الموت في حياتكم مقهورين، و الحياة في موتكم قاهرين
نهج البلاعة – خطبة 51
محمد جواد الدمستاني
كلمة من أمير المؤمنين عليه السلام أصبحت مثل الشعار و النشيد للأحرار، يختصر موت و حياة الأفراد و الأمم، قالها أمير المؤمنين عليه السلام في صفين و رواها الشريف الرضي في نهج البلاغة في الخطبة رقم 51، و كانت مناسبته حينما عسكر جيش معاوية على شريعة الفرات بصفين و منعوا الماء عن جيش الإمام، منعوا من شربه و استعماله، و عندما أرسلوا السفراء لطلب الماء رفض الأمويون، وصبر الإمام عليه السلام ثم دعاهم لأخذه بالقوة فقال عليه السلام «قَدِ اسْتَطْعَمُوكُمُ الْقِتَالَ، فَأَقِرُّوا عَلَى مَذَلَّةٍ، وَ تَأْخِيرِ مَحَلَّةٍ، أَوْ رَوُّوا السُّيُوفَ مِنَ الدِّمَاءِ تَرْوَوْا مِنَ الْمَاءِ، فَالْمَوْتُ فِي حَيَاتِكُمْ مَقْهُورِينَ وَ الْحَيَاةُ فِي مَوْتِكُمْ قَاهِرِينَ، أَلَا وَ إِنَّ مُعَاوِيَةَ قَادَ لُمَةً مِنَ الْغُوَاةِ وَ عَمَّسَ عَلَيْهِمُ الْخَبَرَ حَتَّى جَعَلُوا نُحُورَهُمْ أَغْرَاضَ الْمَنِيَّةِ»، و بدأت معارك صفین فی طلب الحصول علی الماء.
و بعد هذا الكلام حمل جيش أمير المؤمنين عليه السلام و انتصر، و أزالهم عن الشريعة و وصل إلى الماء، و انهزم جيش معاوية، لكن الإمام عليه السلام لم یمنع الماء عنهم و أذن لهم فی شربه و استعماله لهم و لدوابهم، و هذا هو الفارق بينهما، بين عظمة و سمُوّ الإمام عليه السلام، و بين خساسة و انحدار أعدائه معاوية و أصحابه.
و الكلام في «فَالْمَوْتُ فِي حَيَاتِكُمْ مَقْهُورِينَ، وَالْحَيَاةُ فِي مَوْتِكُمْ قَاهِرِينَ»، حياة المقهورين موتٌ، و موت القاهرين حياةٌ.
و قال هذا الكلام لدفاعهم و ترغيبهم للقتال في قالب بلاغي، و في شرح ابن ميثم البحراني بيان المعنى، بما يمكن توضيحه بــــــ: جَذْبُهُم إلى القتال و تنبيهُهُم بأنّ الغاية الَّتي عسّاهم يفرّون من القتال خوفا منها و هى الموت، (النّاس تفر من القتال خوف الموت)، و هذه الغاية و هي الموت موجودة مع حياة الظلم و القهر و القسر و القمع (الْمَوْتُ فِي حَيَاتِكُمْ مَقْهُورِينَ).
والغاية التي يطلبونها من ترك القتال هي الحياة (النّاس تترك القتال لأجل البقاء و الحياة)، و هذه الغاية و هي الحياة هي موجودة في القتال، و هي حياة حقيقية، موت مع قهر العدوّ و هزيمته و دحره (الْحَيَاةُ فِي مَوْتِكُمْ قَاهِرِينَ).
فحياة الذل و القهر والهوان هي موتٌ و إن كان أصحابها أحياء يتنفسون، و الأشخاص و الشعوب التي تقع تحت قهر و استبداد و ظلم الطغاة أو الاحتلال و تُسلب خيراتها وتُصادر حرياتها هي أشخاص و شعوب ميتة و إن كانت تتنفس و تتحرك كالأحياء، فالموت هو في الحياة الذليلة المهانة، و الإنسان المقهور و مسلوب الحرية و الإرادة ميت أو شبه ميت و إن كان في ظاهره حيّ، لأنه لا يظهر منه آثار الحياة من حماية و عزة و شرف و إباء و كرامة (فَالْمَوْتُ فِي حَيَاتِكُمْ مَقْهُورِينَ).
و يقابله موت العز و الشرف فهو حياة، الموت الذي يزلزل الحكم الظالم المستبد و قواعده و يهز الظالمين حياةٌ، و عندما يموت الحر من أجل أهدافه و غاياته، و يكون مصدر إلهام للأحرار و الثوار فهو حيّ (وَالْحَيَاةُ فِي مَوْتِكُمْ قَاهِرِينَ)، و لأنّ موت قاهر العدوّ موجب للذّكر الباقي الجميل في الدّنيا، و صيرورته مثالا و نموذجا، و للأجر الجزيل في الآخرة، فهو في الحقيقة حياة لا تنقطع و لا تفنى، و قال تعالى «وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ». سورة آل عمران:169.
و الكلام به دعوة قوية لعدم التسامح و التنازل في الحقوق و الحاجات الضرورية و الرئيسية و الماء مثالها الأوضح فهو حق للنّاس جميعا لا يجوز لأحد أن يمنعه عن الغير، و «قَدِ اسْتَطْعَمُوكُمُ الْقِتَالَ فَأَقِرُّوا عَلَى مَذَلَّةٍ وَ تَأْخِيرِ مَحَلَّةٍ» أي قد طلبوا منکم القتال بمنعهم عنکم الماء و حاجتکم الضروریة و حقکم ، فإمّا أن تعترفوا بالذل و تتنازلوا عن حقوقکم و هی تُنهب و تُغتصب و تتأخرون في المرتبة و المنزلة و ما یؤدی الیه من تأخر حضاری و كل هذا مرفوض، أو تستخدمون السیف و السلاح و أنواع القوة لنیل حقوقکم، «أَو رَوُّوا السُّيُوفَ مِنَ الدِّمَاءِ تَرْوَوْا مِنَ الْمَاءِ» فالموت فی حیاتکم مقهورین، و الحیاة فی موتکم قاهرین.
و هذه هي لغة القوة و ليس يفهم العدوّ غيرها، و لا يعترف بالحق دونها و لا يقّر حتى تسقط السيوف على رأسه و جسده، و قال الإمام عليه السلام في خطبة أخرى و هو يحث أصحابه على القتال و يرشدهم بتعاليم قتالية، قال: «إِنَّهُمْ لَنْ يَزُولُوا عَنْ مَوَاقِفِهِمْ دُونَ طَعْنٍ دِرَاكٍ، يَخْرُجُ مِنْهُمُ النَّسِيمُ، وَ ضَرْبٍ يَفْلِقُ الْهَامَ، وَ يُطِيحُ الْعِظَامَ، وَ يُنْدِرُ السَّوَاعِدَ وَ الْأَقْدَامَ». نهج البلاغة، خطبة 124.
و في صفين قال أمير المؤمنين عليه السلام أيضا لأصحابه في ساحة الحرب «إِنَّ أَكْرَمَ الْمَوْتِ الْقَتْلُ وَ الَّذِي نَفْسُ ابْنِ أَبِي طَالِبٍ بِيَدِهِ لَأَلْفُ ضَرْبَةٍ بِالسَّيْفِ أَهْوَنُ عَلَيَّ مِنْ مِيتَةٍ عَلَى الْفِرَاشِ فِي غَيْرِ طَاعَةِ اللَّهِ». نهج البلاغة، خطبة 123.
و تكرر في خطب الإمام عليه السلام استنهاض أصحابه و استنفارهم، و بعث المعنويات فيهم، و في خطبة له عليه السلام يدعو أصحابه للتأهب و الاستعداد، قال «وَ اللَّهِ إِنَّ امْرَأً يُمَكِّنُ عَدُوَّهُ مِنْ نَفْسِهِ يَعْرُقُ لَحْمَهُ وَ يَهْشِمُ عَظْمَهُ وَ يَفْرِي جِلْدَهُ لَعَظِيمٌ عَجْزُهُ، ضَعِيفٌ مَا ضُمَّتْ عَلَيْهِ جَوَانِحُ صَدْرِهِ، أَنْتَ فَكُنْ ذَاكَ إِنْ شِئْتَ، فَأَمَّا أَنَا فَوَاللَّهِ دُونَ أَنْ أُعْطِيَ ذَلِكَ ضَرْبٌ بِالْمَشْرَفِيَّةِ تَطِيرُ مِنْهُ فَرَاشُ الْهَامِ وَ تَطِيحُ السَّوَاعِدُ وَ الْأَقْدَامُ وَ يَفْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ ما يَشاءُ». نهج البلاغة، خطبة 34.
و الإمام عليه السلام بتعبيره «فَأَقِرُّوا عَلَى مَذَلَّةٍ، وَ تَأْخِيرِ مَحَلَّةٍ»، يدعو بقوة إلى تغيير واقع الذل و الهوان و التأخر الحضاري لدى مطلق الأمم إلى واقع جديد من العزة و القوة و الكرامة و التقدم الحضاري، و هذا لا يكون إلا بالجدّ و الاجتهاد و العمل الدؤوب المتواصل و بالتضحيات.
و المصداق الواضح لهذا الكلام ثورة الإمام الحسين عليه السلام الذي زلزل الحكم الأموي فكانت «الْحَيَاةُ فِي مَوْتِهم قَاهِرِين». فالحسين و أولاده و أصحابه أحياء عند ربهم يرزقون، و أحياء في عقول و نفوس المؤمنين و يحيون ذكراهم في عاشوراء و المجالس الحسينية، و هم أحياءٌ في التاريخ، و أحياءٌ في الأمم و أحياء عند الأحرار في العالم.
مصادر: القرآن الكريم، نهج البلاغة، شروح نهج البلاغة،كتب الحديث.