خيانة الأمة و غشّ الحكام و الرؤساء
(وَ إِنَّ أَعْظَمَ الْخِيَانَةِ خِيَانَةُ الْأُمَّةِ، وَ أَفْظَعَ الْغِشِّ غِشُّ الْأَئِمَّةِ)
نهج البلاغة – كتاب 26
محمد جواد الدمستاني
«إِنَّ أَعْظَمَ الْخِيَانَةِ خِيَانَةُ الْأُمَّةِ» في أموالهم و ثرواتهم و مصالحهم و منافعهم، و إدارة و سياسة بلدِهم، و كل ما يتعلق بالأمة.
«وَأَفْظَعَ الْغِشِّ» و أشدَّ الغِشِ و أسوئَه هو «غِشَّ الْأَئِمَّةِ» و هو غِشُّ الـحُكَّام و الرؤساء و الملوك و المسؤولين، قال تعالى «فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ». سورة التوبة:12.
تحذير و تنبيه من أمير المؤمنين عليه السلام على عَظم الخيانة وعلى فظاعة الغشّ، وخاصة ممن هم في موقع المسؤولية و الحكم و من بيدهم السلطات و الثروات، و به وعيد و تنفير عن الخيانة والاستهانة بالأمانة.
و مطلق الخيانة عظيم و لكن خيانة الأمة أعظم و أكبر، و مطلق الغِش فضيع و لكن غشّ الأئمة أفضع و أشنع.
ذلك لأنّ خيانة الأمة كلية و المتضررين منها كل النّاس و ضحاياها أكثر فالخيانة أعظم، و كلما اتسعت أعداد الضحايا كبرت معها مقدار الخيانة و عظمها.
و غشّ الحكام و الرؤساء و المسؤولين أفظع و أكبر ذلك أنّه يفترض بأنّهم أولى الناس بالعدل و الإنصاف و الأمانة و الوفاء، فإذا بهم يخونون و يخدعون و يكيدون.
و الخيانات متعددة من أصغرها حتى أعظمها كخيانة و غش في زيادة الماء في اللبن لزيادته، و خيانة أصحاب السوق و الدكاكين، إلى خيانة الراشين و المرتشين، و خيانة أصحاب المراكز و الوظائف و الإداريين، و خيانة أفراد الجيش و قياداته العسكرية، حتى خيانة رؤساء و حكام البلدان لبلدهم و شعوبهم و أمتهم، و هذا ما ابتليت به الأمة بين حاكم خائن و ضحايا غافلون يركنون للظالمين في ظلمهم، و هذا أعظم الخيانة و أفظع الغش.
و الغش خيانة إذ هو إظهار صلاح غير موجود، و هو خلاف الواقع، و هو اليوم منتشر بشكل كبير ، و بطرق متعددة منها ما يُعلم و منها ما لا يُعلم، خاصة في مجال التجارة و الاقتصاد، في صغير الأسواق و كبيرها، و و عالم الإدارة و الإدارات، وفي عالم السياسة و السياسيين، و هو في الحككام أفظع.
و قد ورد هذا النص في نهج البلاغة، في الكتاب 26 من عهد لأمير المؤمنين عليه السلام إلى بعض عماله و قد بعثه على الصدقة و فيه مقدمة بتقوى الله وآخره قال عليه السلام: «…وَ مَنِ اسْتَهَانَ بِالْأَمَانَةِ، وَرَتَعَ فِي الْخِيَانَةِ، وَ لَمْ يُنَزِّهْ نَفْسَهُ وَ دِينَهُ عَنْهَا، فَقَدْ أَحَلَّ بِنَفْسِهِ الذُّلَّ وَ الْخِزْيَ فِي الدُّنْيَا، وَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ أَذَلُّ وَ أَخْزَى، وَ إِنَّ أَعْظَمَ الْخِيَانَةِ خِيَانَةُ الْأُمَّةِ وَ أَفْظَعَ الْغِشِّ غِشُّ الْأَئِمَّةِ..».
و هو تحذير من خطر الخيانة و الغشّ، و عدم الاستهانة و الاستخفاف بالخيانة، و اجتنابها أشدّ الاجتناب، و أما في حالة الاستخفاف بها و التعامل بها و ممارستها، و عدم تنزيه النفس و الدين عنها بل تلطيخ سمعة و شرف النفس بها فإنّه يؤدي إلى الخزي و العار للخائن في الدّنيا و هي العقوبات العاجلة، فإنّ النّاس تنظر للخائنين بعين الازدراء و الاحتقار و لا تأمنهم فلا تبقى لهم منزلة و لا كرامة و يسقطون اجتماعيا و ذلك له أثر كبير على النفس مهما حاول الخائن إظهار عدمه، و يترقبون هلاكهم، و أما في الآخرة فالعقوبات أشد و أكبر، و صاحبها أخزى و أذل، حيث تكشف الأمور يوم النشر و الحساب.
و في تاريخ اليعقوبي، كتب أمير المؤمنين عليه السلام إلى النعمان بن العجلان و كان قد ذهب بمال البحرين «فإنه من استهان بالأمانة و رغب في الخيانة، ولم ينزه نفسه ودينه، أخل بنفسه في الدنيا، وما يشفي عليه بعد أمر و أبقى و أشقى و أطول، فخف الله!..». تاريخ اليعقوبي،ج2ص٢٠١.
وفي كتاب آخر في الغارات و البحار كتبه أمير المؤمنين عليه السلام إلى مصقلة بن هُبَيْرة الشيباني، وجاء في أول الكتاب: «فَإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ اَلْخِيَانَةِ خِيَانَةَ اَلْأُمَّةِ وَ أَعْظَمُ اَلْغِشِّ عَلَى أَهْلِ اَلْمِصْرِ غِشُّ اَلْإِمَامِ». الغارات،ج1ص364، البحار،ج33ص405.
و مصقلة هذا له قصة ذُكرت في كتب التاريخ، و ذكر مختصرها الشريف الرضي في نهج البلاغة فقد اشترى سبي بني ناجية من عامل أمير المؤمنين عليه السلام و أعتقهم، فلما طالبه بالمال خاس به و هرب إلى الشام فقال فيه أمير المؤمنين عليه السلام «قَبَّحَ اللَّهُ مَصْقَلَةَ فَعَلَ فِعْلَ السَّادَةِ وَ فَرَّ فِرَارَ الْعَبِيدِ». نهج البلاغة، باب الخطب،44.
و هذا أحدهم فقد كان عدد من النّاس قد هرب من عدل علي إلى ظلم معاوية، و قد ذكر الشيخ الريشهري (رحمه الله) في موسوعة الإمام علي بن أبي طالب ( ع ) في الكتاب والسنة والتاريخ، ج ٧ص ٣٧، من هرب من أصحاب الإمام إلى معاوية. و منهم :
الشاعر مقيس بن عمرو بن مالك المشهور بالنجاشي، كان مع الإمام فلما أقام عليه الحدّ لإفطاره في شهر رمضان اعتزل و التجأ إلى معاوية.
و القعقاع بن شور نهب بيت المال و هرب إلى معاوية.
و النعمان بن العجلان قد ذهب بمال البحرين و فر إلى معاوية.
و يزيد بن حجيّة طالبه الإمام بالنقص الحاصل في بيت المال ثم سجنه و فرّ من السجن إلى معاوية.
و حنظلة الكاتب، و عبد الله بن عبد الرحمن بن مسعود، مولى للإمام.
و هذه الخيانات لها قابلية التكرار من ضعاف النفوس القليلين كذلك في الحاضر و المستقبل، فيقوم أصحابها بالذهاب إلى دول معادية لآل محمد (ص) و شيعتهم طلبا في المال و الثروة و يركنون إلى الظالمين، فيقوم الظالمون باستغلالهم و تشغيلهم ضد شيعة آل محمد، بالتزييف و الخداع و الإعلام الكاذب، و قد قال الإمام الحسن العسكري عليه السلام من قبل «الفَقْرُ مَعَنَا خَيْرٌ مِنَ اَلْغِنَى مَعَ غَيْرِنَا، وَ اَلْقَتْلُ مَعَنَا خَيْرٌ مِنَ اَلْحَيَاةِ مَعَ عَدُوِّنَا».الخرائج والجرائح،ج2ص739،كشف الغمة،ج2ص421، بحار الأنوار،ج50 ص299
و في البحار في فضل الموالي و المحب نظيف القلب على الملائكة روى: اَلاِحْتِجَاجُ، وَ تَفْسِيرُ اَلْإِمَامِ، قَالَ: سَأَلَ اَلْمُنَافِقُونَ اَلنَّبِيَّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اَللَّهِ أَخْبِرْنَا عَنْ عَلِيٍّ هُوَ أَفْضَلُ أَمْ مَلاَئِكَةُ اَللَّهِ اَلْمُقَرَّبُونَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ هَلْ شُرِّفَتِ اَلْمَلاَئِكَةُ إِلاَّ بِحُبِّهَا لِمُحَمَّدٍ وَ عَلِيٍّ وَ قَبُولِهَا لِوَلاَيَتِهِمَا، إِنَّهُ لاَ أَحَدَ مِنْ مُحِبِّي عَلِيٍّ نَظَّفَ قَلْبَهُ مِنْ قَذَرِ اَلْغِشِّ وَ اَلدَّغَلِ وَ اَلْغِلِّ وَ نَجَاسَةِ اَلذُّنُوبِ إِلاَّ كَانَ أَطْهَرَ وَ أَفْضَلَ مِنَ اَلْمَلاَئِكَةِ. بحار الأنوار،ج1ص304.
و في قبح الخيانة روي عن أمير المؤمنين عليه السلام في غرر الحكم «أَقْبَحُ الْأَخْلَاقِ الْخِيَانَةُ»، غرر الحكم،ص ١٨٨، و «الْخِيَانَةُ رَأْسُ النِّفَاقِ»، غرر الحكم،ص٥٣، و «الْخِيَانَةُ غَدْرٌ»، غرر الحكم،ص٢٢.
و في الْغِشّ: روي عنه عليه السلام: «شَرُّ النَّاسِ مَنْ يَغُشُّ النَّاسَ». غرر الحكم،ص٤٠٨، و «الْغِشُّ يَكْسِبُ الْمَسَبَّةَ». غرر الحكم، ص٤٠.
و في كتاب يبيّن فيه الإمام وضع و حال أولئك الفارين كتبه عليه السلام إلى سهل بن حنيف الأنصاري و هو عامله على المدينة في معنى قوم من أهلها لحقوا بمعاوية:
«أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ رِجَالًا مِمَّنْ قِبَلَكَ يَتَسَلَّلُونَ إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَلَا تَأْسَفْ عَلَى مَا يَفُوتُكَ مِنْ عَدَدِهِمْ وَ يَذْهَبُ عَنْكَ مِنْ مَدَدِهِمْ، فَكَفَى لَهُمْ غَيّاً وَ لَكَ مِنْهُمْ شَافِياً فِرَارُهُمْ مِنَ الْهُدَى وَ الْحَقِّ وَ إِيضَاعُهُمْ إِلَى الْعَمَى وَ الْجَهْلِ، فَإِنَّمَا هُمْ أَهْلُ دُنْيَا مُقْبِلُونَ عَلَيْهَا وَ مُهْطِعُونَ إِلَيْهَا، وَ قَدْ عَرَفُوا الْعَدْلَ وَ رَأَوْهُ وَ سَمِعُوهُ وَ وَعَوْهُ، وَ عَلِمُوا أَنَّ النَّاسَ عِنْدَنَا فِي الْحَقِّ أُسْوَةٌ فَهَرَبُوا إِلَى الْأَثَرَةِ، فَبُعْداً لَهُمْ وَ سُحْقاً إِنَّهُمْ وَ اللَّهِ لَمْ يَنْفِرُوا مِنْ جَوْرٍ وَ لَمْ يَلْحَقُوا بِعَدْلٍ، وَ إِنَّا لَنَطْمَعُ فِي هَذَا الْأَمْرِ أَنْ يُذَلِّلَ اللَّهُ لَنَا صَعْبَهُ وَ يُسَهِّلَ لَنَا حَزْنَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَ السَّلَامُ». نهج البلاغة، كتاب 70.
و كان عليه السلام دعا على ابن حجيّة – الذي أخذ المال و هرب إلى معاوية- في المسجد و القوم يؤمنون عليه، قال عليه السلام:
« اللَّهُمَّ إِنَّ يَزِيدَ بْنَ حُجَيَّةَ هَرَبَ بِمَالِ اَلْمُسْلِمِينَ، وَ لَحِقَ بِالْقَوْمِ اَلْفَاسِقِينَ، فَاكْفِنَا مَكْرَهُ وَ كَيْدَهُ، وَ اِجْزِهِ جَزَاءَ اَلظَّالِمِينَ ». الغارات،ج2ص528، بحار الأنوار،ج34ص290 .