علاقة العقل بمقدار الكلام
«إذا تمّ العقل نقص الكلام»
محمد جواد الدمستاني
العلاقة عكسية بين تمام العقل و مقدار الكلام فكلما تمّ عقل الإنسان قلّ كلامه، كما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة، قال (ع): «إِذَا تَمَّ الْعَقْلُ نَقَصَ الْكَلَامُ»[1].
إذا تم العقل و اكتمل نقص الكلام و قلّ، ذلك لأنّ العقل هو من يضبط الكلام و يزن الكلام، و كثير من الكلام لا فائدة فيه، و منه فضول زائد أو لا ينفع و لا يضر أو هراء و ثرثرة ، أو باطل و حشو، فإذا كمل العقل أدرك الانسان الكلام النافع من غيره، فيتوقف عن الهراء و الفضول و الكلام غير النافع و يقتصر على النافع و المفيد من الكلام فقط فيقل كلامه.
و منطوق الحكمة «إِذَا تَمَّ الْعَقْلُ نَقَصَ الْكَلَامُ» و مفهومها «إذا نقص العقل زاد الكلام»، فالعاقل يخرج الكلام بعد التروي و التثبت و النظر من كل جهاته مع قيود و شروط للكلام فيقل كلامه، أما غير العاقل فيخرج الكلام دون ضبط و دون تثبت و دون قيود على الكلام فيكثر كلامه و يكثر خطؤه، فالعاقل يتحكم في لسانه آلة كلامه، و روي عن أمير المؤمنين عليه السلام في النهج قوله: «لِسَانُ الْعَاقِلِ وَرَاءَ قَلْبِهِ، وَ قَلْبُ الْأَحْمَقِ وَرَاءَ لِسَانِهِ»[2].
و قريب من معنى الحكمة قول أمير المؤمنين عليه السلام في غرر الحكم «الْعَاقِلُ مَنْ عَقَلَ لِسَانَهُ»[3]، و «مَنْ عَقَلَ صَمَتَ»[4].
و روي في قلة الكلام و فضله روايات كثيرة، و كذلك في العقل و اللسان و الصمت ، منها قول رسول الله صلّى الله عليه و آله: «إِذا رَأَيْتُمْ المُؤمِنَ صَمُوتاً فَادْنُوا مِنْهِ فَإِنَّهُ يُلْقي الحِكْمَةَ»[5].
و في نهج البلاغة «لَا خَيْرَ فِي الصَّمْتِ عَنِ الْحُكْمِ، كَمَا أَنَّهُ لَا خَيْرَ فِي الْقَوْلِ بِالْجَهْلِ»[6]، و «تَلَافِيكَ مَا فَرَطَ مِنْ صَمْتِكَ، أَيْسَرُ مِنْ إِدْرَاكِكَ مَا فَاتَ مِنْ مَنْطِقِكَ»[7]، و عنه عليه السلام «صَمْتُكَ حَتَّى تُسْتَنْطَقَ، أَجْمَلُ مِنْ نُطْقِكَ حَتَّى تُسْكَتَ»[8]، و في الخصال عن أمير المؤمنين (ع) «مَا مِنْ شَيْءٍ أَحَقَّ بِطُولِ اَلسِّجْنِ مِنَ اَللِّسَانِ»[9].
و عن الإمام الصادق (ع) أنّه قال يوما لأصحابه: «اِسْمَعُوا مِنِّي كَلاَماً هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ مِنَ اَلدُّهْمِ اَلْمُوَقَّفَةِ، لاَ يَتَكَلَّمْ أَحَدُكُمْ بِمَا لاَ يَعْنِيهِ، وَ لْيَدَعْ كَثِيراً مِنَ اَلْكَلاَمِ فِيمَا يَعْنِيهِ حَتَّى يَجِدَ لَهُ مَوْضِعاً، فَرُبَّ مُتَكَلِّمٍ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ جَنَى عَلَى نَفْسِهِ بِكَلاَمِهِ»[10].
و المعنى ألا يكثر الإنسان الكلام فتكثر أخطاؤه و فضول كلامه، و ليقتصر على المفيد منه و الموزون، فكلما زاد عقل الإنسان قلّ كلامه فإنّه يعلم مسؤولية الكلمة و تأثير الكلام فيتحفظ على كثير منه، و أنّ الصمت في كثير من الحالات و الأحيان و الأمكنة و المناسبات أبلغ و أفضل.
و يمكن الكلام في سبب و علة قلة الكلام في تمام العقل في عدة نقاط إضافية:
أولها: ما ذكرناه في أنّ تمام العقل و تام العقل يخرج الكلام بعد تمحيص و تدقيق فيقل كلامه.
و إنّ الكلام القليل هو ملخص الكلام الكثير و الملخص أقل في الشوائب و يخرج بعد تمحيص و تدقيق مما يعني عقل راجح ميّز صحيحه من سقيمه فيختصر الأفكار في أبرزها.
و لأنّ الكلام الكثير يضعف الفكرة الأصل و يعوّمها فيه، بخلاف الكلام القليل تكون الفكرة مركزة و التوجّه إليها واضح و هذا نتاج شخص مفكر و عاقل.
و أنّ قليل الكلام يركز على القيمة اللفظية النوعية و ليس على الكمية كنوع من تقديم الكيف على الكم و الجودة على الرداءة، و هذه تخرج من صاحب عقل راجح.
و يمكن تصور و تقدير و هذه تحتاج إلى استقراء واسع و دراسة شخصيات عدد كبير من المفكرين و الفلاسفة بأنّهم قليلوا الكلام و هم عقلاء في النّاس و بارزون، و كذلك مثال الحكماء فإنّه أوضح.
و أنّ صاحب العقل الراجح يفكر في أقصى تأثير لكلامه في أقل جهد لفظي.
و أنّ صاحب العقل التام يعتبر فضول الكلام و الثرثرة و الكلام السيء و الحشو، واللغو و الهراء، و كثرة الكلام و المبالغة فيه، و الغيبة، و الكلام فيما لا يعنيه موبقات مهلكات فيتجنبها و يعتبرها مناطق محضورة بداعي نفسي و صفة راسخة في النفس و ملكة.
و انّ العاقل هو الذي يصفي كلامه من الشوائب و يزنه و يدرك متى يتكلم و متى يسكت، و أنّه يتغاضى عن الكلام الذي لا يستحق الردّ و النقاش و الجدال فيختار الصمت في كثير من حالات و نوبات الآخرين في الكلام فيقل كلامه.
و أنّ العاقل المدرك هو القادر على اختزال الكلام بشكل كبير و إيصال الفكرة بعدد محدود من الكلام دون كثيره، و دون إطناب و إسهاب و إطالة و تطويل، فيقل كلامه.
و العاقل و الواثق من نفسه و من يمتلك السكينة النفسية و الاستقرار الداخلي يبتعد عن محاولة إثبات نفسه بكثرة الكلام و تبريراته فيقل كلامه.
و العاقل هو الذي يدرك أهمية الاستماع و الإصغاء للآخرين فيستمع أكثر مما يتكلم فيقلّ كلامه.
و مع كل هذا فإنّ بيان الحكمة هنا عن قلّة الكلام لا عن السكوت و الصمت فإنّ الكلام المفيد أفضل منهما، و أنّ في بعض الموارد يجب الكلام و الإطالة فيه و إظهار فروعه، و في رواية الإمام زين العابدين عليه السلام «إِنَّكَ تَصِفُ فَضْلَ السُّكُوتِ بِالْكَلامِ، وَلَسْتَ تَصِفُ فَضْلَ الْكَلامِ بِالسُّكُوتِ»[11].
-
– نهج البلاغة – حكمة 71 ↑
-
– نهج البلاغة – حكمة 40 ↑
-
– غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد الآمدى التميمي، ص ٣٦، عيون الحكم والمواعظ، علي بن محمد الليثي الواسطي، ص ٢٧، ص41، و ص 52 (العاقل من عقل لسانه إلا عن ذكر الله). ↑
-
– غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد الآمدى التميمي، ص ٥٧٨، عيون الحكم والمواعظ، علي بن محمد الليثي الواسطي، ص ٤٢٣ ↑
-
– تحف العقول عن آل الرسول (ص)، ابن شعبة الحراني، ص ٣٩٧ ↑
-
– نهج البلاغة، حكمة 182 ↑
-
– نهج البلاغة، وصية 31 ↑
-
– غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد الآمدى التميمي، ص ٤٢٢ ↑
-
– الخصال، الشيخ الصدوق، ص ١٤ ↑
-
– الأمالي، الشيخ الطوسي، ص ٢٢٥ (الدهم: من الضأن ، الحمراء الشديدة الحمرة، ومن الإبل: السمراء الشديدة السمرة)، وسائل الشيعة (آل البيت)، ج ١٢، الحر العاملي، ص ١٩٤ (الدهم جمع أدهم وهي الخيل الشديدة السواد أنظر(مجمع البحرين – دهم – 6 : 65) )، وسائل الشيعة (الإسلامية)، الحر العاملي، ج ٨، ص ٥٣٦ (خير لكم من الدراهم الموقفة). ↑
-
– الاحتجاج، أحمد بن علي الطبرسي، ج٢، ص ٤٦ ↑