الحوار و الحرب في معركة الجمل
«عرفتني بالحجاز و أنكرتني بالعراق، فما عدا ممّا بدا»
نهج البلاغة ، باب الخطب، 31
محمد جواد الدمستاني
قال أمير المؤمنين عليه السلام في حرب الجمل لما أنفذ عبد الله بن عباس إلى الزبير: «لَا تَلْقَيَنَّ طَلْحَةَ فَإِنَّكَ إِنْ تَلْقَهُ تَجِدْهُ كَالثَّوْرِ عَاقِصاً قَرْنَهُ، يَرْكَبُ الصَّعْبَ وَ يَقُولُ هُوَ الذَّلُولُ، وَ لَكِنِ الْقَ الزُّبَيْرَ فَإِنَّهُ أَلْيَنُ عَرِيكَةً، فَقُلْ لَهُ يَقُولُ لَكَ ابْنُ خَالِكَ عَرَفْتَنِي بِالْحِجَازِ وَ أَنْكَرْتَنِي بِالْعِرَاقِ فَمَا عَدَا مِمَّا بَدَا». نهج البلاغة، خطبة 31.
كلام الإمام (ع) في الحوار و الحرب و هذا التوجيه و الإرشاد له جوانب مهمة، لكنها لا تناسب الاختصار هنا، و منها:
إنّ سياسة الإمام عليه السلام هي أولوية الحل السلمي و الحوار السياسي على الحرب، و قال عليه السلام بعد ما بويع له بالخلافة: «وَ سَأُمْسِكُ الْأَمْرَ مَا اسْتَمْسَكَ، وَ إِذَا لَمْ أَجِدْ بُدّاً فَآخِرُ الدَّوَاءِ الْكَيُّ»، خطبة 168. و كان عليه السلام أراد أن يدركهم في الطريق و وصل الربذة و لكنهم تجاوزوا إلى البصرة.
و منها حوارات أمير المؤمنين عليه السلام و طريقته في الحوار، و تقديم الحوار حتى استنفاد الحلول السلمية.
و منها اختيار المحاور المناسب و هنا كان ابن عباس، الخبير المسيطر و المحنك في الحوار.
و منها اختيار طرف الحوار الآخر و يكون مع من لديه قابلية و استعداد نفسي و عملي للحوار، و يقدّر المواقف، أما من لديه غطرسة و عناد و شدّة و لا يقدر الموقف فلا يصلح معه حوار.
و منها أنّ حوار أمير المؤمنين من موقع قوة، و ميزان القوى لصالح جيشه و هو الحق و على الحق، و يعني ليس من يتقدم بالحوار يُظن به ضُعفا بل أنّ الحوار رعاية لمصلحة الأمة و حقن للدماء.
و جرت محاولات و حوارات و محادثات و إرسال رسائل عدة قبل بدء القتال في حرب الجمل من قبل الإمام عليه السلام لتفادي الحرب، لكنها لم تفلح نتيجة سلبية أصحاب الجمل و عدم تقديرهم للموقف، و قد أصرّوا علی الخلاف و النكث و فضّلّوا القتال، فکان جوابهم الإصرار على الحرب، و منها:
کتاب أمير المؤمنين عليه السلام بيد صعصعة بن صوحان الی طلحة و الزبیر و عائشة.
حوار أبي الأسود و عائشة و الزبير و طلحة
حوار ابن عباس و الزبير، و ابن الزبیر عبد الله
حوار ابن عباس بالمصحف مع الزبير و طلحة و عائشة
حوار عمار مع الزبير و وقوفه بين الصفين و كلامه لعائشة
ذكر المسعودي في تاريخه و انّه وقف بين الصفين ناصحا فتواتر علیه الرمی و اتصل، فحرك فرسه، و زال عن موضعه و أتی علیا فقال: ماذا تنظر یا أمیر المؤمنین و لیس لك عند القوم إلا الحرب؟!.
حوار الامام و الزبیر
حوار الامام و طلحة
حوار ابن عباس و الزبير
ومن ضمن محاولات أمير المؤمنين عليه السلام في الحوار أرسل عبد الله بن عباس، و هذا الكلام قاله عليه السلام في حرب الجمل لما أنفذ ابن عباس إلى الزبير، قال عليه السلام: «لَا تَلْقَيَنَّ طَلْحَةَ فَإِنَّكَ إِنْ تَلْقَهُ تَجِدْهُ كَالثَّوْرِ عَاقِصاً قَرْنَهُ، يَرْكَبُ الصَّعْبَ وَ يَقُولُ هُوَ الذَّلُولُ، وَ لَكِنِ الْقَ الزُّبَيْرَ فَإِنَّهُ أَلْيَنُ عَرِيكَةً، فَقُلْ لَهُ يَقُولُ لَكَ ابْنُ خَالِكَ عَرَفْتَنِي بِالْحِجَازِ وَ أَنْكَرْتَنِي بِالْعِرَاقِ فَمَا عَدَا مِمَّا بَدَا». نهج البلاغة، خطبة 31.
صفات المحاور الجيد تنطبق على ابن عباس: فالمحاور و المناظر یجب أن تتوفر فيه شروط، كأن یکون فطنا، ذكيا، متيقظا، ینتبه للمؤامرات و المخادعات، و یحفظ من الشواهد و الأدلة والآیات القرآنیة و الأحادیث، و أنّ يكون سریع الملاحظة و البدیهة، فصيحا، عالما، و هو كذلك حافظ، عالم بالشعر و العربیة و الحساب، مع جمال الهيئة، و أنيق، و كان قد بدأ حواره مع الخوارج لاحقا باللباس ثم استدرجهم للقتل و القتال.
حاور الإمام الزبير
حاور عليه السلام الزبير حيث برز الإمام علیه السلام بین الصفین حاسرا و برز الزبير مدججا، و ذكّره (ع) بحديث لرسول الله (ص) حيث قال للزبير «و لَتُقَاتِلَنَّهُ و أنْتَ لَهُ ظَالِمٌ» فانسحب الزبير من الحرب، و انصرف عن القتال، و مر بوادی السباع فقتله ابن جرموز غدرا.
أمّا الشيخ المفيد في الجمل فلم یذکر انسحاب الزبیر من الحرب، و قال: «و ولى الزبير منهزما فأدركه ابن جرموز فقتله». الجمل، الشيخ المفيد، ص ١٩٩، و ذلك بعد انتهاء المعركة و هزيمة القوم.
حوارا بین الامام و طلحة
و ذكر المسعودي حوارا بین الامام و طلحة، استغفر بعده طلحة ثم رجع، فقال مروان بن الحكم: رجع الزبیر و یرجع طلحة فرماه بسهم فقتله.
حوار ابن عباس الزبير
عبد الله بن عباس هو ابن عمّ لرسول اللَّه (ص)، و ابن عم لأمير المؤمنين (ع)، و ابن خال للزّبير بن العوام، و يلتقون في جدهم عبد المطلب من جهة الأب، ما عدا الزبير فمن جهة الأم صفية بنت عبد المطلب فهي أخت عبد الله والد النبيّ (ص) و أبو طالب والد الإمام (ع) و العباس والد عبد الله.
و من ضمن محاولات أمير المؤمنين عليه السلام إرسال المحاورين أرسل عبد الله بن عباس، و هذا الكلام قاله عليه السلام قبل بدء المعارك في حرب الجمل لما أنفذ ابن عباس إلى الزبير، قال عليه السلام: «لَا تَلْقَيَنَّ طَلْحَةَ فَإِنَّكَ إِنْ تَلْقَهُ تَجِدْهُ كَالثَّوْرِ عَاقِصاً قَرْنَهُ، يَرْكَبُ الصَّعْبَ وَ يَقُولُ هُوَ الذَّلُولُ، وَ لَكِنِ الْقَ الزُّبَيْرَ فَإِنَّهُ أَلْيَنُ عَرِيكَةً، فَقُلْ لَهُ يَقُولُ لَكَ ابْنُ خَالِكَ عَرَفْتَنِي بِالْحِجَازِ وَ أَنْكَرْتَنِي بِالْعِرَاقِ فَمَا عَدَا مِمَّا بَدَا». نهج البلاغة، خطبة 31
«لَا تَلْقَيَنَّ طَلْحَةَ فَإِنَّكَ إِنْ تَلْقَهُ تَجِدْهُ كَالثَّوْرِ عَاقِصاً قَرْنَهُ، يَرْكَبُ الصَّعْبَ وَ يَقُولُ هُوَ الذَّلُولُ».
لَا تَلْقَيَنَّ طَلْحَةَ لأنّه غير مؤهل للحوار، تَجِدْهُ كَالثَّوْرِ عَاقِصاً قَرْنَهُ كالثور فيه هيجان دون تدبر، عاقصا قرنه كناية عن عناد و تكبّر، و الحوار لا يكون مع من لديه عناد و حِدَّة، و لا يكون مع من لا يقدّر الموقف و يشخص الأمور، «يَرْكَبُ الصَّعْبَ وَ يَقُولُ هُوَ الذَّلُولُ»، يخوض الأمور الصعبة و يستهين بها دون إدراك كامل أو وعي، و الصّعب يقابل الذلول.
«وَ لَكِنِ الْقَ الزُّبَيْرَ فَإِنَّهُ أَلْيَنُ عَرِيكَةً»، ألين عريكة، أي ألين طبيعة، سهل الجانب دون صعوبة، فإنّ له قابلية للحوار، و الحوار معه أنفع و أثبت، فالحوار إنّما يكون مع له قابلية.
فَقُلْ لَهُ يَقُولُ لَكَ ابْنُ خَالِكَ عَرَفْتَنِي بِالْحِجَازِ وَ أَنْكَرْتَنِي بِالْعِرَاقِ
«فَقُلْ لَهُ يَقُولُ لَكَ ابْنُ خَالِكَ»، تذكير بالقربى و الرحم فإنّ لها موقع في القلب و لعلها تحرك العاطفة نحو الرحم و ترجعه إلى الحق، فلم يقل مثلا يقول لك أمير المؤمنين مثلا، أمّا كونه ابن خاله فلأنّ صفيّة بنت عبد المطلب أمّ الزّبير أخت أبي طالب ابن عبد المطلب والد الإمام، فالإمام ابن خاله و الخال أبو طالب، و الزبير ابن عمة الإمام و العمة هي صفية.
و الكلام به استمالة بذكر النسب و نوع استدراج يبعد لهيب الحرب إلى الميل إلى القرابة، و الزبير كان له موقع عند أهل البيت (ع) و قال الإمام عليه السلام فيه «مَا زَالَ الزُّبَيْرُ رَجُلًا مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ حَتَّى نَشَأَ ابْنُهُ الْمَشْئُومُ عَبْدُ اللَّهِ». نهج البلاغة، حكمة 453. وهو من أوائل المسلمين، و من المهاجرين للحبشة، و شارك في حروب رسول الله (ص)، و كان مدافعا عن أمير المؤمنين (ع)، لكنه حاربه في الجمل.
عَرَفْتَنِي بِالْحِجَازِ وَ أَنْكَرْتَنِي بِالْعِرَاقِ
يعنى أنّك بايعتني بالمدينة و كنت أشدّ النّاس حماية لي يوم السّقيفة و الشّورى، و أنكرتني بالبصرة في العراق حيث نكثت بيعتي و خرجت لمحاربتي.
«فَمَا عَدا مِمَّا بَدا»، أصبح مثلا يُضرب، و قال الشريف الرضي إنّ أمير المؤمنين عليه السلام أوّل من سمعت منه هذه الكلمة «فَمَا عَدَا مِمَّا بَدَا». ثم ذكرها أصحاب كتب الأمثال و نسبوها إلى أمير المؤمنين عليه السلام.
و المعنى هو: مالذي تغيّر و تبدّل حتى غيّرت موقفك؟ مالذي حدث حتى تغّيرت سياستُك؟ مالذي ظهر لك كنت مبايعا فصرت محاربا؟ مالذي استجد حتى تنكرت من بيعتي و متابعتي، و ما الذي صدّك عن طاعتي، و ماذا ظهر لك؟
و ذكروا أنّ جواب الزبير بعدها أنّه قال فقط «قُلٌّ لَهُ إِنَّا مَعَ الْخَوْفِ الشَّدِيدِ لنَطْمَعُ»، و سئل ابن عباس عما يعنيه، فقال: يقول: «إنا مع الخوف لنطمع أن نلي من الأمر ما وليتم»، فكان الزبير يطلب الأمر لنفسه، أو رئاسة ولاية و كذلك طلحة كانا يأملان حينما كانا في المدينة برئاسة ولاية و لكن الإمام لم يولّيهما.
و منها تأخير القتال من قبل فإنّ أمير المؤمنين عليه السلام حيث أنظرهم و أنذرهم ثلاثة أیام لیکفوا و یرعوا فأصرّوا علی الخلاف و النكث و فضّلوا القتال. كما في کتاب الجمل للشیخ المفید، ص178.
حتى قام أصحاب الجمل بقتل شاب من جيش الإمام حاملا مصحفا.
و حرص عليه السلام على ألا يبدؤهم بالقتال، حتى قام جيش الجمل بقتل عدد من أصحابه عليه السلام.
و بعد أن نفدت کل الحلول السلمية و محاولات السلام و الحوار و نبذ الخلاف و تفادی الحرب، تجهّز عليه السلام للحرب، و أعطی الرایة لابنه محمد، و حمل و حمل النّاس معه فطحن جيش الجمل و انتصر.
ثم أنّه عليه السلام عفا عن الأسرى.
و نختم بما قاله عليه السلام لأصحابه و دعا به قبل صفين: «اللَّهُمَّ احْقِنْ دِمَاءَنَا وَدِمَاءَهُمْ، وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا وَبَيْنِهِمْ، وَاهْدِهِمْ مِنْ ضَلَالَتِهِمْ، حَتَّى يَعْرِفَ الْحَقَّ مَنْ جَهِلَهُ، وَيَرْعَوِيَ عَنِ الْغَيِّ وَالْعُدْوَانِ مَنْ لَهِجَ بِهِ».