محمد جواد الدمستانيمحمد جواد الدمستاني

Loading

الاعتبار و الاتعاظ بالقرون الماضية و الأمم السابقة

«أين العمالقة وابناء العمالقة أين الفراعنة و أبناء الفراعنة»

خطبة 182 – نهج البلاغة

محمد جواد الدمستاني

في وصية لأمير المؤمنين عليه السلام بالتقوى و الاعتبار و الاتعاظ بالأمم السابقة، روي عنه عليه السلام: «وَ إِنَّ لَكُمْ فِي الْقُرُونِ السَّالِفَةِ لَعِبْرَةً، أَيْنَ الْعَمَالِقَةُ وَ أَبْنَاءُ الْعَمَالِقَةِ، أَيْنَ الْفَرَاعِنَةُ وَ أَبْنَاءُ الْفَرَاعِنَةِ، أَيْنَ أَصْحَابُ مَدَائِنِ الرَّسِّ الَّذِينَ قَتَلُوا النَّبِيِّينَ وَ أَطْفَئُوا سُنَنَ الْمُرْسَلِينَ وَ أَحْيَوْا سُنَنَ الْجَبَّارِينَ، أَيْنَ الَّذِينَ سَارُوا بِالْجُيُوشِ وَ هَزَمُوا بِالْأُلُوفِ وَ عَسْكَرُوا الْعَسَاكِرَ وَ مَدَّنُوا الْمَدَائِنَ»، نهج البلاغة، خطبة 182.

و هذه الفقرة من خطبة طويلة خطبها عليه السلام بالكوفة وهي آخر خطبة خطبها عليه السلام إذ يقول الراوي نوف البكالي في خاتمتها فما دارت الجمعة حتى ضربه الملعون ابن ملجم.

و أراد (ع) في هذا المقطع تنبيه الناس للاتعاظ بأحوال القرون السابقة و أحوال الماضين و حوادث التاريخ و الأمم، و أنها عِبرة و عِظة لمن أراد أن يعتبر و يتعظ، قال (ع): «وإِنَّ لَكُمْ فِي الْقُرُونِ السَّالِفَةِ لَعِبْرَةً، أَيْنَ الْعَمَالِقَةُ، أَيْنَ الْفَرَاعِنَةُ، أين..» استفهام تقرير تنبيها على فناء تلك الأمم و انتهائها، فأين مصير و عاقبة و نهاية تلك الدول و الشعوب القديمة و رجالها و طغاتها و أصحاب النفوذ فيها و قادتها العسكريين، كل تلك الأمم انتهوا و اندثروا و هلكوا.

و يذكر أنّ العمالقة و مفردها عملاق هم من ولد عملاق بن لاوذ بن إرم بن سام بن نوح النبي (ع)، وهم أمم تفرّقوا، و يعّد عاد وثمود من العمالقة يشتركون مع عملاق في الجد إرم بن سام بن نوح.

والفراعنة و مفردها فِرعون هو لقب ملِك مصر في التاريخ القديم، و أصبح الآن لقب يُطلق على كلّ طاغية جائر.

قال الله تعالى: «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ»، سورة الفجر:6-14.

و قال عليه السلام: «أَيْنَ أَصْحَابُ مَدَائِنِ الرَّسِّ الَّذِينَ قَتَلُوا النَّبِيِّينَ وَ أَطْفَئُوا سُنَنَ الْمُرْسَلِينَ وَ أَحْيَوْا سُنَنَ الْجَبَّارِينَ»، ذكرت أحوال أصحاب الرّس في كتب التاريخ، و جاء ذكرهم في القرآن الكريم في قوله تعالى: «كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ»، سورة ق:12. هؤلاء الذين «قَتَلُوا النَّبِيِّينَ» المبعوثين من الله سبحانه و تعالى لهداية البشر، و «أَطْفَئُوا سُنَنَ الْمُرْسَلِين» التي كانت نورا و ضياء لهداية الناس، و «أَحْيَوْا سُنَنَ الْجَبَّارِينَ»، من الفساد و القتل و سفك الدّماء. أين هم الآن؟

و «أَيْنَ الَّذِينَ سَارُوا بِالْجُيُوشِ وَ هَزَمُوا بِالْأُلُوفِ وَ عَسْكَرُوا الْعَسَاكِرَ وَ مَدَّنُوا الْمَدَائِنَ»، كلهم جميعا انتهوا و هلكوا و لم تبق إلا أعمالهم شاهدة عليهم، فهل من معتبر؟!

و أين الطغاة على مر العصور؟ و أين بنو أمية؟ أين أبو سفيان و معاوية؟ و أين أبناؤهم؟ الذين عاثوا في الأرض فسادا؟ أين يزيد؟ الذي حكم ثلاث سنوات، قتل الإمام الحسين (ع) و عترة النبي (ص) في السنة الأولى، و استباح المدينة في السنة الثانية، و رمى الكعبة بالمنجنيق في السنة الثالثة، ثم هلك و لا قبر له و لا ذكر سوى اللعنات، و أين الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان الذي يمزق القرآن و يخاطبه: تهددني بجبار عنيد.

و أين بنو العباس، و أين أبناؤهم؟ أين المنصور و هارون و المتوكل وغيرهم؟ و أين الطغاة جميعا على مر الدهور و العصور؟ انتهى ملكهم و أبيدت دولهم لا أثر لهم و لا ذكر، ذهبوا تطاردهم لعنات الأحياء في الدّنيا و الحساب العسير في الآخرة.

و إذن، ينبعي على العاقل أن يعتبر و لا يغتر بالدّنيا، و مهما كان موضعه و منصبه و وظيفته، بل ينبغي أن يغتنمها في العمل بطاعة الله و يسعى لرضا الله سبحانه و تعالى و يلتزم بحدوده و أحكامه، و يؤدي حقوق المخلوقين.

و في غرر الحكم (ص ١٨١) و قد ذكر حكما متتالية عن أمير المؤمنين عليه السلام، قال:

أين العمالقة وأبناء العمالقة، أين الجبابرة و أبناء الجبابرة، أين أهل مدائن الرّسّ الّذين قتلوا النّبيّين و اطفئوا نور المرسلين، أين الّذين عسكروا العساكر و مدّنوا المدائن، أين الّذين قالوا من أشدّ منّا قوّة و أكثر جمعا، أين الّذين كانوا أحسن آثارا و أعدل أفعالا و أكنف ملكا، أين الّذين هزموا الجيوش و ساروا بألوف، أين الّذين شيّدوا الممالك و مهّدوا المسالك و أغاثوا الملهوف وقرّوا الضّيوف، أين من سعى و اجتهد وأعدّ و احتشد، أين من بنى و شيّد و فرش و مهّد و جمع و عدّد، أين كسرى و قيصر و تبّع و حمير، أين من ادّخر و اعتقد و جمع المال على المال فأكثر، أين من حصّن و أكّد و زخرف و نجّد، أين من جمع فأكثر و احتقب و اعتقد و نظر بزعمه للولد، أين من كان أطول منكم أعمارا و أعظم آثارا، أين من كان أعدّ عديدا و اكنف جنودا، أين الملوك و الأكاسرة، أين بنوا الأصفر و الفراعنة أين الّذين ملكوا من الدّنيا أقاصيها، أين الّذين استذلّوا الأعداء وملكوا نواصيها، أين الّذين دانت لهم الأمم، أين الّذين بلغوا من الدّنيا أقاصي الهمم.

ذهبوا جميعا دون رجعة.

وكان أمير المؤمنين عليه السلام يغتنم الفرص لينصح و يرشد أصحابه و يوعضهم و روى المنقري في كتاب وقعة صفين (ص142)، قال: ثم مضى [ع] نحو ساباط حتى انتهى إلى مدينة بهر سير، و إذا رجل من أصحابه يقال له حر بن سهم بن طريف من بنى ربيعة بن مالك ينظر إلى آثار كسرى، و هو يتمثل قول ابن يعفر التميمي:

جرت الرياح على مكان ديارهم فكأنما كانوا على ميعاد

فقال علي: أفلا قلت: « كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ‎ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ‎ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ ‎‏ كَذَٰلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ ‎ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ»، سورة الدخان:25-29، إنّ هؤلاء كانوا وارثين فأصبحوا موروثين، إنّ هؤلاء لم يشكروا النعمة فسلبوا دنياهم بالمعصية، إياكم و كفر النعم لا تحل بكم النقم.

و في الخطبة القاصعة قال أمير المؤمنين (ع): «أَ لَمْ يَكُونُوا أَرْبَاباً فِي أَقْطَارِ الْأَرَضِينَ، وَ مُلُوكاً عَلَى رِقَابِ الْعَالَمِينَ، فَانْظُرُوا إِلَى مَا صَارُوا إِلَيْهِ فِي آخِرِ أُمُورِهِمْ، حِينَ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ وَ تَشَتَّتَتِ الْأُلْفَةُ وَ اخْتَلَفَتِ الْكَلِمَةُ وَ الْأَفْئِدَةُ وَ تَشَعَّبُوا مُخْتَلِفِينَ وَ تَفَرَّقُوا مُتَحَارِبِينَ وَ قَدْ خَلَعَ اللَّهُ عَنْهُمْ لِبَاسَ كَرَامَتِهِ وَ سَلَبَهُمْ غَضَارَةَ نِعْمَتِهِ وَ بَقِيَ قَصَصُ أَخْبَارِهِمْ فِيكُمْ عِبَراً لِلْمُعْتَبِرِينَ»، نهج البلاغة، خطبة 192.

و في حياة الطغاة قصص كثيرة للاعتبار و الاتعاظ، لا ينبغي للنّاس عامة و للحكام و الرؤساء و الأمراء و الملوك و السلاطين خاصة أن يهملوها، بل ينبغي أن تكون لهم عبرة، و قد مر على هذا العالم طغاة متعددون كل يفتتن و يتفنن بظلمه و طغيانه، هلكوا جميعا و ذهبوا إلى عوالم الحساب.

منهم من كان يحكم بالحديد و النّار و القتل و سفك الدّماء.

و منهم من يقوم بافتضاض العروس ليلة عرسها ثم تذهب إلى زوجها كالعمالقة.

و منهم من يقتل الرجال و يستحيى النساء و يبقر بطون الحبال و يدّعي الربوبية كفرعون موسى.

و منهم من كانوا يقتلون ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس سبعين نبيّا، ثمّ يجلسون في أسواقهم يبيعون ويشترون كأن لم يصنعوا شيئا، فلم يعجّل اللّه عليهم، بل أمهلهم و أخذهم بعد ذلك أخذ عزيز ذي انتقام و هم بنو إسرائيل.

و منهم من يتلذذ بالقتل و التنكيل و سفك الدم كالحجاج.

و منهم من يبني على الأحياء اسطوانات حتى يموتوا فيها كالمنصور و حفيده هارون العباسيين.

و منهم من يسترق آلاف النساء و يطوف بهن كهارون العباسي.

و منهم من يأمر بحفر حفرة لضحيته ثمّ يدلى رأسه فيها و يطرح التراب عليه و نصفه الأسفل ظاهر على التراب، و يداس التراب فلا يزال كذلك حتى تخرج روحه كالمعتضد العباسي.

و منهم من يتعدى ظلمه الأحياء فيذهب إلى قبور الأموات كالمتوكل الذي هدم قبر الحسين (ع) و ما حوله من المنازل و الدور.

و منهم من استعمل أحماض الكبريتيك أو النتريك لحرق المعتقلين و إمعانا في تعذيبهم كما في الحكم البعثي الصدامي في العراق.

و منهم من يدفن الضحايا في مقابر جماعية كصدام، و هو من أكبر الطغاة في التاريخ.

ومنهم من قام بالإبادات الجماعية و قد تكرر في التاريخ القديم و الحديث في عدة أزمنة و أمكنة.

و كثير منهم زجّوا ضحاياهم في سجون ظالمة مظلمة لا يعرف ليلها من نهارها و مارسوا عليهم أنواع التعذيب.

و ربما في الوقت الضائع من أعمارهم وهم بين الحياة و الموت يدركون بأنّ المجهولين في هذا العالم و المنسيين و البسطاء و المزارعين ممن يأكلون أبسط محاصيلهم و معها بعض التراب العالق بها، و الذين يعيشون في الأكواخ و الكهوف و الجبال، أو في الغابات، لا يعلم بهم أحد و لا يمتلكون من الدّنيا إلا قليل متاعها، هم أفضل و أحسن و خير منهم.

و كل هؤلاء الطغاة يرون جرائمهم قبل الموت في ساعة الاحتضار و لما تزهق الأرواح بعد و لم تخرج من أبدانها، فإذا ما خرجت كان ما بعدها أشدّ مما قبلها في الاحتضار ، فلا يفيد الندم و لا الحسرة، «كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَوا وَّلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ»، سورة ص: 3.

سنة في الأرض أرادها الله سبحانه و تعالى و هي أن يرث الأرض عباده الصالحون، و أن تكون المنزلة و المقام الأعلى و الذكر الجميل لعباده الصالحين، فالذكر و المنزلة عبر القرون للنبي إبراهيم (ع) و ليس للنمرود سوى اللعنات، و المنزلة و المقام للنبي موسى (ع) و لفرعونه اللعنات، و هكذا في التاريخ إلى يومنا الحاضر و ما بعده، و الذكر و العظمة و المنزلة و الشفاعة للنبي صلى الله عليه و آله و ليس لأبي سفيان مقام و لا ذكر إلا اللعنات، و الذكر و المقام و العظمة لعلي بن أبي طالب (ع) و ابنه الحسن المجتبى (ع) و ليس لمعاوية إلا اللعنات، و هكذا الحسين و مقامه و عظمته و ليزيد اللعن و اللعنات و لا قبر له و لا نصيب، و هكذا أئمة أهل البيت (ع) و عباده الصالحين و المؤمنين طوال التاريخ، و أما الطغاة و الطالحون فليس لهم إلا اللعن و الطعن، «فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا»، سورة فاطر:43.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *