بعثة الرسول الاكرم
الشيخ محمد توفيق المقداد
قال الله تعالى في محكم كتابه: ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾
تشير هذه الآية المباركة إلى مبعث الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى قومه من بني العرب، ومن بعدهم إلى العالمين أجمع وفقاً لقوله تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾
وقد جاءت بعثة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد انقطاع فترة من الزمن عن إرسال الأنبياء (عليهم السلام) مما أدى إلى حصول الانحرافات الخطيرة من عبادة الأوثان والأصنام من جهة، وتزييف وتحريف العقائد الإلهية السابقة على الإسلام من الجهة الأخرى.
وعبّرت الآية الكريمة عن الذين أرسل الله إليهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنهم “أميون” والمراد هنا من هذه العبارة هو الجهل بالله عزوجل وبواحدانيته وبأنه الخالق المعبود دون سواه، وليس المراد الجهل بالقراءة والكتابة، لأن الأمية بهذا المعنى لم تكن موجودة في العصر الجاهلي لوجود القادرين على الكتابة والقراءة، وما يؤكد هذا المعنى للأمية تتمة الآية حيث تبين أن النبي المرسل قد كان يتلو على قومه آيات الله سبحانه وتعالى التي ترشدهم إلى الخالق الحقيقي والمعبود الذي لا معبود سواه، وأن كل ما يفعله أهل الجاهلية من عبادة الأوثان والأصنام هو شرك بالله وكفر به وانحراف عن الصراط المستقيم.
لذا كانت وظيفة البعثة النبوية تزكية نفوس الناس وتطهيرها من الدنس والرجس والانحراف لتصبح الناس مؤهلة لتلقي كلام الله والسير على منهجه وهداه ونوره، لأن التعليم بدون تزكية الأرواح يمكن أن يؤدي إلى نحو من المزج بين عبادة الله والأوثان كما كان يقول أهل الجاهلية عن عبادة الأوثان: ﴿ … مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ … ﴾
ومن هنا كان أول ما دعا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قومه من قريش إلى الاعتقاد به هو: (قولوا لا إله الا الله تفلحوا).
لأن هذه الكلمة العظيمة بما تحتوية من معاني الاعتراف بالخالق وتوحيده وتنزيهه عن الشرك وعن كل ما ينافي القدرة الإلهية القادرة على أن تفتح العقول والقلوب لاستيعاب المعارف الإلهية الحقة التي أنزلها الله على قلب نبيه محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
مضافاً إلى ذلك إن بعثة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) جاءت بعد استفحال الظلم والشرك والطغيان وسيطرة القوتين العظميتين على مقدرات البلاد والعباد في ذلك الزمن وهما “الأمبراطورتيان الرومية والفارسية” اللتان كانتا تتقاسمان السيطرة على شبه الجزيرة العربية بالكامل، بالاضافة إلى الممالك الأخرى التي كانت كل من الإمبراطوريتين تسيطران عليها.
في هذا الجو الضاغط على المجتمعات سواء من جهة الشرك بالله أو الظلم والطغيان جاءت بعثة النبي الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) لتكون الشعلة النيرة التي تضيء الطريق وترشد الناس إلى ما فيه خلاصهم من الشرك وعبادة الأوثان من جهة، ومن تحرير أنفسهم من الظلم والطغيان ثانياً.
وقد جاهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بكل قوة واقتدار ومن دون هزيمة في قناعاته الجهادية بأن هذا الدين لا بد له من أن ينتشر بين الناس لأنه وسلية خلاص ونجاة البشرية من كل عذاباتها وآلامها. إلا أن المتضررين من البعثة النبوية كانوا أول من واجه تلك الدعوة وحاربوا على منع الرسالة من أن تأخذ مداها الطبيعي في حياة المستضعفين والفقراء ممن كانوا يرزحون تحت ظلم أولئك الجبابرة الظالمين، وعملوا بشتى الوسائل من أجل التضييق على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كالاتهام بالسحر والجنون وأنه أخذ العقيدة من أناس عاديين وأنه ليس بنبي، إلاّ أن كل تلك الأساليب لم تنفع، فحاولوا إغراءه بالمال والمنصب لكنه رفض وأبى أيضاً، وقال لعمه أبي طالب عندما جاءه مبعوثاً من جبابرة قريش لإيقاف الدعوة: (والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن اترك هذا الأمر ما تركته أو أهلك دونه).
لذا نجد أن المسلمين القلائل الذين آمنوا بدعوة النبي تعرضوا للاضطهاد والتعذيب حتى أن البعض منهم استشهد كياسر وسميّة والدي “عمار”، وهاجر هؤلاء المسلمون الأوائل إلى الحبشة احتماء بملكها ليحافظوا على دينهم الجديد الذي آمنوا به واعتقدوا أنه الصراط المستقيم فعلاً وحقيقة.
وفي نهاية الأمر أثمرت الجهود النبوية المخلصة لله عزوجل في دفع البعثة إلى المستوى الذي جعلها قادرة على الامتداد والانتشار بعد هجرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة المنورة التي انطلقت منها النواة الأولى للدولة الإسلامية التي استطاعت أن تهزم الامبراطوريتين الأكبر في تاريخ الإنسانية في ذلك العصر، وأن تزيلهما من أمام حركة امتداد الرسالة للوصول إلى المجتمعات المظلومة التي كانت تتلهف إلى الدين الجديد بعد أن كانت قد سمعت عنه وعن نبيه الكثير من الأخبار الجديدة التي شجعتهم إلى التعرف إليه والاعتقاد به، وانتشر الإيمان في كل أرجاء ذلك العالم الذي كان مرتعاً للشيطان ومسرحاً لجنوده، وصار العالم موحداً مؤمناً بالله ورسوله والدين الذي جاء به وانقذ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بجهاده كل ذلك المجتمع الإنساني آنذاك وما تلاه من الأجيال من الكفر والشرك والإلحاد.
وسيبقى الإسلام هو النور المضيء للإنسانية إلى آخر يوم من عمر هذه الأرض ولن تستيطع كل قوى الشر والظلم من إطفاء ذلك النور أبداً مهما بلغت قوتهم وإمكاناتهم وقد قال تعالى: ﴿ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾