتك، كن كما أنت صادقا في مشاعرك و أفعالك، فإن لم تٌقبل كما أنت في صداقتك و صدقك فليست هذه بصداقة صحيحة فاجتنبها.
و إنّ الصديق هو الذي تشعر معه بالقرب النفسي و لا تشعر بأنّك غريب معه فإذا ما أشعرك ذلك بالتكلّف فليس هو بصديق و لا أخ لك فابحث عن آخر أو آخرين أصدق منه، فإذا شعرت معه بأنّك قلق في اخراج كلامك، حذر في أقوالك، متردد في حركاتك و سكناتك، تحسب نفسك على جلساتك، و تضطر إلى تغيير أنماط في حياتك، و تفقد الصدق و الأمان في علاقاتك، تخرج من حالة الصفاء و الوضوح، تحتاج إلى أعباء و مشقات، فتلك من علامات التصنّع و الصداقة المزيّفة التي ينبغي أن تبتعد عنها لدرء الصعوبات المستقبلية و الأخطار المحتملة، و المحافظة على النقاء النفسي.
و تختار صداقات أخرى من خير الإخوان ممن تشعر معه بالراحة و البساطة و الانشراح، و يشعرك بوجودك و أهميتك، و يعطيك الأمان في علاقتك، و الثقة في نفسك، و يزيدك من حسن صفاتك، و يرشدك إلى الأحسن، و الحكمة في تمام نهج البلاغة بتقابل شر الإخوان و خيرهم، روي عنه عليه السلام: «شَرُّ الإِخْوَانِ مَنْ تُكُلِّفَ لَهُ، وَخَيْرُهُمْ مَنْ أَحْدَثَتْ رؤيته ثِقَةً بِهِ، وَأَهْدَتْ إِلَيْكَ غيبته طُمَأْنينَةً إلِيه»[3]، ثقة في حضوره و طمأنينة في غيابه.
و قريب من الحكمة قول أمير المؤمنين عليه السلام «شَرُّ أَصْدِقَائِكَ مَنْ تَتَكَلَّفُ لَهُ»[4] و «لَيْسَ لَكَ بِأَخٍ مَنِ احْتَجْتَ إِلَى مُدَارَاتِهِ»[5].
و هي -شَرُّ الإِخْوَانِ مَنْ تُكُلِّفَ لَهُ- الحكمة قبل الأخيرة في نهج البلاغة، و أما الحكمة الأخيرة فهي في فن العلاقات و الصداقات أيضا و هي «إِذَا احْتَشَمَ الْمُؤْمِنُ أَخَاهُ فَقَدْ فَارَقَهُ»[6]، فإذا احتشم و استحى و خجل و حذر من أخيه و و صديقه فهذا يدل على عدم الراحة و الانبساط و التمدد في الأخوة و الصداقة، مما يؤدي إلى الابتعاد عنه و الانفصال من علاقته و تركه.
و الإنسان عامة بحاجة إلى صديق متسامح، وفيّ، ناصح، أمين، يتكثر به أخوه، كما في الرواية عن النبي صلّى الله عليه و آله فقد بكى لما استشهد جعفر بن أبي طالب (ع) بمعركة مؤتة و قال «اَلْمَرْءُ كَثِيرٌ بِأَخِيهِ»[7]، و يكون هذا الصديق عونا لأخيه في الأزمات و النوائب، و أنيس له، و مواس له في المصائب و الصعوبات، ناصح له في العثرات و مرشد و مشير.
أما التكلّف و التصّنع و التظاهر عامة فهي صفة غير مرغوبة، و هي خلاف الصدق و الحقيقة، و الأفضل للإنسان أن يظهر ببساطته و تسامحه، و لا يظهر بشخصية تكلفية غير حقيقية، فالصداقة لا تحتاج إلى ساتر و غطاء يفقدها شفافيتها، و في الرواية عن الإمام الصادق (ع) «الْمُؤْمِنُ لَا يَحْتَشِمُ مِنْ أَخِيه، ولَا يُدْرَى أَيُّهُمَا أَعْجَبُ الَّذِي يُكَلِّفُ أَخَاه إِذَا دَخَلَ أَنْ يَتَكَلَّفَ لَه، أَوِ الْمُتَكَلِّفُ لأَخِيه»[8]، أي التكلّف من الاثنين غير مطلوب المتكلَّف له و المتكلِّف نفسه، فالذي يكلّف أخاه ما لا يطيق و يحمّله ما ليس بعادته أو استطاعته و قدرته مورد تعجّب و غير مطلوب، و الذي يكلّف نفسه بما يشقيه و يرهقه لأخيه مورد تعجّب أيضا و غير مطلوب.
و لشرّ الإخوان عدد من الصفات الأخرى كما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام منها الخاذل، الغاش، المداهن، و المصلحي، قال عليه السلام: «شَرُّ الْإِخْوَانِ الْخَاذِلُ»[9]،«شَرُّ إِخْوَانِكَ الْغَاشُّ الْمُدَاهِنُ»[10]، «شَرُّ إِخْوَانِكَ مَنْ أَرْضَاكَ بِالْبَاطِلِ»[11]، «شَرُّ الْإِخْوَانِ الْمُوَاصِلُ عِنْدَ الرَّخَاءِ وَ الْمُفَاصِلُ عِنْدَ الْبَلَاءِ»[12]، «خَيْرُ الْإِخْوَانِ أَنْصَحُهُمْ وَ شَرُّهُمْ أَغَشُّهُمْ»[13]، إلى غيرها من الروايات التي رويت عنه (ع) في شر الإخوان.
كما رويت عنه (ع) في صفات خير الإخوان ، منها «خَيْرُ إِخْوَانِكَ مَنْ عَنَّفَكَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ»[14]،«خَيْرُ الْإِخْوَانِ مَنْ لَا يُحْوِجُ إِخْوَانَهُ إِلَى سِوَاهُ»[15]، «خَيْرُ الْإِخْوَانِ مَنْ إِذَا فَقَدْتَهُ لَمْ تُحِبَّ الْبَقَاءَ بَعْدَهُ»[16]، «أَحَقُّ النَّاسِ أَنْ يُونَسَ بِهِ الْوَدُودُ الْمَأْلُوفُ»[17]،«خَيْرُ إِخْوَانِكَ مَنْ وَاسَاكَ»[18] إلى غيرها من الروايات التي رويت عنه (ع) في خير الإخوان.
و الحكمة ليس بها إشارة إلى قطع العلاقات مع الآخرين و إنهاء الصداقات، و إنّما إلى حسن اختيار العلاقات و الصداقات، و الترغيب في خير الإخوان و أفضل الصداقات و أحسن الأصحاب، و تجنب سيئها و شر الإخوان و الأصدقاء، و ألا تكون أنت في صداقاتك متكلِّفا و لا متكلَّفا له.
-
– نهج البلاغة، حكمة 479 ↑
-
– سورة ص، آية 86 ↑
-
– تمام نهج البلاغة، السيد صادق الموسوي، ص ١٦٧ ↑
-
– عيون الحكم والمواعظ، علي بن محمد الليثي الواسطي، ص ٢٩٣، غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد الآمدى التميمي، ص ٤١٠(شرّ إخوانك من تتكلّف له). ↑
-
– غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد الآمدى التميمي، ص ٥٥٩ ↑
-
– نهج البلاغة – حكمة 480 ↑
-
– المغازي، الواقدي، ج ٢، ص ٧٦٧ ↑
-
– الكافي، الشيخ الكليني، ج ٦، ص ٢٧٦، المحاسن، أحمد بن محمد بن خالد البرقي، ج ٢، ص ٤١٤ ↑
-
– غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد الآمدى التميمي، ص ٤١٠ ↑
-
– غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد الآمدى التميمي، ص ٤١١ ↑
-
– غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد الآمدى التميمي، ص ٤٠٩ ↑
-
– غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد الآمدى التميمي، ص ٤١٠ ↑
-
– غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد الآمدى التميمي، ص ٣٥٨ ↑
-
– غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد الآمدى التميمي، ص ٣٥٦ ↑
-
– غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد الآمدى التميمي، ص ٣٥٦ ↑
-
– غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد الآمدى التميمي، ص ٣٥٨ ↑
-
– غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد الآمدى التميمي، ص ١٩١ ↑
-
– غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد الآمدى التميمي، ص ٣٥٦ ↑