العلاقة بين الثقة بالله و الإنفاق
«من أيقن بالخلف جاد بالعطية»
محمد جواد الدمستاني
في أثر اليقين بالخلف من الله في إنفاق و عطاء الإنسان و الاطمئنان بوعد الله بالعوض روي في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين عليه السلام «مَنْ أَيْقَنَ بِالْخَلَفِ جَادَ بِالْعَطِيَّةِ»[1].
و يروى عن رسول الله صلى الله عليه و آله «مَنْ أَيْقَنَ بِالْخَلَفِ سَخَتْ نَفْسُه بِالنَّفَقَةِ»[2].
و في تمام نهج البلاغة «مَنْ أَيْقَنَ بِالْخَلَفِ جَادَ بِالْعَطِيَّةِ، وَسَخَتْ نفْسُهُ بِالنَّفَقَةِ»[3].
و عن الإمام الباقر عليه السلام بصيغة الأمر «أَنْفِقْ و أَيْقِنْ بِالْخَلَفِ مِنَ اللَّه»[4].
و الخلف بمعنى البدل و العوض و هو دنيوي و أخروي، بعوض ما ينفقه الإنسان في الدّنيا، و بأجر و ثواب في الآخرة.
و العطية ما يُعطى من نفقة، أو صدقة أو زكاة أو إحسان أو تبرّع أو غيره.
و الغرض هو ترغيب و حث على البذل و العطاء و دعوة للانفاق و عدم التردد أو التوقف أو الإمساك، و الثقة بالله و اليقين بالخلف و العوض منه.
و المعنى أنّ من لديه يقين بأنّ الله يرزقه ما ينفقه و يعوضه ما يعطيه، فإنّه يجود بالعطاء و الإنفاق، و لا يتردد أو يمسك أو يمتنع بل يصبح سخيّا في العطاء و لا يبخل بما عنده، فهذا اليقين بالخلف و العوض يُذهب عنه الخوف من نقص الأموال أو خشية الفقر، فالنفس المطمئنة بوعد الله و اليقين بالخلف منه تطيب بالبذل و الإنفاق دون مشقة و عناء عند العطاء، و تقوم بذلك بحالة من الاستبشار و الانشراح دون تكلف و ضيق، و كلما كان يقين الإنسان قويا بالخلف و العوض من الله كلما زاد عطاؤه و سخاؤه.
و الأمر يعتمد على حسن الظن بالله و الثقة بالله، و الاعتقاد بأنّ الله الرزّاق الكريم يرزق العبد كلما أنفق و إن كان معسرا و في سورة سبإ «وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ»[5].
و يقابل الإنفاق التقتير و الحرص و الإمساك و البخل و هي صفات يجمعها سوء الظن بالله كما في نهج البلاغة، قال عليه السلام: «فَإِنَّ الْبُخْلَ وَ الْجُبْنَ وَ الْحِرْصَ غَرَائِزُ شَتَّى يَجْمَعُهَا سُوءُ الظَّنِّ بِاللَّهِ»[6].
هذا المعنى متضافر في رواياتهم عليهم السلام و في الخبر عن أمير المؤمنين (ع) «ومَنْ يَبْسُطْ يَدَه بِالْمَعْرُوفِ إِذَا وَجَدَه يُخْلِفِ اللَّهُ لَه مَا أَنْفَقَ فِي دُنْيَاه ويُضَاعِفْ لَه فِي آخِرَتِه»[7]، و في الرواية عن الإمام الرضا عليه السلام: «قَالَ دَخَلَ عَلَيْه مَوْلًى لَه فَقَالَ لَه هَلْ أَنْفَقْتَ الْيَوْمَ شَيْئاً ؟ قَالَ لَا واللَّه، فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ (ع) فَمِنْ أَيْنَ يُخْلِفُ اللَّهُ عَلَيْنَا؟ أَنْفِقْ ولَوْ دِرْهَماً وَاحِداً»[8].
و هذه الحكمة «مَنْ أَيْقَنَ بِالْخَلَفِ جَادَ بِالْعَطِيَّةِ»[9] في نهج البلاغة و ما قبلها و بعدها بنفس المضمون القرآني و هو أنّ الله يعوّض و يخلف على المنفق ما أنفقه، و سبقتها الحكمة في الترتيب في الإنفاق للصدقة، «اسْتَنْزِلُوا الرِّزْقَ بِالصَّدَقَةِ»[10]، و بعدها «تَنْزِلُ الْمَعُونَةُ عَلَى قَدْرِ الْمَئُونَةِ»[11]، و كذلك في نهج البلاغة «إِذَا أَمْلَقْتُمْ فَتَاجِرُوا اللَّهَ بِالصَّدَقَةِ»[12]، و «مَنْ يُعْطِ بِالْيَدِ الْقَصِيرَةِ يُعْطَ بِالْيَدِ الطَّوِيلَةِ»[13] و المضمون واحد و هو أنّ اللهَ يعوض ما ينفقه الإنسان، قال الله تعالى: «مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ ۗ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ»[14].
والروايات عنهم عليهم السلام كثيرة في الأمر بالإنفاق وعدم الخشية من الفقر لأنّ الله الرزاق الكريم سيعوض ما يُنفَق و في كتاب للإمام الرضا (ع) لابنه الإمام الجواد (ع) «فَأَنْفِقْ ولَا تَخْشَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ إِقْتَاراً»[15]، فالمعنى في الروايات واحد و هو الحث على الإنفاق و العطاء و أنّ العوض و البدل من الله الرزّاق الكريم.
و الناس تتفاوت و تتفاضل في جهة الإنفاق و الإمساك، في كل الأمصار و الأعصار و الأمكنة و الأزمنة، و في حديث الإمام الصادق (ع) عن جده رسول الله (ص): «الأَيْدِي ثَلَاثَةٌ: سَائِلَةٌ و مُنْفِقَةٌ و مُمْسِكَةٌ، و خَيْرُ الأَيْدِي الْمُنْفِقَةُ»[16].
و في بعض الروايات إطلاق للإنفاق الذي يشمل كل أنواع الانفاق من صرف المال في مواضعه الصحيحة من صدقة أو زكاة أو حقوق شرعية، أو الإنفاق في سبيل اللَّه و الجهاد، أو إنفاق في الحج و الزيارة، أو نفقة الزوجة و الأولاد، أو إطعام أو نذر، أو الإنفاق في قضاء حوائج المؤمنين أو غيره، «أَنْفِقْ و أَيْقِنْ بِالْخَلَفِ مِنَ اللَّه»[17]، أنفق من مالك دون تردد و تيقن بأنّ الله سيعوضك و يخلف عليك ما أنفقت و لن ينقص مالك و لن تفتقر.
وسياق الحِكمة «مَنْ أَيْقَنَ بِالْخَلَفِ جَادَ بِالْعَطِيَّةِ» هو الانفاق الإيجابي الخيري و في سبيل الله، و لكن إذا أخذت كما هي في نهج البلاغة دون سياق النص الأصلي فهي عامة و تعني أنّ من يتيقن أو يظن ظنا غالبا أنّ ما يُنفقه سيعوضه لاحقا يجود بالانفاق و البذل، و لها تطبيقات سلبية مثل الانفاق في الرشوات، فالرشوة تُقَدم في سبيل أن يحصل الراشي من المرتشي على عوض معين أو خدمة أو منصب أو وظيفة أو تسهيل أو تسريع عمل معين، فيرشي و يعطي ما يرجو منه خلف و عوض، فاطمئنانه بالخلف يدفعه لتقديم الرشوة دون تردد.
و مثل بعض المرشحين في الانتخابات فإنّهم يبذلون أموالا و بعضها طائلة في سبيل الوصول إلى النيابة في البرلمان أملا أن يحصلوا على عوض ما قدّموه سابقا بوصولهم إلى البرلمان من فوائد المنصب فيه، و ما قدّموه هو تكاليف مالية و صرف أوقات، و بذل جهود، و القيام بتذلل للناخبين، إلى غيرها من إنفاق و مصروفات و جهود، فينفقون و يبذلون الأموال أملا أن يكون وصولهم للبرلمان يخلف و يعوض الأموال و الأتعاب و الجهود التي بذلوها مضاعفة.
و من ضمن العادات و الثقافة الشعبية في بعض المناطق المغربية هي أنّه بعد الانتهاء من الأكل يقول الآكل «الحمد الله، الله يخلف»، أو إذا أعطى أحد آخر شيئا يقول الآخذ «الله يخلف عليك»، و في بعض المناطق يدعون للمشتري بالخلف من الله حين الشراء فيقول البائع للمشتري بعد أخذ المال «بسم الله، الله يخلف»، و حين يرد البائع على المشتري الباقي من الحساب يقول المشتري «الله يخلف عليك».
و يتكرر في سوق المغاربة و في أسواق الخضار و المواد الغذائية و الدكاكين الدعاء بالعوض من الله، ففي كثير من الحالات حينما تشتري من بائع مغربي فإنّه يقول بعد استلام الثمن مباشرة «الله يخلف»، و الآية «وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ»[18].
الثقة بالله و الطمأنينة بوعده و اليقين بخلفه يدفعون الإنسان للإنفاق و يجعلونه سخيا، قال تعالى في كتابه الكريم «وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ۚوَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ»[19].
-
– نهج البلاغة – حكمة 138 ↑
-
– الكافي، الشيخ الكليني، ج4، ص ٤٣ ↑
-
– تمام نهج البلاغة، السيد صادق الموسوي، ص ٧١٩ ↑
-
– الكافي، الشيخ الكليني، ج4، ص ٤٣، الرواية: عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ أَيْمَنَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ(ع) قَالَ: يَا حُسَيْنُ أَنْفِقْ وأَيْقِنْ بِالْخَلَفِ مِنَ اللَّه فَإِنَّه لَمْ يَبْخَلْ عَبْدٌ ولَا أَمَةٌ بِنَفَقَةٍ فِيمَا يُرْضِي اللَّه عَزَّ وجَلَّ إِلَّا أَنْفَقَ أَضْعَافَهَا فِيمَا يُسْخِطُ اللَّه عَزَّ وجَلَّ. ↑
-
– سورة سبإ، آية 39 ↑
-
– نهج البلاغة، كتاب 53 ↑
-
– الكافي، الشيخ الكليني، ج4، ص ٤٣ ↑
-
– الكافي، ج٤، الشيخ الكليني، ج4، ص ٤٤ ↑
-
– نهج البلاغة – حكمة 138 ↑
-
– نهج البلاغة – حكمة 137 ↑
-
– نهج البلاغة – حكمة 139 ↑
-
– نهج البلاغة – حكمة 258 ↑
-
– نهج البلاغة – حكمة 232 ↑
-
– سورة البقرة، آية 261 ↑
-
– الكافي، الشيخ الكليني، ج4، ص ٤٣، الرواية: عَنِ ابْنِ أَبِي نَصْرٍ قَالَ قَرَأْتُ فِي كِتَابِ أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ (ع) يَا أَبَا جَعْفَرٍ بَلَغَنِي أَنَّ الْمَوَالِيَ إِذَا رَكِبْتَ أَخْرَجُوكَ مِنَ الْبَابِ الصَّغِير،ِ فَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْ بُخْلٍ مِنْهُمْ لِئَلَّا يَنَالَ مِنْكَ أَحَدٌ خَيْراً، وأَسْأَلُكَ بِحَقِّي عَلَيْكَ لَا يَكُنْ مَدْخَلُكَ ومَخْرَجُكَ إِلَّا مِنَ الْبَابِ الْكَبِيرِ، فَإِذَا رَكِبْتَ فَلْيَكُنْ مَعَكَ ذَهَبٌ وفِضَّةٌ ثُمَّ لَا يَسْأَلُكَ أَحَدٌ شَيْئاً إِلَّا أَعْطَيْتَه، ومَنْ سَأَلَكَ مِنْ عُمُومَتِكَ أَنْ تَبَرَّه فَلَا تُعْطِه أَقَلَّ مِنْ خَمْسِينَ دِينَاراً والْكَثِيرُ إِلَيْكَ، ومَنْ سَأَلَكَ مِنْ عَمَّاتِكَ فَلَا تُعْطِهَا أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةٍ وعِشْرِينَ دِينَاراً والْكَثِيرُ إِلَيْكَ، إِنِّي إِنَّمَا أُرِيدُ بِذَلِكَ أَنْ يَرْفَعَكَ اللَّه فَأَنْفِقْ ولَا تَخْشَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ إِقْتَاراً. ↑
-
– الكافي، الشيخ الكليني، ج4، ص ٤٣ ↑
-
– الكافي، الشيخ الكليني، ج4، ص ٤٣ ↑
-
– سورة سبإ، آية 39 ↑
-
– سورة المزمل، آية 20 ↑