واللَّهِ لَقَدْ رَقَّعْتُ مِدْرَعَتِي هَذِهِ حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَاقِعِهَا
في الزّهد و الاقتداء بأمير المؤمنين عليه السلام
نهج البلاغة – من الخطبة 160
محمد جواد الدمستاني
الزّهد ثروة عظيمة لأصحابها، و ليس هو من المسائل الهامشية أو الترفية و التراثية القديمة كما قد يتوهم البعض، بل الزهد موضوع متجدد و له آثار مهمة في حياة الإنسان، و الزّهد يعني عدم التشبث في ملذّات الحياة و الإعراض عنها، و بما فيها من الزُهد في المناصب و الأموال، و عدم الجشع و الطمع، و الإقبال على العبادة و تأثيرها في النهي عن الفحشاء والمنكر، و في حصول التقوى فهو من الأمور الحياتية التي تؤثر على الأفراد و المجتمعات و يحتاج إلى الجدّ فيه و الاجتهاد.
و المجتمعات مبتلية بخلاف ذلك من التمسك و التشبث بأعراض الدّنيا و جشعها مع تهتك و فسق في كثير من مواقعها، و إذا أردت مثالا فعيّنة الحكام المثال الأكبر، و لا يُطلب من غالبية هؤلاء الزّهد في الدّنيا فهو خارج من منطقة اهتمامهم، و لكن يُطلب منهم الإنصاف و العدل.
و في غرر الحكم من كلمات أمير المؤمنين «الزّهد ثروة»،ص23، و «الزهد أصل الدين»،ص35، و «الزّهد ثمرة الدين»،ص32، و «الزّهد أساس اليقين»،ص36.
و في الخطبة الثانية و الستين في نهج البلاغة تحدث أمير المؤمنين عليه السلام عن زهد النبي صلى الله عليه و آله و الأنبياء موسى و داود و عيسى عليهم السلام، داعيا بالاقتداء و التأسي بالنبي (ص) و الأنبياء (ع)، ونهاية الخطبة ذكر عليه السلام هذا المقطع «واللَّهِ لَقَدْ رَقَّعْتُ مِدْرَعَتِي هَذِهِ حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَاقِعِهَا، ولَقَدْ قَالَ لِي قَائِلٌ: أَلا تَنْبِذُهَا عَنْكَ؟! فَقُلْتُ: اغْرُبْ عَنِّي فَعِنْدَ الصَّبَاحِ يَحْمَدُ الْقَوْمُ السُّرَى».
و الكلام حول الزّهد و ترك ما في الدنيا، والإعراض عنها و مدى زهد أمير المؤمنين عليه السلام، و اقتداءِه برسول الله صلى الله عليه و آله فيه، و ذكر بعض أحوالهِ في التأسي و هي تكرار ترقيع مدرعته.
قال عليه السلام: «واللَّهِ لَقَدْ رَقَّعْتُ مِدْرَعَتِي هَذِهِ» و المدرعة ثوب من الصوف، «حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَاقِعِهَا» يستحي من المرقع أو الراقع لكثرة و تكرار ترقيعها، «ولَقَدْ قَالَ لِي قَائِلٌ» من النّاس الراقع أو غيره، «أَلا تَنْبِذُهَا عَنْكَ» أي ألا تتركها و تستبدل بها آخرا جديدا، «فَقُلْتُ: اغْرُبْ عَنِّي» أي ابتعد عني، «فَعِنْدَ الصَّبَاحِ يَحْمَدُ الْقَوْمُ السُّرَى»، السّرى هو السّير ليلا، و هو مثل يقال حين تتحمل الصعوبة والمشقة الحالية رجاء الراحة الآجلة، فإذا القافلة سارت ليلا مع تعب و مشقة السير و السفر ليلا ثم وصلوا إلى مقصد السفر و نهايته فإنّ السائرون يحمدون سيرهم ليلا، و هنا أمير المؤمنين عليه السلام يزهد في الدنيا و يتحمّل الصعاب و المشقة مثل لبس هذه المدرعة و ترقيعها رجاء ثواب الله و فضله.
و قد ذكر التاريخ كثيرا من الشواهد و القصص عن زهد أمير المؤمنين عليه السلام، و ذُكرت روايات كثيرة في هذا المقام، و منها :
قال الراوي: «دَخَلْتُ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ بِالْخَوَرْنَقِ وَ هُوَ يَرْعُدُ تَحْتَ سَمَلِ قَطِيفَةٍ، فَقُلْتُ يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ إِنَّ اَللَّهَ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ لَكَ وَ لِأَهْلِ بَيْتِكَ فِي هَذَا اَلْمَالِ مَا يَعُمُّ وَ أَنْتَ تَصْنَعُ بِنَفْسِكَ مَا تَصْنَعُ؟ فَقَالَ وَ اَللَّهِ مَا أَرْزَأُكُمْ مِنْ أَمْوَالِكُمْ شَيْئاً وَ إِنَّ هَذِهِ لَقَطِيفَتِيَ اَلَّتِي خَرَجْتُ بِهَا مِنْ مَنْزِلِي [مَنْزِلِنَا] مِنَ اَلْمَدِينَةِ مَا عِنْدِي غَيْرُهَا». كشف الغمة،ج1ص173
و في نّهج البلاغة: وَ رُئِيَ عَلَيْهِ إِزَارٌ خَلَقٌ مَرْقُوعٌ فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ : «يَخْشَعُ لَهُ الْقَلْبُ، وَ تَذِلُّ بِهِ النَّفْسُ، وَ يَقْتَدِي بِهِ الْمُؤْمِنُونَ»، نهج البلاغة، حكمة 103، و الخَلَقُ : البالِي من الثِّياب.
وفي نهج البلاغة أيضا «..فَوَاللَّهِ مَا كَنَزْتُ مِنْ دُنْيَاكُمْ تِبْراً، وَ لَا ادَّخَرْتُ مِنْ غَنَائِمِهَا وَفْراً، وَ لَا أَعْدَدْتُ لِبَالِي ثَوْبِي طِمْراً، وَ لَا حُزْتُ مِنْ أَرْضِهَا شِبْراً». نهج البلاغة، كتاب 45
و يُروى عنه عليه السلام: «يَا دُنْيَا يَا دُنْيَا إِلَيْكِ عَنِّي، أَ بِي تَعَرَّضْتِ، أَمْ إِلَيَّ تَشَوَّقْتِ، لَا حَانَ حِينُكِ، هَيْهَاتَ غُرِّي غَيْرِي لَا حَاجَةَ لِي فِيكِ قَدْ طَلَّقْتُكِ ثَلَاثاً لَا رَجْعَةَ فِيهَا، فَعَيْشُكِ قَصِيرٌ، وَ خَطَرُكِ يَسِيرٌ، وَ أَمَلُكِ حَقِيرٌ، آهِ مِنْ قِلَّةِ الزَّادِ وَ طُولِ الطَّرِيقِ وَ بُعْدِ السَّفَرِ وَ عَظِيمِ الْمَوْرِدِ». نهج البلاغة، حكمة 77
و قال عليه السلام « أَأَقْنَعُ مِنْ نَفْسِي بِأَنْ يُقَالَ : هَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ، ولَا أُشَارِكُهُمْ فِي مَكَارِهِ الدَّهْرِ ، أَوْ أَكُونَ أُسْوَةً لَهُمْ فِي جُشُوبَةِ الْعَيْشِ». نهج البلاغة، كتاب 45.
و ذكر في المناقب(ج2ص98) قوله عليه السلام:
عَلّل النفسَ بالقنوع و إلاّ طلبَت منكَ فوقَ ما يَكفيها
هذا شيء من زهد أمير المؤمنين عليه السلام فعلى مواليه و محبيه و شيعته الاقتداء به و بزهده و تقواه و خاصة لمن هم في مواقع المسؤولية و السعي نحو الورع و الاجتهاد، فقد قال عليه السلام « أَلَا وَ إِنَّ إِمَامَكُمْ قَدِ اكْتَفَى مِنْ دُنْيَاهُ بِطِمْرَيْهِ وَ مِنْ طُعْمِهِ بِقُرْصَيْهِ أَلَا وَ إِنَّكُمْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ وَ لَكِنْ أَعِينُونِي بِوَرَعٍ وَ اجْتِهَادٍ وَ عِفَّةٍ وَ سَدَادٍ». نهج البلاغة، كتاب 45.
و قال عليه السلام « وَ إِنَّمَا هِيَ نَفْسِي أَرُوضُهَا بِالتَّقْوَى لِتَأْتِيَ آمِنَةً يَوْمَ الْخَوْفِ الْأَكْبَرِ وَ تَثْبُتَ عَلَى جَوَانِبِ الْمَزْلَقِ وَ لَوْ شِئْتُ لَاهْتَدَيْتُ الطَّرِيقَ إِلَى مُصَفَّى هَذَا الْعَسَلِ وَ لُبَابِ هَذَا الْقَمْحِ وَ نَسَائِجِ هَذَا الْقَزِّ وَ لَكِنْ هَيْهَاتَ أَنْ يَغْلِبَنِي هَوَايَ وَ يَقُودَنِي جَشَعِي إِلَى تَخَيُّرِ الْأَطْعِمَةِ وَ لَعَلَّ بِالْحِجَازِ أَوْ الْيَمَامَةِ مَنْ لَا طَمَعَ لَهُ فِي الْقُرْصِ وَ لَا عَهْدَ لَهُ بِالشِّبَعِ». نهج البلاغة، كتاب 45.
هذا المقطع و ما قبله من الكتاب الخامس و الأربعين في نهج البلاغة و الذي كتبه أمير المؤمنين عليه السلام إلى عامله على البصرة عثمان بن حنيف الأنصاري وهو من أصحاب رسول الله (ص) و كان قد بلغه أنه دُعي إلى وليمة قوم من أهلها، و هو من النصوص المهمة في معرفة زهد أمير المؤمنين عليه السلام، و كذا في مراقبة ولاته.
و في وصيته عليه السلام قبل شهادته عليه السلام «وَ أَلَّا تَبْغِيَا الدُّنْيَا وَ إِنْ بَغَتْكُمَا، وَ لَا تَأْسَفَا عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا زُوِيَ عَنْكُمَا». البلاغة، الوصية 47.
وقد لخّص الزّهد في القرآن فقال عليه السلام «الزُّهْدُ كُلُّهُ بَيْنَ كَلِمَتَيْنِ مِنَ الْقُرْآنِ، قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ)، وَ مَنْ لَمْ يَأْسَ عَلَى الْمَاضِي وَ لَمْ يَفْرَحْ بِالْآتِي فَقَدْ أَخَذَ الزُّهْدَ بِطَرَفَيْهِ». نهج البلاغة- حكمة 439.
و روي عن الإمام الباقر عليه السلام «وَ لَقَدْ وَلِيَ خَمْسَ سِنِينَ، وَ مَا وَضَعَ آجُرَّةً عَلَى آجُرَّةٍ، وَ لاَ لَبِنَةً عَلَى لَبِنَةٍ، وَ لاَ أَقْطَعَ قَطِيعاً، وَ لاَ أَوْرَثَ بَيْضاً وَ لاَ حُمْراً». المناقب،ج2ص95 .