التحذير من المكانة و المنزلة و عند الحكّام
(المكانة من الملوك مفتاح المحنة، و بذر الفتنة)
غرر الحكم
محمد جواد الدمستاني
روي عن أمير المؤمنين عليه السلام في كتاب غرر الحكم و درر الكلم في التحذير من المنزلة و المكانة و الوجاهة عند الملوك و الحكّام و الرؤساء قوله عليه السلام «الْمَكَانَةُ مِنَ الْمُلُوكِ مِفْتَاحُ الْمِحْنَةِ وَ بَذْرُ الْفِتْنَةِ»، غرر الحکم، ص 127، و في تصنيف غرر الحكم تحت الرقم 9892.
المكانة عند الملوك بمعنى أنّ شخصا يحظى حضوة و مكانة لدى الحاكم أو الرئيس أو الملك أو السلطان، و هذه المكانة أو المقام أو الدرجة أو الشأن عند الحاكم أو السلطان هي مفتاح المحنة و الشقاء و بذر الفتنة و البلاء.
و الغالب هو أنّ من يكون بهذه المكانة عند الحكّام و بهذا القرب من الحاكم يصبح عنصرا مأمورا طبقا لتصرف الحاكم، و لابدّ له أن يصرف أكثر أوقاته في خدمته، ويتحمّل آلام و مشقات الحكم أو جزء منها، و عادة يقوم بالتملق و النفاق و المجاملات للحاكم و الظلم معه، و صاحب الملوك أو الملك الظالم يحتاج في صحبته إلى الكذب، و الدجل و التصنع، و يجره الحاكم للمعاصي و الذنوب بل و الكبائر و قتل النفس أو الأنفس البريئة أو تبرير القتل لمصلحة الحاكم، و كذلك يتعرض في صحبته لما يتعرض منه الحاكم من أزمات و حروب، و يجره الحاكم إلى فساد متعدد.
و رغم ذلك ينهال الناس عليه بمطالبهم كونه واسطة و صاحب نفوذ و قد لا يستطيع هو و لا حاكمه تلبيتها، وفي كلّ مطلب لا يستطيع أن يحققه أو ينفذه قد يجلب العداء ضدّه، و يسبب له الخجل والانفعال.
فهذه المكانة من الملوك و الحكّام مفتاح و بداية فتنة و بلاء لصاحبها، و ليست مفتاح سكينة و صفاء و أمان.
وكونه «بذر الفتنة» لعله بسبب أنّ الملوك و الحكّام يضطربون فيضطرب معهم، و يتطلبون كثيرا فيرهقونه بمطالبهم، و ينزعجون لأتفه الاُمور، و قد يسقط الإنسان عندهم من الاعتبار و يصاب بالذلّ و الهوان لتوافه الأمور مما لا قيمة له، و ممكن أن يناله منهم السوء و التحقير و العقوبة مما يصبر عليه على مضض و يكتمه على بغض، فهذه فتنة و بلاء.
و في نهج البلاغة «صَاحِبُ السُّلْطَانِ كَرَاكِبِ الْأَسَدِ يُغْبَطُ بِمَوْقِعِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَوْضِعِهِ»، حكمة 263، فعلى عكس ما يتوهم بعض النّاس لصاحب الحاكم أو مساعده أو مستشاره أو ممن لهم مكانة عنده أو من هم في بلاطه براحة و رفاهة من رغد عيش و سعة رزق و نعيم أو تجارة و نفود و بعد عن المحاسبة و الرقابة إلا أنّ هذا هو الظاهر و أمّا الباطن فيعرفه نفس هذا الصاحب أو المستشار و ليست هذه الصحبة بمورد غبطة و إنّما هي مورد ابتلاء و فتنة، فقد ينقض عليه الحاكم في أيّ وقت و يفترسه كما يفترس الأسد فريسته، فصاحب السلطان في غاية المجازفة و المخاطرة بالنفس، و غاية الخوف و الحذر، و ممكن أن يتعرض بأية حركة بسيطة إلى السجن أو القتل، و الأمثلة كثيرة في العصر الحاضر و التاريخ.
ثم أنّ صاحب الحاكم و المكانة عنده يظل في خوف و قلق دائم إذا كان الحاكم أو الرئيس ظالما كغالبية الحكّام، و ربّما تنقلب الأمور عليه و يصبح الحاكم محكوما و بعض المحكومين حكّاما، و أنت غنيّ عن ذلك كله، فخير لك أن تحذر هذه الصحبة و تتجنب هذه المكانة التي تجرك في كثير من الحالات إلى الويلات، و الرواية عن النبي صلى الله عليه و آله «دَعْ مَا يُرِيبُكَ إِلَى مَا لاَ يُرِيبُكَ»، إرشاد القلوب،ج1ص12.
و هذه الحكمة تتعلق بالمكانة و العلاقة مع الملوك و الحكّام و السلاطين فيمكن تصنيفها في «فن الصداقات و العلاقات»، و في غرر الحكم عدد من الحكم تتعلق بالعلاقة مع الحكّام يجمعها الحذر منهم، و قلة معاشرتهم، و بيان بعض صفاتهم من التكبر، و إهدار الدماء، و من تلك الحكم قول أمير المؤمنين عليه السلام:
«لَا تُكْثِرَنَّ الدُّخُولَ عَلَى الْمُلُوكِ، فَإِنَّهُمْ إِنْ صَحِبْتَهُمْ مَلُّوكَ، وَ إِنْ نَصَحْتَهُمْ غَشُّوكَ»، غرر الحکم، ص753، تصنيف غرر الحكم، رقم ٩٨٩٥. في عدم الإكثار من الدخول عليهم و معاشرتهم لحصول الملل عندهم في المصاحبة و العلاقة، و غشّهم في النصيحة و الإرشاد و عدم قبولها.
«لَا تَرْغَبْ فِي خُلْطَةِ الْمُلُوكِ فَإِنَّهُمْ يَسْتَكْثِرُونَ مِنَ الْكَلَامِ رَدَّ السَّلَامِ، وَ يَسْتَقِلُّونَ مِنَ الْعِقَابِ ضَرْبَ الرِّقَابِ»، غرر الحکم، ص 753، تصنيف غرر الحكم، رقم 9893. نصيحة بعدم المعاشرة مع الملوك و الحكّام لتكبرهم حتى في أمور سهلة فيستكثرون ردّ السلام الذي لا يكلف ردّه مشقة و عناء، و لكنهم يستقلون و يستنقصون سفك الدماء و ضرب الأعناق، فهم يستكثرون الصغائر، و يستقلون الكبائر.
«اِصْحَبِ اَلسُّلْطَانَ بِالْحَذَرِ وَ اَلصَّدِيقَ بِالتَّوَاضُعِ وَ اَلْبِشْرِ وَ اَلْعَدُوَّ بِمَا تَقُومُ بِهِ عَلَيْهِ حُجَّتُكَ»، غرر الحکم، ص 148، تصنيف غرر الحكم، رقم ٩٨٩٣. مصاحبة الحكّام مع الاضطرار للمصاحبة بالحذر و الاحتياط و الاحتراز حتى لا تكون ضحية لهم.
«لَا تَطْمَعَنَّ فِي مَوَدَّةِ الْمُلُوكِ فَإِنَّهُمْ يُوحِشُونَكَ آنَسَ مَا تَكُونُ بِهِمْ، وَ يَقْطَعُونَكَ أَقْرَبَ مَا تَكُونُ إِلَيْهِمْ»، غرر الحکم، ص766، تصنيف غرر الحكم، رقم ٩٨٩٧. صفة أخرى للزهد و الاستغناء عن مودة و محبة الملوك و الحكّام فقد يوحشونك و أنت غارق في أنسهم، و يقطعون صلتهم بك و أنت أقرب ما تكون إليهم.
و الحمد لله ربّ العالمين وصلّ اللهم على محمد و آله الطاهرين.