«خدعة الصبي عن اللبن»
محمد جواد الدمستاني
و رد في نهج البلاغة قول أمير المؤمنين عليه السلام «خُدْعَةُ الصَّبِيِّ عَنِ اللَّبَنِ»[1].
و ذلك من كتاب كتبه من أمير المؤمنين عليه السلام إلى معاوية بن أبي سفيان، و جاء فيه: «وَ أَمَّا تِلْكَ الَّتِي تُرِيدُ فَإِنَّهَا خُدْعَةُ الصَّبِيِّ عَنِ اللَّبَنِ فِي أَوَّلِ الْفِصَالِ»[2].
و خدعة الصّبيّ عن اللّبن هي تلطيخ ثّدي الأم المرضعة بشيء مرّ، لينفر الصبي عن الالتقام عند الرضاعة، مقدّمة للفطام، و ليس القصد من ذلك إلّا الانفصال فحسب، و ليس المرارة إلا وسيلة و حيلة.
و هذا مثل يراد به ما يخدع به الإنسان بالشيء اليسير ليشغل به عن أمر عظيم يراد تحقيقه، و هنا ظاهره وضع شيء مر أو مرارة على الثدي و لكن الحقيقة هو لمنع استمرار الرضاعة للولد، و معاوية يطالب بدم عثمان ليتأمر على الشام و يحكم.
و الخدعة هي الحاجة الّتي يريدها معاوية و هي التّلبيس على النّاس بأنّه يطالب بدم عثمان، و بالنّتيجة التّرأّس عليهم من وراء ذلك، و هم لا يعلمون أنّ مطالبته لدم عثمان خدعة، يراد بها الرّئاسة لا الثّأر، كما يخدع الصّبيّ عن اللّبن، لغاية الانفصال عنه و الفطام.
فالهدف الظاهري المعلن الذي يستعمل للخداع هو الثأر لدم عثمان، و الهدف الأصل المخفي الذي يراد تحقيقه هو الحكم و الإمارة و السلطة.
و الخداع و الخدعة بما فيها من مكر و حيلة تصدر من أصحاب النّفوس الدنيئة و الخبيثة و لا تصدر من أصحاب النّفوس النّظيفة و القلوب الطاهرة التي تترفع و تتنزه عن المكر و الخداع.
و قد يقال لصاحب الخدعة أو المخادع داهية، و قد يقال لمعاوية و عمرو بن العاص أنّهما من الدّهاة، و لكن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام يترفع و يتنزه عن ذلك، قال (ع) في خطبة أخرى: «وَ اللَّهِ مَا مُعَاوِيَةُ بِأَدْهَى مِنِّي وَ لَكِنَّهُ يَغْدِرُ وَ يَفْجُرُ وَ لَوْ لَا كَرَاهِيَةُ الْغَدْرِ لَكُنْتُ مِنْ أَدْهَى النَّاسِ»[3].
و في الكتاب أو الرسالة «وَأَمَّا تِلْكَ الَّتِي تُرِيدُ فَإِنَّهَا خُدْعَةُ الصَّبِيِّ عَنِ اللَّبَنِ فِي أَوَّلِ الْفِصَالِ» تلك التي تريد من امارة الشام، و جعلت كل ذلك من فتن و حروب و قتل وسيلة إليها «فَإِنَّهَا خُدْعَةُ الصَّبِيِّ عَنِ اللَّبَنِ فِي أَوَّلِ الْفِصَالِ»، كما يخدع الصبي في أول الفصال عن أمه، هذه الخدعة و الحيلة لا تنطوي على البصير، فهو عليه السلام متوجه إلى المكائد و المكر و الخداع، و قال (ع) في مقام آخر: «وَ اللَّهِ مَا أُسْتَغْفَلُ بِالْمَكِيدَةِ وَ لَا أُسْتَغْمَزُ بِالشَّدِيدَةِ»[4].
و لو كان معاوية صادقا لدخل فيما دخل فيه الناس من الطاعة و البيعة ثم بعد ذلك يرفع الأمر إلى القضاء فيحكم فيه بحكمه بكتاب الله ، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام في نفس الكتاب، «فَادْخُلْ فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ ثُمَّ حَاكِمِ الْقَوْمَ إِلَيَّ أَحْمِلْكَ وَ إِيَّاهُمْ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى»[5]، و لكن لم يكن هم معاوية سوى ولاية الشام و السلطة و ما كان رفع شعار محاكمة عثمان سوى حيلة و خديعة من أجل رفض بيعة الإمام و التمرد عليه.
و قال الإمام عليه السلام في نهاية الرسالة أو الكتاب (و السّلام لأهله) ، لأنّ معاوية لم يكن من أهل السلام.
و هنا تمت الإشارة إلى الإمام ليبقي معاوية في الشام فإذا استقام الأمر تمكن منه و عزله، و قال عليه السلام: «وَ إِنَّ اَلْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ قَدْ كَانَ أَشَارَ عَلَيَّ أَنْ أَسْتَعْمِلَ مُعَاوِيَةَ عَلَى اَلشَّامِ وَ أَنَا بِالْمَدِينَةِ فَأَبَيْتُ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَ لَمْ يَكُنِ اَللَّهُ لِيَرَانِي أَتَّخِذُ اَلْمُضِلِّينَ عَضُداً»[6].
و الفارق أنّ الإمام أمير المؤمنين عليه السلام تربية النبي صلّى الله عليه و آله، و أما معاوية فهو تربية أبي سفيان و هند و الجاهلية، و إنّ الإمام يطبق الدين بحقائقه و معارفه و معاوية يقوم بالخداع و الخيانة و الخبث.
فهذا المثل «خدعة الصبي عن اللبن» يطبق حين يقوم شخص بصرف النظر عن المطلب الرئيس إلى شيء آخر لا يريده بطريقة ماكرة خبيثة، و هذا يحصل في الحياة العامة فيحتاج الأمر إلى بصيرة و دقة و فطنة لمعرفة الأطراف التي يتعامل معها الإنسان فلا ينخدع.
و قد يتم تطبيقه و استخدامه في الحياة اليومية بطريقة أقل سلبية إذا فرّغ من الخبث و الخيانة كما هو أصله في إبعاد الرضيع عن ثدي أمه و مع هذا لا يخلو من الآثار النفسية على الطفل إذ أنّ الطفل قد تعوّد على الرضاع من ثدي أمه و متهيأ للرضاعة بكل طمأنينة و إذا به يُفاجأ بمرارة الثدي و استحالة الرضاع، فيصرخ عادة و يتأذى نفسيا حتى يعتاد على البدائل الأخرى عن اللبن.
و قد يطبق في إدارة الأزمات و الصراعات و الحروب حيث يهدف أحد الأطراف إبعاد العدوّ عن الهدف أو الهجوم الأصلي في الحروب كنوع من التمويه و تشتيت تركيز العدوّ أو تحييد قوته و تفريقها و قد يقوم بهجمة أو هجمات صغيرة تسحب قوات الخصم فيفاجئه خصمه بقوة هائلة في محور آخر.
و في دعاء صاحب الزمان (عج) في جمال الأسبوع «اَللَّهُمَّ اِكْفِ وَلِيَّكَ وَ حُجَّتَكَ فِي أَرْضِكَ هَوْلَ عَدُوِّهِ، وَ كَيْدَ مَنْ كَادَهُ، وَ اُمْكُرْ بِمَنْ مَكَرَ بِهِ، وَ اِجْعَلْ دَائِرَةَ اَلسَّوْءِ عَلَى مَنْ أَرَادَ بِهِ سُوءاً»[7].
-
– نهج البلاغة – كتاب 64 ↑
-
– نهج البلاغة – كتاب 64 ↑
-
– نهج البلاغة، خطبة 200 ↑
-
– نهج البلاغة ، خطبة 200 ↑
-
– نهج البلاغة، كتاب 64 ↑
-
– وقعة صفين، ابن مزاحم المنقري، ص ٥٢ ↑
-
– جمال الأسبوع، ابن طاووس، ج1، ص521 ↑