محمد جواد الدمستانيمحمد جواد الدمستاني

Loading

الانتباه للشعارات و الحذر من الخدائع و المراوغات

«كلمة حق يراد بها باطل»

محمد جواد الدمستاني

في ضرورة الاتصاف بالبصيرة و الفطنة و إدراك حقائق الأمور و الحث على الانتباه و اليقظة قال أمير المؤمنين (ع) «كَلِمَةُ حَقٍّ يُرَادُ بِهَا بَاطِلٌ»[1].

و مناسبتها أنّه لما سمع (ع) قول الخوارج يقواون «لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ» قال (ع) «كَلِمَةُ حَقٍّ يُرَادُ بِهَا بَاطِلٌ».

كلمة «لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ»، كلمة حق فإنّ الحكم لله، و لكن «يُرَادُ بِهَا بَاطِلٌ» فقد أراد الخوارج منها رفض الإمرة، و رفض قبول الإمام (ع) للتحكيم الذي هم أصرّوا عليه.

فالكلمة و الشعار صحيح في نفسه و أصله و حق، و لكن يراد منه وجه آخر و هو تبرير انحرافهم و خروجهم عن الإمام عليه السلام، و هذه الكلمة بعد رجوع الجيش.

و قالها -«كَلِمَةُ حَقٍّ يُرَادُ بِهَا بَاطِلٌ»- عليه السلام قبل ذلك عند رفع المصاحف في صفين، و جعل القرآن حاكما و فاصلا لرفع الاختلاف هو حق، و لكن معاوية و أصحابه أرادوا برفع المصاحف باطلا ليوقفوا الحرب بعد ظهور هزيمتهم و ليوقعوا الخلاف في جيش الإمام (ع).

و تعني الحكمة استعمال كلام صحيح و شعار صائب في الظاهر، و لكن في الباطن و الخفاء يُقصد به أمر آخر خاطئ و مضلل، فهو أسلوب للخداع و الغش و التضليل تحت غطاء الحق و الصدق، و لهذا ينبغي الانتباه – مع حسن الظن الأولي- أنّ ليس كل كلمة تُقال و هي حق يعني أنّ القائل محق فقد يستخدم الحق لأجل الخداع و الباطل، و الانتباه إلى أنّ الكلام ليس منفصلا عن سياقه و ظروفه و شروطه بل هو في صلبه و أصله.

و هذا يتكرر في المجتمعات و عند الأمم كما يتكرر على مستوى الأفراد، فإنّ الناس أفرادا أو جماعات يرفعون شعارات حسنة و صحيحة و حق أحيانا و لكنهم يريدون بها باطلا و ضلالا أو خداعا، و كذلك يفعل سياسيون و يرفعون شعارات أو آراء حق و لكنهم يريدوا بها باطلا و خداعا للنّاس، فالكلام حق و يراد منه باطلا.

و الاستعمالات السياسية كثيرة لما تحوي السياسة من خدع و مراوغات فيتحدث السياسي عن أمر و ظاهر كلامه صحيح و حق و لكن باطنه استخدام فاسد و باطل لعمل شيء آخر أو تبريره، كما تستعمل في الأعلام بكلام منمق و مزخرف و صحيح ظاهره و لكن لا يطلب لذاته بل لأغراض مناقضة له و باطلة يُراد تمريرها على النّاس و خداعهم، كما يستخدم في جهات دينية فترفع شعار التوحيد و نبذ البدع و هي كلمة حق و لكنهم يريدون بها باطلا، و يكفرون بها جموع المسلمين.

و هذا الفكر الخارجي المغشوش يتكرر بأشكال متعددة، و عليه فإنّ على الأفراد و المجموعات و الشعوب و الأمم الانتباه للشعارات المطروحة حتى لا تنطوي عليها الحيّل و المؤامرات، و تنتبه للفتن والخدائع و الدسائس و إن كان ظاهرها حسن منمق، فعليها التيقّظ و البصيرة في أمورها كلها، و التثبت في الكلام و الشعار، و الانتباه للسياق الكامل للكلام و مناسبته و حقيقة ما يراد منه، و معرفة المتكلم و وزنه و صدقه من عدمه، و الانتباه إلى مكر الخطاب، و احتمال استخدام الحق لأغراض فاسدة، و االاستفادة من أهل الخبرة و التجربة في التشخيص في القضايا و الشعارات الكبيرة التي تطرح على مستوى الشعوب و الأمم.

و ما يجري في الكلام يجري في المعاهدات و الاتفاقيات و التفاهمات و نصوصها و بنودها فقد يدلّس الخصم الكلام بظاهر خير و حق و يريد منه شيئا آخر باطلا و فاسدا، أو يقوم بصياغة عبارات تحتمل عدة وجوه للمراوغة فيما بعد بقصد أحدها دون السياق الظاهر، و هذه محتملة بين الفرقاء بعد الخصومة و النزاع، و جرت و تجري.

و هذا الشعار «لاحكم إلا لله» رُفع في صفين و ما بعد صفين، ففي حرب صفين التي دارت رحاها بين أمير المؤمنين علي (ع) و جيش العراق ضد معاوية بن أبي سفيان و جيش الشام، في منطقة صفين، و بعد معارك شديدة بان النصر لجيش أمير المؤمنين (ع)، و ظهرت الهزيمة على جيش القاسطين الجائرين معاوية و أصحابه، فالتجئ معاوية و أصحابه إلى حيلة رفع المصاحف لإيقاف الحرب بمشورة من عمرو بن العاص، ثم طالبوا بالتحكيم، و أراد أمير المؤمنين (ع) و القائد مالك الأشتر و من معهم أن يكملوا الحرب و قد لاحت تباشير النصر، و لكن ظهرت مجموعة عضّتها الحرب أصرّت على وقف الحرب، ثم صاروا إلى التحكيم فأصرّوا على أبي موسى الأشعري ليمثلهم في التحكيم، و اختار أمير المؤمنين الأشتر فما قبلوه، ثم ابن عباس فرفضوه، و جرت عملية التحكيم فخدع عمرو بن العاص أبا موسى الأشعري، ثم بعد أن خُدع أبو موسى رفضوا التحكيم و أرادوا نقضه و العودة للحرب، و تشكلوا لاحقا باسم الخوارج.

أمير المؤمنين رفض وقف الحرب ابتداء، و رفض ممثل التحكيم أبو موسى ثانيا، لكنه يلتزم بالعهود و المواثيق و لا ينقضها، و إن كان مضطرا إلى قبولها ابتداء.

و من كلامه عليه السّلام للخوارج حين رجع إلى الكوفة و هو بظاهرها قبل دخوله إياها، قال (ع): «نَشَدْتُكُمْ بِاللَّهِ أَ تَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ حِينَ رَفَعُوا اَلْمَصَاحِفَ فَقُلْتُمْ نُجِيبُهُمْ إِلَى كِتَابِ اَللَّهِ، قُلْتُ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ بِالْقَوْمِ مِنْكُمْ إِنَّهُمْ لَيْسُوا بِأَصْحَابِ دِينٍ وَ لاَ قُرْآنٍ،..، اِمْضُوا عَلَى حَقِّكُمْ وَ صِدْقِكُمْ، إِنَّمَا رَفَعَ اَلْقَوْمُ لَكُمْ هَذِهِ اَلْمَصَاحِفَ خَدِيعَةً وَ وَهْناً وَ مَكِيدَةً فَرَدَدْتُمْ عَلَيَّ رَأْيِي وَ قُلْتُمْ لاَ بَلْ نَقْبَلُ مِنْهُمْ، فَقُلْتُ لَكُمُ اُذْكُرُوا قَوْلِي لَكُمْ وَ مَعْصِيَتَكُمْ إِيَّايَ»[2].

أما في صفين لمّا رفعت المصاحف على الرماح قال (ع): «إِنَّهُمْ وَ اَللَّهِ مَا رَفَعُوهَا أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا وَ يَعْمَلُونَ بِهَا، وَ لَكِنَّهَا اَلْخَدِيعَةُ وَ اَلْوَهْنُ وَ اَلْمَكِيدَةُ، أَعِيرُونِي سَوَاعِدَكُمْ وَ جَمَاجِمَكُمْ سَاعَةٍ وَاحِدَةً فَقَدْ بَلَغَ اَلْحَقُّ مَقْطَعَهُ وَ لَمْ يَبْقَ إِلاَّ أَنْ يَقْطَعَ دَابِرَ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا»[3].

فكان شعار الخوارج و هي المجموعة التي خرجت على أمير المؤمنين (ع) في صفين و يوم التحكيم هو «لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ» و خرجوا عن إمرة الإمام عليه السلام.

و كلمة «لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ»، كلمة حق، الحكم لله، و تشريع الأحكام من الله، و جعل الحلال و الحرام هو لله، و الآيات في القرآن تنص بالحكم لله، قال تعالى «إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ»[4]، «إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ»[5]، «إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ»[6].

و «يُرَادُ بِهَا بَاطِلٌ» ذلك أنّ الخوارج أرادوا من هذه الكلمة شيئا آخرا، وهو رفض الإمرة و لا إمارة لأحد، و رفض قبول الإمام (ع) لفكرة التحكيم التي جرت في صفين، الذين هم ابتداء طلبوها و أصّروا عليها، و حين سألهم ابن عباس: ماذا تنقمون من أمير المؤمنين فقالوا: تحكيمه الحكمين، و عليه يكون الباطل هو قبول فكرة التحكيم أيضا وهم أنفسهم أصحابها و هم الذين اختاروا الحَكَم، و فرعوا على التحكيم الذي كان بصفين أنّه كان معصية و كفراً.

و قال الإمام (ع) «نَعَمْ إِنَّهُ لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ، وَ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ لَا إِمْرَةَ إِلَّا لِلَّهِ، وَ إِنَّهُ لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ أَمِيرٍ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ»، فكأنّما الخوارج ينفون الإمرة على النّاس من الأساس، و أنه لا حاجة بهم على الإطلاق إلى أمير ما دام الحكم لله، بينما لابد من حاكم على النّاس و إلا عمّت الفوضى، و انتشر هرج و مرج و اقتتال، و ما انتظمت أمور النّاس وحياتهم.

إنّ البصيرة و اليقظة ضرورية جدا في التمييز بين الحقيقة الصادقة و الشعار الكاذب، و تعني الانتباه لعدم الانجرار وراء العاطفة أو المظاهر البراقة أو الشعارات الخادعة و الأقوال المنمقة، و التوقف و النظر فيما يقال و يرفع من شعار و توقيته و ظرفه، و عدم اتباع الزيف المغطى بالحق أو الحكمة حتى يتلافي الإنسان الوقوع في الخدعة من حيث لا يشعر.

و في الدعاء في تعقيبات صلاة الصبح و المغرب «وَ اجْعَلْ النُّورَ فِي بَصَرِي، وَ البَصِيرَةَ فِي دِينِي، وَ اليَقِينَ فِي قَلْبِي، وَالاِخْلاصَ فِي عَمَلِي، وَ السَّلامَةَ فِي نَفْسِي»[7].

  1. – نهج البلاغة، حكمة 198 ، خطبة 40

  2. – الإرشاد، الشيخ المفيد، ج1، ص 270

  3. – وقعة صفین، المنقري، ص489

  4. – سورة الأنعام، آية ٥٧

  5. – سورة يوسف، آية 40

  6. – يوسف، آية 67‏

  7. – مفاتيح الجنان، الشيخ عباس القمي، ص ٦٨

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *