عدد المشاهدات 13 زائر , مشاهدات 1 اليوم
الغنى في الغربة وطن، و الفقر في الوطن غربة
محمد جواد الدمستاني
الشعور بالانتماء أو الغربة في مكان ما يكون نتيجة لعدة عناصر و منها ما يتعلق بالسعة و المال، و قد يشعر الإنسان بأنّه غريب في وطنه أو أنّه مواطن في غربته، و في الرواية عن أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة «الْغِنَى فِي الْغُرْبَةِ وَطَنٌ وَ الْفَقْرُ فِي الْوَطَنِ غُرْبَةٌ»[1].
و الوطن هو المكان الذي يعيش فيه الإنسان أو مكان إقامته، و عادة ما يكون مسكن أبويه، أو مكان ولادته و يعبر عنه باللغة العربية عادة مسقط رأسه، و يقابله الغربة و هو العيش أو الحياة في مكان خارج الوطن.
و تتشكل في الوطن هوية الإنسان و ارتباطاته الثقافية و التاريخية، و علاقاته الاجتماعية مع الأقارب و الأسرة و الجيران، و عادة يكون الإنسان فيه في سعة و راحة و أنس، و قد يتمتع بنوع من القوة و النفوذ.
بينما فِي الغربة يفتقد المهاجر أو المغترب كثيرا من ارتباطاته وعلاقاته و أجوائه الاجتماعية و بيئته، و عاداته و مراسمه، و يعيش حالة من الضيق و الوحشة النفسية و الحنين إلى الوطن.
و في الحكمة استعمل الإمام (ع) لفظ الغنى للوطن «الْغِنَى فِي الْغُرْبَةِ وَطَنٌ» لما فيه من السعة فالـغنى وطنٌ في الغربة، و استعمل (ع) لفظ الغربة للفقر «وَ الْفَقْرُ فِي الْوَطَنِ غُرْبَةٌ» لما فيه من الضيق، فالفقر غربة في الوطن.
فالغنيّ يتنعم برفاه و رخاء، و إمكانيات اقتصادية و مالية، و قوة و قدرة، و جاه و نفوذ، مع وجود الأصدقاء و الرفقاء، فهو و إن كان في غربة فكأنّه يعيش في وطنه بسبب غِنَاه.
و الفقير يعيش ضِيقا و ضُعفا، دون مال أو قدرة مالية، مع ضعف و عجز، و دون جاه و صلاحيات، و قد يخلو من الأصدقاء و الرفقاء أو مع قليل منهم، و إن كان في وطنه فكأنّه في غُربة.
فكأنّ مزايا الوطن تحصل في الغربة بالمال و القدرة الاقتصادية التي تسهّل كثيرا من الحاجات، و قد يتملّق و يتزلّف له الغرباء و الأبعدون، و صفات الغربة تحصل في الوطن بالفقر و الضيق المالي الذي يحدّ من قدرات الإنسان و قد يتخلى عنه الأقربون أو يبتعدون.
و الحكمة توضح التأثير المالي على الإنسان نفسه في شعوره و إحساسه فشعور الغني في غربته مرتبط بالقدرة المالية أيضا التي تحوّل الغربة إلى وطن مريح تتوفر فيه سبل العيش الكريم و تتوسع علاقاته و صداقاته، و ضُعف هذه القدرة هي التي تشعر صاحب الوطن بالغربة لعدم توفر أسباب ذلك العيش و تضيق علاقاته و ارتباطاته.
و قياسا على الحكمة فقد يتضاعف الشعور بالغنى و الشعور بالفقر حينما يكون الغنيّ غنيا في وطنه، و الفقير فقيرا في غربته، فتضاف إلى مزايا الغنى و الثروة مزايا السكن في الوطن، و تضاف إلى آثار الفقر و العسر آثار الإقامة في الغربة.
كما أنّ في هذا العصر حيث شبكة الانترنت و ثورة الاتصالات قد يتحول الفقير إلى غني دون النظر إلى المكان أهو وطن أو غربة بسبب المال العابر للحدود من برامج و عملات، كما في حالات بعض أصحاب البرامج الاجتماعية الناجحة أو العملات الرقمية، و كلاهما من مواقع الخطر و الحذر.
كما أنّ في هذه الأزمنة يستطيع أن يشتري الأثرياء و الأغنياء لأسباب اقتصادية و تجارية أو سياسية جنسيات بلدان الفقراء الذين يبحثون عن روافد مالية فيجدون في بيع جنسيات بلدانهم كحيلة مفيدة كنوع من الاستثمار، و لكن هذه الجنسية خالية من الشعور النفسي للمواطنة و الإحساس بالوطن.
و الحكمة تبيّن أحد مشاعر الفقير و هو شعور الغربة و الوحشة في وطنه، و هو شعور يتكرر لصنوف أخرى من النّاس و إن كانوا أغنياء، فالمضطهدون في أوطانهم، و المعذبون في سجونه، و المشردون في شوارعه، و الهاربون و المختفون من طواغيته، فشعورهم كشعوره بالغربة و الوحشة و فقدان السكينة و الطمأنينة و التهميش الذي يفقد لذة الانتماء للوطن.
و قد يشعر بالغربة من يعيش في وطنه مع كثرة طاغية ساحقة للغرباء فيها إما كعمالة وافدة و مهاجرة، أو لعمليات تجنيس كبيرة و مقصودة لتخريب التركيبة السكانية و خلخلة النسيج الاجتماعي للبلد كما يحدث في بعض بلدان دول العربية في الخليج.
و لا ينبغي الخلط في فهم الحكمة فإنّها في نفسها ليس بها ترجيح واضح و مطلق للغنى على الفقر و إنّما شعور صاحبيهما في الوطن و الغربة، فإنّ بعض النّاس خير لهم أن يكونوا أغنياء و آخرون خير لهم أن يكونوا فقراء، و لا تعني أنّ المال كل شيء، و قلّته لا شيء، بل تبيّن أثر المال على صاحبه في الشعور بالوطن و الغربة.
و لا تعني الحكمة نفسها عدم إعطاء قيمة للوطن ففي الخبر «حُبُّ الوَطَنِ مِن الإيمانِ»، بل هي توصيف لواقع إنساني عام، و ليست كلية فإنّ من المهاجرين و المغتربين مَن إذا صُبت عليه الدّنيا في غربته لا يساويها بنظرة على الوطن أو تجمّع للأرحام فيه، كما أنّ من المواطنين و قيادات الدول من يتاجر بوطنه، و التاريخ و الحاضر شاهد لا يكذب.
و قريب من هذه الحكمة قوله عليه السلام في نهج البلاغة أيضا: «وَ الْمُقِلُّ غَرِيبٌ فِي بَلْدَتِهِ»[2]، أي الفقيرُ غَرِيبٌ فِي بَلْدَتِهِ، و المقلّ أي قليل المال.
كما أنّ للفقر تأثيرات و صفات أخرى غير الشعور بالغربة كعجزه عن بيان حجته و كلامه، و تجمّد قدرته، و نقص في دينه، و قلّة التركيز العقلي، و مبغوضية عند بعض النّاس، فمن كلمات أمير المؤمنين عليه السلام في الفقر، قوله (ع): «وَالْفَقْرُ يُخْرِسُ الْفَطِنَ عَنْ حُجَّتِهِ»[3]، «الْفَقْرُ الْمَوْتُ الْأَكْبَرُ»[4]، و قال (ع) لابنه محمد: «يَا بُنَيَّ ، إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكَ الْفَقْرَ، فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْهُ ، فَإِنَّ الْفَقْرَ مَنْقَصَةٌ لِلدِّينِ، مَدْهَشَةٌ لِلْعَقْلِ، دَاعِيَةٌ لِلْمَقْتِ»[5].
و يمكن أن تتضمن الحكمة «الْغِنَى فِي الْغُرْبَةِ وَطَنٌ، وَ الْفَقْرُ فِي الْوَطَنِ غُرْبَةٌ» إشارة إلى عدم التمسك الشديد بمكان الإقامة أو بالوطن، و أنّ الأرض لله و للأنسان حرية السفر و التنقل فيها، و قال الله تعالى: «فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ»[6]، و أنّ كل هذه الحدود الجغرافية بين الدول وهمية ستزول يوما ما، و يُضاف إليها حكمة أخرى في نهج البلاغة و هي قوله عليه السلام: «لَيْسَ بَلَدٌ بِأَحَقَّ بِكَ مِنْ بَلَدٍ خَيْرُ الْبِلَادِ مَا حَمَلَكَ»[7]، فالبلد الذي يحملك هو الذي يستحق الحياة فيه دون الانحصار بحدود جغرافية.
وسيأتي إن شاء الله يومٌ تنتهي فيه الحدود الجغرافية للدول على الأرض، و ستزول كلها دون استثناء يوما ما كما كانت في أول العصور على الأرض، و لا يحتاج التنقل من مكان إلى آخر على الكرة الأرضية إلى إجراءات و تأشيرات و تعقيدات و تضييقات و تشديدات و إهانات، و تكون الهجرة و حرية اختيار الأماكن و الأوطان متاحة لجميع أهل الأرض، وستمتلئُ الأرضُ قسطا و عدلاً بعد أن ملئت ظلماً و جورا بخروج القائم من آل محمد (ص).
-
– نهج البلاغة، حكمة 56 ↑
-
– نهج البلاغة، حكمة 3 ↑
-
– نهج البلاغة، حكمة 3 ↑
-
– نهج البلاغة، حكمة 136 ↑
-
– نهج البلاغة، حكمة 319 ↑
-
– سورة الملك، آية 15 ↑
-
– نهج البلاغة، حكمة 442 ↑