أنت فكن ذاك إن شئت، فأمّا أنا فوالله دون أن أعطي ذلك ضرب.. في الإباء و رفض الذل
محمد جواد الدمستاني
في الإباء و رفض الذل و الهوان روي عن أمير المؤمنين عليه السلام: « وَ اللَّهِ إِنَّ امْرَأً يُمَكِّنُ عَدُوَّهُ مِنْ نَفْسِهِ، يَعْرُقُ لَحْمَهُ، وَ يَهْشِمُ عَظْمَهُ، وَ يَفْرِي جِلْدَهُ، لَعَظِيمٌ عَجْزُهُ، ضَعِيفٌ مَا ضُمَّتْ عَلَيْهِ جَوَانِحُ صَدْرِهِ، أَنْتَ فَكُنْ ذَاكَ إِنْ شِئْتَ، فَأَمَّا أَنَا فَوَاللَّهِ دُونَ أَنْ أُعْطِيَ ذَلِكَ ضَرْبٌ بِالْمَشْرَفِيَّةِ، تَطِيرُ مِنْهُ فَرَاشُ الْهَامِ وَ تَطِيحُ السَّوَاعِدُ وَ الْأَقْدَامُ، وَ يَفْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ ما يَشاءُ». خطبة 34 – نهج البلاغة.
و هذا جزء من خطبة لأمير المؤمنين عليه السلام في استنفار الناس إلى أهل الشام بعد فراغه من أمر الخوارج، و فيها تأفف، و نصح لهم، و أولها « أُفٍّ لَكُمْ لَقَدْ سَئِمْتُ عِتَابَكُمْ، أَ رَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ عِوَضاً، وَ بِالذُّلِّ مِنَ الْعِزِّ خَلَفاً..».
و الكلام في الإباء و رفض الذل أو التسليم للعدوّ بل يجب مجاهدته مهما كانت النتائج و الأمر بعد ذلك بيد الله سبحانه.
و الكلام «وَ اللَّهِ إِنَّ امْرَأً يُمَكِّنُ عَدُوَّهُ مِنْ نَفْسِهِ» عام موجّه لكل من يمكّن عدوه من نفسه كائنا من كان، و لكل عنصر ضعيف يمكّن عدوّه من نفسه و غير معين أو مخصص لأحد، و لكن الرواية وردت بتوجيه الكلام إلى الأشعث بن قيس، و ورد أنّ الإمام عليه السلام كان يخطب و يلوم الناس على تثبيطهم وتقاعدهم، فتكلم الأشعث بكلام فردّ عليه الإمام بهذا الكلام، و فيه «أَنْتَ فَكُنْ ذَاكَ إِنْ شِئْتَ، فَأَمَّا أَنَا فَوَاللَّهِ دُونَ أَنْ أُعْطِيَ ذَلِكَ»، و يمكن أن تكون الرواية صحيحة و الخطاب عام و لا منافاة بينهما، خطاب مطلق يصدق على أي واحد منهم بما فيهم الأشعث بن قيس.
و الأشعَث بن قَيس الكِندي من المنافقين و الطالحين الذين صدرت منهم كثيرا من المواقف السلبية كما يذكر التاريخ، و كان في صفين و قد ألحّ على وقف القتال، و قبول التحكيم، و رفض ممثل التحكيم عبد الله بن عباس أو مالك الأشتر، و خالف الإمام في الرجوع لحرب معاوية، و كان على علم بمؤامرة اغتيال الإمام عليه السلام كما في الرواية التاريخية،كما كان لابنيه محمد وقيس أدوار في واقعة الطف و اشتركا في دم الحسين و مسلم بن عقيل، و قد قامت ابنته جعدة بدس السمّ إلى الإمام الحسن عليه السلام.
و في الخطبة التاسعة عشر في نهج البلاغة خاطبه الإمام عليه السلام قائلا «مَا يُدْرِيكَ مَا عَلَيَّ مِمَّا لِي، عَلَيْكَ لَعْنَةُ اللَّهِ وَ لَعْنَةُ اللَّاعِنِينَ، حَائِكٌ ابْنُ حَائِكٍ، مُنَافِقٌ ابْنُ كَافِرٍ، وَ اللَّهِ لَقَدْ أَسَرَكَ الْكُفْرُ مَرَّةً وَ الْإِسْلَامُ أُخْرَى».
و يمكن اعتباره نموذجا لتأثير الشخص الفاسد على المجتمع و تشكيلاته و خاصة الجيش.
و في المقطع يصور الإمام للمتقاعسين عن الجهاد أفعالهم المذمومة من التخاذل و الضعف و غيرها بعبارة تبيّن قبح هذا التخاذل و هي تمكينهم أنفسهم للعدوّ يتصرف بهم بطريقته و يقوّي نفسه، وهي صورة منفرة.
يقسم «وَ اللَّهِ» و يؤكد «إِنَّ امْرَأً يُمَكِّنُ عَدُوَّهُ مِنْ نَفْسِهِ..»، فمن عادة العدوّ القتل و الدمار و نهب الأموال و تفريق المجتمع، فقال «يَعْرُقُ لَحْمَهُ» أي يفصل اللحم و يأكله، و« يَهْشِمُ عَظْمَهُ»، يكسر عظمه، و «يَفْرِي جِلْدَهُ» أي يشق و يقطع، وهي كنايات عن القتل بأنواعه من اغتيال و إبادة و غيره، و عن النهب و السلب و الاعتداءات المالية، و عن تفكيك المجتمع و نظمه و تخريب البنية الاجتماعية.
إنّ هذا الذي يمكّن عدوّه من نفسه فيقوم العدوّ بقتله و نهبه و تفكيك بنية مجتمعه، و غيرها من الأفعال المنكرة لا يكون إلَّا عاجزا «عَظِيمٌ عَجْزُهُ»، ضعيف القلب «ضَعِيفٌ مَا ضُمَّتْ عَلَيْهِ جَوَانِحُ صَدْرِهِ» أي أضلاع صدره، كناية عن الجُبْن و الخوف.
« أَنْتَ فَكُنْ ذَاكَ إِنْ شِئْتَ» ، أنت أي المرء الموصوف بالعجز و الضعف، أنت يا من تمكّن نفسك للعدوّ ، أنت وما تختار لنفسك من الاذلال و الهوان فإنّ العدوّ سيجري عليك أنواع الذل و الخضوع و سيسلب حقوقك و أموالك و كرامتك.
و المعنى لا تكن عاجزا ضعيفا بل كن شجاعا و قويا و متحملا للمسؤولية و مجاهدا .
«فَأَمَّا أَنَا فَوَاللَّهِ دُونَ أَنْ أُعْطِيَ»، و أمّا علي بن أبي طالب فلا يختار ذاك الحال و تلك الصفات من الضعف، و لا يمكّن عدوّه من نفسه، دون الجهاد و القتال «فَوَاللَّهِ دُونَ أَنْ أُعْطِيَ ذَلِكَ ضَرْبٌ بِالْمَشْرَفِيَّةِ، تَطِيرُ مِنْهُ فَرَاشُ الْهَامِ وَ تَطِيحُ السَّوَاعِدُ وَ الْأَقْدَامُ»، كناية عن أشدّ الجهاد و أقوى القتال، و المشرفية سيوف منسوبة إلى مشارف،« تَطِيرُ مِنْهُ» من هذا الضرب تطير و تقطع الرؤوس، و تطيح سواعد الأيدي و الأقدام.
«وَ يَفْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ ما يَشاءُ»، ويفعل اللَّه بعد ذلك الجهاد و القتال ما يشاء فإنّ إليه مصير الأمور وعواقبها، أي بمعنى آخر فإنّ الإنسان يؤدي في هذه الحياة الدّنيا تكليفه الشرعي و واجبه الشرعي، و يفعل الله بعد ذلك ما يريد، بحكمته و مشيئته.
و النصر ليس بالضرورة مرتبط بموازين القوى العسكرية أو غيرها فإذا رأى الله الصدق أنزل النصر كما في كلمة أمير المؤمنين عليه السلام «فَلَمَّا رَأَى اللَّهُ صِدْقَنَا أَنْزَلَ بِعَدُوِّنَا الْكَبْتَ وَ أَنْزَلَ عَلَيْنَا النَّصْرَ» نهج البلاغة، خطبة 56، و قال الله تعالى في كتابه الكريم: «كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ» البقرة ، آية 249، و قال « إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ۚ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا» سورة الأنفال، آية 56.
فكما هي ضرورة تهيئة الأسباب المادية من العدد و العدة و العتاد، و التجهيز و التهيأة، و الترتيب و التنظيم « وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ» سورة الأنفال، آية 60، كذلك ضرورة توفر الأسباب المعنوية من الإيمان و التوكلّ و الصبر و الصدق و الثبات، و العمل الصالح، «وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ» سورة المائدة، آية 65، و قال تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ» سورة محمد، آية 7، «وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ» سورة آل عمران-126.
ومن كلماته عليه السلام لما استولى أصحاب معاوية على شريعة الفرات بصفين و منعوهم الماء :
« قَدِ اسْتَطْعَمُوكُمُ الْقِتَالَ، فَأَقِرُّوا عَلَى مَذَلَّةٍ وَ تَأْخِيرِ مَحَلَّةٍ، أَوْ رَوُّوا السُّيُوفَ مِنَ الدِّمَاءِ تَرْوَوْا مِنَ الْمَاء،ِ فَالْمَوْتُ فِي حَيَاتِكُمْ مَقْهُورِينَ ، والحَياةُ في مَوتِكُم قاهِرِينَ». نهج البلاغة- خطبة 51.
و من كلمات الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء قوله : « ألَا وإنّ الدَعِيَّ ابنَ الدَعِيِّ قدْ رَكَزَ بينَ اثنَتَينِ: بينَ السِّلَّةِ والذِّلَّةِ، وهيهاتَ منّا الذِّلَّةُ، يأبَى اللهُ لَنَا ذلكَ ورَسُولُهُ والمؤمِنونَ، وحُجورٌ طابَتْ وطَهُرتْ، وأُنُوفٌ حَمِيَّةٌ ونُفُوسٌ أبِيَّةٌ مِنْ أنْ نؤْثِرَ طاعَةَ اللِّئامِ على مصارِعِ الكِرَامِ». اللهوف في قتلى الطفوف – السيد ابن طاووس – الصفحة ٥٩
و كمثال للاثنين تمكين العدوّ و عدمه ما جرى على المختار الثقفي و جيشه، فلم يمكّن المختار عدوّه من نفسه و قاتل حتى الشهادة، بينما مكّن قسم كبير من جيشه أنفسهم لجيش الزبيريين فقتلوهم غدرا صبرا و كانوا بين ستة و ثمانية آلاف رجل.
فإنّ المختار لما حوصر دعا الجيش للقتال و عدم الاستسلام، و حثّهم و قال لهم فإن أخطأتم النصر متّم كراما، و إذا لم تقاتلوا ستندمون و تقولون يا ليتنا أطعنا المختار وعملنا برأيه، فلم يطيعوه.
و تكرر هذا النصح في اليوم التالي لشهادة المختار فقال أحد أصحابه للباقين يا قوم قد كان صاحبكم بالأمس أشار عليكم بالرأي فما أطعتموه ، يا قوم إنّكم إن نزلتم على حكم القوم ذبحتم كما تذبح الغنم، أخرجوا بأسيافكم حتى تموتوا كراما . فقالوا : لقد أمرنا بهذا من كان أطوع عندنا فعصيناه . فأمكنوا من أنفسهم ونزلوا إلى حكم الزبيريين، فبعث مصعب إليهم من يخرجهم مكتّفين ثم أمر بقتلهم جميعا.
فهؤلاء مصداق لمن يمكّن عدوّه من نفسه، و لقد نصحهم المختار أن يقاتلوا أو يموتوا موتة أحرارا فأبّوا إلا موتة العبيد.في تفاصيل كثيرة ممكن مراجعة تاريخ الطبري، ج4ص570 لمزيد من التفاصيل.