القناعة مال لا ينفد
نهج البلاغة
محمد جواد الدمستاني
الْقَنَاعَةُ مَالٌ لَا يَنْفَدُ – يُروى عن النبي صلّى الله عليه و آله و عن أمير المؤمنين عليه السلام، و تكررت هذه الكلمة في نهج البلاغة في الحكمة 57، و الحكمة 349، و كذلك في الحكمة 475.
و القَناعة يعني القَبول و الرّضا، القبول بما عند الإنسان، و الرضا باليسير من حلال الدّنيا، و الاقتصار على قدر الحاجة، هذه القناعة مال لا ينفد أي لا يفنى.
و يقابل القناعة الحرص و هو طلب الدّنيا و الاستكثار منها دون اكتفاء.
و استعار عليه السلام لفظ المال للقناعة باعتبار أنّ القناعة و رضا الإنسان بما عنده تغني عن الحاجة إلى الناس كما أنّ المال يغني عن الحاجة إلى الناس، و كلما احتاج الغني أنفق من ماله، و كلَّما اشتد على القنوع أمر قنع بما هو أقل منه، و كأنّ الانفاق من القناعة لا ينفد و لا ينقطع.
و في تفسيرها روي عن الإمام الصادق عليه السلام عن جده رسول الله صلى الله عليه و آله، قال: «قُلْتُ (يا جبرئيلَ) فَمَا تَفْسِيرُ اَلْقَنَاعَةِ، قَالَ يَقْنَعُ بِمَا يُصِيبُ مِنَ اَلدُّنْيَا، يَقْنَعُ بِالْقَلِيلِ وَ يَشْكُرُ اَلْيَسِيرَ». بحار الأنوار،74ص20.
و القانع أغنى النّاس، و في الرواية عنهم عن جدهم رسول الله صلّى الله عليه و آله «وَ مَنْ قَنِعَ بِمَا رَزَقَهُ اَللَّهُ فَهُوَ أَغْنَى اَلنَّاسِ». بحار الأنوار،ج74ص46، فحاجات الناس كثيرة، و الغنى هو عدم الحاجة، و أغنى الناس أقلَّهم حاجة و هو القانع، و النّاس جميعا فقراء و الله سبحانه هو الغنيّ «يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ».سورة فاطر:15
و الغنى الحقيقي غنى النفس و الحالة النفسية بالقناعة و «القانِعُ غَنيٌّ وإنْ جاعَ وعَري»، غرر الحكم،ص75، فإن لم يكن الإنسان قانعا قد تُصب عليه أموال الدّنيا كلها فلا تطمئنه بغناه و يعيش الاضطراب و القلق و يبحث عن مزيد من الموارد لغناه، و قد يقارن نفسه بمن هو أغنى منه لا بمن هو أفقر، فالغنى في القناعة، و في بحار الأنوار: أوحَى اللَّهُ تعالى إلى داوود عليه السلام «وَضَعْتُ اَلْغِنَى فِي اَلْقَنَاعَةِ وَ هُمْ يَطْلُبُونَهُ فِي كَثْرَةِ اَلْمَالِ فَلاَ يَجِدُونَهُ». بحار الأنوار،ج75ص453.
فالإنسان بحاجة إلى وقفة مع النفس و مراجعة دورية و ألا يترك هواه يتلاعب به دون تحكم منه و سيطرة، فإذا ما فقد الهيمنة على النفس و هواها فإنّه لن يشبع مهما ملك و ادّخر، و عن الإمام الصّادق عليه السلام: «إِنَّ فِيمَا نَزَلَ بِهِ اَلْوَحْيُ مِنَ اَلسَّمَاءِ لَوْ أَنَّ لاِبْنِ آدَمَ وَادِيَيْنِ يَسِيلاَنِ ذَهَباً وَ فِضَّةً لاَبْتَغَى إِلَيْهِمَا ثَالِثاً، يَا اِبْنَ آدَمَ إِنَّمَا بَطْنُكَ بَحْرٌ مِنَ اَلْبُحُورِ وَ وَادٍ مِنَ اَلْأَوْدِيَةِ لاَ يَمْلَأُهُ شَيْءٌ إِلاَّ اَلتُّرَابُ». من لا یحضره الفقیه،ج4ص418.
فإذا ملك الإنسان القناعة أثّر ذلك على نفسه و سلوكه و ظهرت آثارها على شخصه، و العكس بالعكس فالحرص تظهر آثاره، و نتيجة و ثمرة القناعة العزة في النفس و صلاحها و الكرامة و الإباء، بينما نتيجة و ثمرة الحرص هو الجشع و التَذلّل و الهوان، و يذكرون في شروح النهج مثال سقراط حيث رأى رجلٌ من حاشية السلطان سقراطَ يأكل العشب، فقال له: لو خدمت الملك لم تحتج إلى أن تأكل الحشيش، فقال له سقراط: و أنت لو قنعت بهذا (أكل الحشيش) لم تحتج إلى خدمة السلطان.
و هذا يفسر حالتي العارف و الجاهل، و القانع و الحارص، فإنّ أكل الأعشاب أفضل من خدمة السلطان، و إن كان جائرا شاركه في جوره و ظلمه.
و عن أمير المؤمنين عليه السلام «اِبْنَ آدَمَ إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ مِنَ اَلدُّنْيَا مَا يَكْفِيكَ فَإِنَّ أَيْسَرَ مَا فِيهَا يَكْفِيكَ، وَ إِنْ كُنْتَ إِنَّمَا تُرِيدُ مَا لاَ يَكْفِيكَ فَإِنَّ كُلَّ مَا فِيهَا لاَ يَكْفِيكَ»، الکافي،ج2ص138
و في الروايات ذكر ما يورث القناعة مثل ترك الحِرص، «لَنْ تُوجَدَ اَلْقَنَاعَةُ حَتَّى يَفْقُدَ اَلْحِرْصُ»، غرر الحکم،ص553، «ضَادُّوا اَلْحِرْصَ بِالْقُنُوعِ»،غرر الحکم،ص820، و العِفَّةِ «على قَدرِ العِفَّةِ تكونُ القَناعَةُ»، غرر الحکم،45ص451، و التعقل «مَن عَقلَ قَنِعَ»، غرر الحکم،ص577، و النظر لما هو دون الإنسان مقدرة كما في الرواية عن الإمام الصّادق عليه السلام «اُنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ دُونَكَ فِي اَلْمَقْدُرَةِ، وَ لاَ تَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكَ فِي اَلْمَقْدُرَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَقْنَعُ لَكَ بِمَا قُسِمَ لَكَ». بحار الأنوار،ج66ص400، و هذه أحد المشاكل الاجتماعية العامة و هي النظر إلى الآخرين ممن هم أغنى منه، و المقارنة السلبية مع وضعه في غناه و بيته و عقاره أو في وظيفته و منصبه، و في عموم الممتلكات و النعم، و تنعكس آثار هذه المقارنة و النظر على وضعه و نفسه، و «مَن قَنِعَ لم يَغتَمَّ»، غرر الحكم،ص579.
و طريق القناعة و الرضا و القبول قليل الرواد فغالبية الناس لا قناعة لديهم و لا رضا عندهم مع كثير النعم و الخير، و في الرواية عن الإمام الرضا عليه السلام «و لا يَسلُكُ طَريقَ القَناعَةِ إلّارجُلانِ: إمّا مُتَعبِّدٌ يُريدُ أجرَ الآخِرَةِ، أو كريمٌ مُتَنزِّهٌ عَن لِئامِ الناسِ». بحار الأنوار،ج75ص357،كشف الغمة،ج2ص306
و يحتاج المؤمن إلى ترويض النفس بالقناعة و الرضا، و التدبر في روايتهم عليهم السلام و تطبيقها، و من ذلك ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة أيضا «وَ لَا كَنْزَ أَغْنَى مِنَ الْقَنَاعَةِ» حكمة 371، و «كَفَى بِالْقَنَاعَةِ مُلْكاً» حكمة 229، وَ «سُئِلَ عليه السلام عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً فَقَالَ هِيَ الْقَنَاعَةُ»،حكمة 229.
و يحتاج إلى الاقتداء بالنبي الأكرم صلّى الله عليه و آله في قناعته و زهده و حياته، و بالأنبياء (ع)، و بأمير المؤمنين (ع)، و بالأئمة الأطهار (ع)، و بالمراجع العظام و بالصالحين.
و صفة القناعة صعبة الحصول و التملك و لكنها تخفف من أزمات النّاس على هذا الكوكب، فإنّ غالبية الأزمات و الحروب و الصراعات نتيجة للطمع و الجشع و عدم القناعة، مما يؤدي إلى الاعتداءات و التسلط و السيطرة على الآخرين و ممتلكاتهم و حقوقهم، و هذا على مستوى الأفراد بل قد يصل الأمر إلى تنازع الأخوة كما في مسائل الإرث، أو المجموعات و الفئات كما عن منازعات العشائر و صراع الأحزاب، أو على مستوى الدول و تسلطها على دول أخرى بالقوة و القهر و الحيّل و التهديد، و كلها من منبع واحد هو الجشع و الطمع و الحرص، و هو عدم القناعة.
و من أدعيتهم عليهم ما روي من أدعية الطواف عن الإمام الصادق عليه السلام «اَللَّهُمَّ قَنِّعْنِي بِمَا رَزَقْتَنِي، وَ بَارِكْ لِي فِيمَا آتَيْتَنِي». تهذيب الأحكام،ج5ص104.
و ما روي عن مولاتنا فاطمة الزهراء عليها السلام «اللَّهُمَّ قَنِّعْنِي بِمَا رَزَقْتَنِي، وَ اُسْتُرْنِي وَ عَافِنِي أَبَداً مَا أَبْقَيْتَنِي، وَ اِغْفِرْ لِي وَ اِرْحَمْنِي إِذَا تَوَفَّيْتَنِي، اَللَّهُمَّ لاَ تُعْيِنِي فِي طَلَبِ مَا لَمْ تُقَدِّرْ لِي، وَ مَا قَدَّرْتَهُ عَلَيَّ فَاجْعَلْهُ مُيَسَّراً سَهْلاً». بحار الأنوار،ج92ص406.
و في زيارة أمين الله «اَللَّهُمَّ فَاجْعَلْ نَفْسِي مُطْمَئِنَّةً بِقَدَرِكَ، رَاضِيَةً بِقَضَائِكَ..». كامل الزيارات،ص39