محمد جواد الدمستانيمحمد جواد الدمستاني

Loading

صفة الجاهل الإفراط و التفريط

«لا ترى الجاهل إلا مفرطا أو مفرّطا»

محمد جواد الدمستاني

إنّ التوازن في الأمور و الأعمال من ضروريات الحياة و فقدانه يوقع الإنسان في الاختلال الذي هو صفة للجاهل و سلوكه الذي ينجرف أو ينحرف به عن الاعتدال إلى أحد جهتي التطرف من إفراط أو تفريط، و قد روي عن أمير المؤمنين عليه السلام: «لَا تَرَى الْجَاهِلَ إِلَّا مُفْرِطاً أَوْ مُفَرِّطاً»[1].

و الجاهل هو الذي لا يضع الأمور مواضعها، و يقابله العاقل و هو الذي يضع الأمور مواضعها، و مفرط و أفرط من الإفراط و هو تجاوز الحدّ من جانب الزيادة، و مفرّط و فرّط من التفريط و هو التقصير عن الحدّ و التأخير فيه.

و هذا التقابل بين العاقل و الجاهل بيّنه الإمام عليه السلام في حكمة أخرى في نهج البلاغة فقد قِيل له (ع) صف لنا العاقل فقال:«هُوَ الَّذِي يَضَعُ الشَّيْ‏ءَ مَوَاضِعَهُ، فَقِيلَ فَصِفْ لَنَا الْجَاهِلَ فَقَالَ: قَدْ فَعَلْتُ»[2].

و الحكمة «لَا تَرَى الْجَاهِلَ إِلَّا مُفْرِطاً أَوْ مُفَرِّطاً»[3] بمعنى أنّ الجاهل دائماً في حالة إفراط أو تفريط، و كلاهما مذموم، و إنّما الممدوح هو الحدّ الوسط بينهما، و فيما يروي عن النبي (ص) و حفيده الإمام الكاظم (ع): «خَيْرُ اَلْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا»[4].

فالجاهل يفتقر إلى العلم و الحكمة و يبتعد عن حالة الاتزان في أقواله و أفعاله و ينحرف عن الحد الوسط المطلوب و الاعتدال إلى أحد جوانبه الطرفية، فيبالغ و يتشدد و يتجاوز الحدود كمفرط، أو يقصّر و يتأخر و يتقهقر كمفرّط، و الاثنان تطرف عن الحدّ الوسط، فهو دائما خارج الحدّ المطلوب، و السبب الرئيسي هو جهله و سفهه الذي يمنعه من التمييز بين ما يجب فعله و حجم فعله و مقداره، و متى اتصف الإنسان بالجهل و تغلغل فيه فلن يكون قادرا على التعامل مع مجمل القضايا في الحياة بحكمة و تعقل و رشد و اتزان، و هذا في كل الأمور و الأعمال.

فمثلا في الإنفاق فإنّ الافراط فيه إسراف، و التفريط فيه بخل، و المطلوب الانفاق المتوسط، «وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا»[5]، فالانفاق المعتدل دون إسراف و إقتار هو أحد صفات عباد الرحمن، فينبغي أن يكون الإنسان سخيا كريما دون إسراف أو تبذير، أمّا الجاهل فإنّه إمّا بخيل لا ينفق، أو مسرف ينفق أكثر من الحدّ.

و كذلك في الحالات و الصفات النفسية مثل الشجاعة، و هي الحدّ الوسط و الصفة المطلوبة، دون إفراط و هو التهور، و دون تفريط و هو الجبن، بل ينبغي للإنسان أن يكون شجاعا، و لا يكون متهورا و لا جبانا، و الجاهل إما متهور أو جبان.

وكذلك الجاهل في تعامله مع الدنيا و الآخرة، إمّا أن يترك دنياه لآخرته أو آخرته لدنياه، و الاعتدال هي في الوسط، و في الرواية «لَيسَ مِنّا مَن تَرَكَ دُنياهُ لِآخِرَتِهِ، ولا آخِرَتَهُ لِدُنياهُ»[6]، و كذلك «اعمَل لِدُنياكَ كَأَنَّكَ تَعيشُ أبَدا، وَاعمَل لِاخِرَتِكَ كَأَنَّكَ تَموتُ غَدا»[7].

و كمثال أو تطبيق حالة التعصب و التطرف في الأزمنة المختلفة كحالة أعداء الأنبياء عليهم السلام، و أعداء النبي (ص) و أهل بيته (ع) الذين ينصبون العَداء لهم، و الخوارج، و المارقون من الدين، بما فيهم الحركات الإسلامية الحالية التي ترفع شعار الذبح و قتل الآخرين و تنشر الأحقاد و الضغائن، هؤلاء جميعا الجهل و السَفَه مصدر رئيسي لعصبياتهم و عَدَاواتهم.

و الحكمة إرشاد و تنبيه إلى حالة التعادل و التوازن في الأمور و الأعمال عامة، و بها بيان أنّ الجهل مصدرٌ للإفراط و التفريط و الرذائل الأخلاقيّة، و انتقاد ضمني للجهلاء بتغيير سلوكهم و إصلاح أنفسهم و الأخذ بطريق الاعتدال فلا يكونوا مهملين مقصّرين و لا مبالغين و متسرعين، و المنهج الإسلامي العام يرشد إلى التوازن دون إفراط أو تفريط، قال الله تعالى: «وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا»[8].

و في تمام نهج البلاغة «لَا تَرَى الْجَاهِلَ أَبَداً إِلّا مُفْرِطاً أَوْ مُفَرِّطاً، يُسيءُ عَمْداً، وَ يُحْسِنُ غَلَطاً»[9]، و المطلوب الإحسان عمدا، و إذا وقعت إساءه فهي غلط و اشتباه و لا ينبغي أن تكون عمدا أو قصدا.

و في غرر الحكم «اَلْجَاهِلُ لَنْ يُلْقَى أَبَداً إِلاَّ مُفْرِطاً أَوْ مُفَرِّطاً»[10].

و في نهج البلاغة أيضا «وَ سَيَهْلِكُ فِيَّ صِنْفَانِ مُحِبٌّ مُفْرِطٌ يَذْهَبُ بِهِ الْحُبُّ إِلَى غَيْرِ الْحَقِّ، وَ مُبْغِضٌ مُفْرِطٌ يَذْهَبُ بِهِ الْبُغْضُ إِلَى غَيْرِ الْحَقِّ، وَ خَيْرُ النَّاسِ فِيَّ حَالًا النَّمَطُ الْأَوْسَطُ فَالْزَمُوهُ»، أي الطريقة الوسطى دون حب مفرط بمغالاة، أو بغض مفرط، فالفضائل الأخلاقيّة هي الحدّ الأوسط بين الإفراط والتفريط، و الجاهل مفرط أو مفرّط باتجاه الردائل.

و في الصداقات و العلاقات روي عن أمير المؤمنين (ع) في نهج البلاغة: «أَحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْناً مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ بَغِيضَكَ يَوْماً مَا، وَ أَبْغِضْ بَغِيضَكَ هَوْناً مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ حَبِيبَكَ يَوْماً مَا»[11]، دون تجاوز الحدود و المغالاة في الحبّ و البغض في العلاقات الاجتماعية التي قد تتغير و تتبدل.

و في حكمة أخرى في نهج البلاغة يبيّن أمير المؤمنين عليه السلام فساد الإفراط و ضرر التفريط و التقصير، قال (ع): «لَقَدْ عُلِّقَ بِنِيَاطِ هَذَا الْإِنْسَانِ بَضْعَةٌ هِيَ أَعْجَبُ مَا فِيهِ وَ ذَلِكَ الْقَلْبُ، وَ ذَلِكَ أَنَّ لَهُ مَوَادَّ مِنَ الْحِكْمَةِ وَ أَضْدَاداً مِنْ خِلَافِهَا، فَإِنْ سَنَحَ لَهُ الرَّجَاءُ أَذَلَّهُ الطَّمَعُ، وَ إِنْ هَاجَ بِهِ الطَّمَعُ أَهْلَكَهُ الْحِرْصُ، وَ إِنْ مَلَكَهُ الْيَأْسُ قَتَلَهُ الْأَسَفُ، وَ إِنْ عَرَضَ لَهُ الْغَضَبُ اشْتَدَّ بِهِ الْغَيْظُ، وَ إِنْ أَسْعَدَهُ الرِّضَى نَسِيَ التَّحَفُّظَ، وَ إِنْ غَالَهُ الْخَوْفُ شَغَلَهُ الْحَذَرُ، وَ إِنِ اتَّسَعَ لَهُ الْأَمْرُ اسْتَلَبَتْهُ الْغِرَّةُ، وَ إِنْ أَفَادَ مَالًا أَطْغَاهُ الْغِنَى، وَ إِنْ أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ فَضَحَهُ الْجَزَعُ، وَ إِنْ عَضَّتْهُ الْفَاقَةُ شَغَلَهُ الْبَلَاءُ، وَ إِنْ جَهَدَهُ الْجُوعُ قَعَدَ بِهِ الضَّعْفُ، وَ إِنْ أَفْرَطَ بِهِ الشِّبَعُ كَظَّتْهُ الْبِطْنَةُ، فَكُلُّ تَقْصِيرٍ بِهِ مُضِرٌّ وَ كُلُّ إِفْرَاطٍ لَهُ مُفْسِدٌ»[12].

و ما ينطبق على الأفراد ينطبق على الجماعات و الفئات و الدول التي تتحكم فيها افراد أو مجموعات نفوذ، فإنّ تصرفات و أفعال و سلوكيات بعضهم تنطلق من الجهل و الحمق، و بعيدة عن الرشد و العقل السليم و حتى المنطق، و تصرفاهم بأحدى الطريقتين المتطرفتين دون الوسط و هي الإفراط و المغالاة أو التفريط و التقصير، فيجب عليهم أن يهتدوا إلى حالة الاعتدال و الاتزان و الاستقامة في علاقاتهم مطلقا.

  1. – نهج البلاغة – حكمة 70

  2. – نهج البلاغة، حكمة 235

  3. – نهج البلاغة – حكمة 70

  4. – التوحيد، أبي منصور محمد الماتريدي السمرقندي الأنصاري، ص ٢٣١، الإرشاد، الشيخ المفيد، ج2، ص234، وسائل الشیعة، الحر العاملي، ج11، ص473

  5. – سورة الفرقان، آية 67

  6. – فقه الرضا، علي ابن بابويه القمي، ص٣٣٧، من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ج٣، ص١٥٦

  7. – من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ج٣ ، ص١٥٦

  8. – سورة البقرة، آية 143

  9. – تمام نهج البلاغة، السيد صادق الموسوي، ص ٦٩٩

  10. – غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد الآمدى التميمي، ص ٩١

  11. – نهج البلاغة، حكمة 268

  12. – نهج البلاغة، حكمة 108

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *