قاتلنا في بدر و صفين و كربلاء
(لَقَدْ شَهِدَنَا فِي عَسْكَرِنَا هَذَا أَقْوَامٌ فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ وَ أَرْحَامِ النِّسَاءِ)
نهج البلاغة ، باب الخطب، رقم 12
محمد جواد الدمستاني
أورد الشريف الرضي في نهج البلاغة في باب الخطب كلاما لأمير المؤمنين عليه السلام بعد انتهاء حرب الجمل، قال و من كلام له عليه السلام لما أظفره الله بأصحاب الجمل :
«وَ قَدْ قَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ وَدِدْتُ أَنَّ أَخِي فُلَاناً كَانَ شَاهِدَنَا لِيَرَى مَا نَصَرَكَ اللَّهُ بِهِ عَلَى أَعْدَائِكَ، فَقَالَ لَهُ (عليه السلام) أَ هَوَى أَخِيكَ مَعَنَا؟ فَقَالَ نَعَمْ، قَالَ فَقَدْ شَهِدَنَا، وَ لَقَدْ شَهِدَنَا فِي عَسْكَرِنَا هَذَا أَقْوَامٌ فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ وَ أَرْحَامِ النِّسَاءِ، سَيَرْعَفُ بِهِمُ الزَّمَانُ وَ يَقْوَى بِهِمُ الْإِيمَانُ». نهج البلاغة-باب الخطب-12.
و قوله عليه السلام: «أَ هَوَى أَخِيكَ مَعَنَا؟»، أي هل رغبة و ميل أخيك معنا؟ «فَقَالَ نَعَمْ»، «قَالَ فَقَدْ شَهِدَنَا» شهدنا بمعنى حضر معنا المعركة، حضور بالقوة، و حضر بمعنى قاتل، و يُقال شهد بدرا أي حضر للقتال لا للتفرج، فشهدنا بمعنى قاتل معنا، و لكنه حقيقة لم يقاتل جسديا و فيزيائيا فالمعنى مادامت نيته القتال معنا فقد كُتب له أجر و ثواب القتال معنا، لأنه كان يرغب أن يشاركنا القتال بصدق و إخلاص، و في الرواية عن النبي صلى الله عليه و آله «وَ مَنْ أَحَبَّ عَمَلَ قَوْمٍ أُشْرِكَ فِي عَمَلِهِمْ». بحار الأنوار،ج65ص130.
ثم يخبر عليه السلام و يؤكد « وَ لَقَدْ شَهِدَنَا فِي عَسْكَرِنَا هَذَا أَقْوَامٌ فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ وَ أَرْحَامِ النِّسَاءِ »، أي أنّه ليس فقط أخوك الذي عاصرنا و مات أو لم يستطع الحضور مع رغبته و قلبه معنا قد شهدنا و له أجر و ثواب القتال معنا، بل شهدنا و حضر معنا و له أجر و ثواب الجهاد و المعارك معنا أقوام في عالم الأصلاب و الأرحام، و هؤلاء الذين هم في عوالم قادمة «سَيَرْعَفُ بِهِمُ الزَّمَانُ»، يخرجهم الزمان و يأتي بهم بصورة مفاجئة كما هو دم الرعاف الخارج من الأنف بصورة سريعة و مفاجئة، و «وَ يَقْوَى بِهِمُ الْإِيمَانُ»، و يقوى الإيمان بهؤلاء الموالين و المحبين و الشيعة الذين يرغبون و يرجون القتال معنا.
و قريب من هذا جرى في معركة النهروان التي كانت مع الخوارج، قول أمير المؤمنين عليه السلام: «لَقَدْ شَهِدَنَا فِي هَذَا الْمَوْقِفِ أُنَاسٌ لَمْ يَخْلُقِ اللَّهُ آبَاءَهُمْ وَ لَا أَجْدَادَهُمْ بَعْدُ».
و الرواية في المحاسن و البحار، قَالَ: «لَمَّا قَتَلَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ اَلْخَوَارِجَ يَوْمَ اَلنَّهْرَوَانِ قَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ طُوبَى لَنَا إِذْ شَهِدْنَا مَعَكَ هَذَا اَلْمَوْقِفَ وَ قَتَلْنَا مَعَكَ هَؤُلاَءِ اَلْخَوَارِجَ، فَقَالَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ وَ اَلَّذِي فَلَقَ اَلْحَبَّةَ وَ بَرَأَ اَلنَّسَمَةَ لَقَدْ شَهِدَنَا فِي هَذَا اَلْمَوْقِفِ أُنَاسٌ لَمْ يَخْلُقِ اَللَّهُ آبَاءَهُمْ وَ لاَ أَجْدَادَهُمْ بَعْدُ، فَقَالَ اَلرَّجُلُ وَ كَيْفَ شَهِدَنَا قَوْمٌ لَمْ يُخْلَقُوا؟ قَالَ بَلَى قَوْمٌ يَكُونُونَ فِي آخِرِ اَلزَّمَانِ يَشْرَكُونَنَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، وَ هُمْ يُسَلِّمُونَ لَنَا، فَأُولَئِكَ شُرَكَاؤُنَا فِيمَا كُنَّا فِيهِ حَقّاً حَقّاً». المحاسن،ج1ص361.
فالذين يشتركون معهم عليهم السلام في مبادئهم، و قيّمهم، يرغبون في نصرتهم و نصرهم، و يرجون القتال و الشهادة معهم، و يسيرون على نهجهم، و يتحملون مشقات و تبعات و تكاليف ذلك المنهج، و لو كانوا في عصرهم لشاركوا و شهدوا الحروب معهم، أولئك معهم و لهم الأجر والثواب أيضا، و هذا المعنى في رواية جابر الأنصاري في زيارة الإمام الحسين عليه السلام يوم الأربعين حين رجوع السبايا، روى عن رسول الله صلى الله عليه و آله «مَنْ أَحَبَّ قَوْماً حُشِرَ مَعَهُمْ، وَ مَنْ أَحَبَّ عَمَلَ قَوْمٍ أُشْرِكَ فِي عَمَلِهِمْ». بحار الأنوار،ج65ص130.
و من هذا قول الخطباء في بداية المجالس الحسينية «يَا لَيْتَنا كُنا مَعَكُمْ فَنَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً».
و هو متكرر في زيارة الحسين عليه السلام، ومنها ما روي في كامل الزيارات في خاتمة زيارة الإمام الحسين عليه السلام: «أَدِينُ اَللَّهَ بِالْبَرَاءَةِ مِمَّنْ قَاتَلَكَ، وَ مِمَّنْ قَتَلَكَ، وَ شَايَعَ عَلَيْكَ، وَ مِمَّنْ جَمَعَ عَلَيْكَ، وَ مِمَّنْ سَمِعَ صَوْتَكَ وَ لَمْ يُجِبْكَ [وَ لَمْ يُعِنْكَ] يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَكُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً». كامل الزيارات،ج1ص212، البراءة من قتلة الحسين، و الولاء للحسين و إظهار الرغبة في الشهادة معه عليه السلام.
و في حديث الإمام الرضا عليه السلام «يَا اِبْنَ شَبِيبٍ إِنْ سَرَّكَ أَنْ يَكُونَ لَكَ مِنَ اَلثَّوَابِ مِثْلَ مَا لِمَنِ اُسْتُشْهِدَ مَعَ اَلْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فَقُلْ مَتَى ذَكَرْتَهُ يٰا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً». عيون الأخبار،ج1ص299
فالله سبحانه و تعالى يكتب الأجر و الثواب مع النية الصادقة، فعن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قَالَ: «إِنَّ اَلْعَبْدَ اَلْمُؤْمِنَ اَلْفَقِيرَ لَيَقُولُ يَا رَبِّ اُرْزُقْنِي حَتَّى أَفْعَلَ كَذَا وَ كَذَا مِنَ اَلْبِرِّ وَ وُجُوهِ اَلْخَيْرِ فَإِذَا عَلِمَ اَللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ ذَلِكَ مِنْهُ بِصِدْقِ نِيَّةٍ كَتَبَ اَللَّهُ لَهُ مِنَ اَلْأَجْرِ مِثْلَ مَا يَكْتُبُ لَهُ لَوْ عَمِلَهُ إِنَّ اَللَّهَ وَاسِعٌ كَرِيمٌ». الکافي،ج2ص85، المحاسن،ج1ص261.
هذا النص في نهج البلاغة كان بعد حرب الجمل، و روى التاريخ أحداثا بعد انتهاء المعركة من بينها استعراض القتلى و كلامه عليه السلام حينها، و من بينه كلامه في بيت المال ، و ذكر ابن أبي الحديد في تقسيم بيت المال عن حبه العرني:
قسم علي عليه السلام بيت مال البصرة على أصحابه خمسمائة خمسمائة، و أخذ خمسمائة درهم كواحد منهم، فجاءه إنسان لم يحضر الوقعة، فقال: يا أمير المؤمنين ، كنت شاهدا معك بقلبي، وإن غاب عنك جسمي، فاعطني من الفئ شيئا. فدفع إليه الذي أخذه لنفسه و هو خمسمائة درهم، و لم يصب من الفئ شيئا. شرح نهج البلاغة،ج1ص250.
فالرواية أنّ الإمام عليه السلام أعطى الرجل سهمه المادي من الفيء الذي هو سهم المقاتلين دون الاشتراك في المعركة أو مع الاشتراك القلبي له في المعركة بناء على نيته القلبية.
ومن هذا قول أمير المؤمنين عليه السلام في حرب الجمل: «فَوَ اللَّهِ لَوْ لَمْ يُصِيبُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا رَجُلًا وَاحِداً مُعْتَمِدِينَ لِقَتْلِهِ بِلَا جُرْمٍ جَرَّهُ لَحَلَّ لِي قَتْلُ ذَلِكَ الْجَيْشِ كُلِّهِ إِذْ حَضَرُوهُ فَلَمْ يُنْكِرُوا وَ لَمْ يَدْفَعُوا عَنْهُ بِلِسَانٍ وَ لَا بِيَدٍ دَعْ مَا أَنَّهُمْ قَدْ قَتَلُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِثْلَ الْعِدَّةِ الَّتِي دَخَلُوا بِهَا عَلَيْهِمْ». نهج البلاغة، خطبة 172. فبسبب عدم إنكارهم القتل و رضاهم به يستحقون القتال.
ومنه قول أمير المؤمنين عليه السلام «الرَّاضِي بِفِعْلِ قَوْمٍ كَالدَّاخِلِ فِيهِ مَعَهُمْ وَ عَلَى كُلِّ دَاخِلٍ فِي بَاطِلٍ إِثْمَانِ إِثْمُ الْعَمَلِ بِهِ وَ إِثْمُ الرِّضَى بِهِ ». نهج البلاغة، حكمة 154، فإنّ الرضا و السخط من أفعال القلب و لكن لهم آثارهما و نية الخير تدخل في الأخيار، و نية الشر تدخل في الأشرار.
و في هذا عدد من الروايات في وجوب إنكار المنكر و التبرئ منه و الرضا بالمعروف، و في الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام قَالَ «لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ لَمْ يُحِبُّوا أَنْ يَكُونُوا شَهِدُوا مَعَ رَسُولِ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ لَكَانُوا مِنْ أَهْلِ اَلنَّارِ». المحاسن،ج1ص262.
و عن الإمام الباقر عليه السلام: «فَأَنْكِرُوا بِقُلُوبِكُمْ وَ اِلْفِظُوا بِأَلْسِنَتِكُمْ، وَ صُكُّوا بِهَا جِبَاهَهُمْ، وَ لاَ تَخَافُوا فِي اَللَّهِ لَوْمَةَ لاَئِمٍ». تهذيب الأحكام،ج6ص180
الصدق في قول «يا ليتنا كنا معكم» يعني أنّه لو كنا معاصرين لكم لأشتركنا معكم و قاتلنا معكم ضد أعدائكم، فمع صدقنا و إخلاصنا و نيتنا الصادقة بقول «يا ليتنا كنا معكم» و إن كنا في عصور متأخرة عنهم عليهم السلام، فقد شهدنا القتال معهم و حصلنا على الثواب، قاتلنا في بدر و صفين و كربلاء.