شركاء الإنسان في أمواله
(لكل امرئ في ماله شريكان الوارث و الحوادث)
نهج البلاغة – حكمة 335
محمد جواد الدمستاني
النظرة الأولى للإنسان لملكية المال عند غالبية النّاس هي اختصاصه بصاحبه دون غيره، يفعل به ما يشاء من صرف أو حرص، أو تبذير و توريث، لا يشاركه معه غيره، فأراد أمير المؤمنين (ع) التنبيه على خلاف هذه النظرة فأشار إلى عدم الوثوق و الاعتماد على الملكية الفردية الخاصة للمال، و أنّه ليس لصاحبه مطلق الاختيار في صرفه و خرجه دائما في مطلق الأوقات، بل أنّ للمرء شريكان آخران في أمواله و ممتلكاته لا ينبغي الغفلة عنهما أبدا و هما الورثة و طوارئ الزمان، قال عليه السلام «لِكُلِّ امْرِئٍ فِي مَالِهِ شَرِيكَانِ، الْوَارِثُ وَ الْحَوَادِثُ»، نهج البلاغة – حكمة 335.
و المعنى ذم و تنفير عن الاحتفاظ بالمال و ادّخاره دون صرفه و هي عادة البخلاء و الحرصاء، و روي مثله عنه عليه السلام، قال «بَشِّرْ مَالَ اَلْبَخِيلِ بِحَادِثٍ أَوْ وَارِثٍ»، عیون الحکم، ص195، و في مستدرك نهج البلاغة قال أبو ذر رحمه الله «إنّ لك في مالك شريكين: الحدثان و الوارث، فان استطعت أن لا تكون أبخس (أخس) الشركاء حظا فافعل»، نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة، ج٧، ص ٨٤، و ص80، و الحدثان الليل و النّهار. و فيه عن ابي ذر«في مالك شريكان أيهما جاء أخذ، و لم يؤامرك، الحدثان و القدر، كلاهما يمر على الغث و السمين، و الورثة ينتظرون متى تموت فيأخذون ما تحت يدك، و أنت تقدم لنفسك، فان استطعت أن لا تكون أخس لليلته [ كذا ] نصيبا فافعل»، نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة، ج ٨، الشيخ المحمودي، ص ٢٢٧، و ص244، عن تاريخ الشام،ج63ص1248.
و قد يُفهم من الشريكين في الحكمة الأصل – لكل امرئ في ماله شريكان – هما الرئيسيان اللذان يحصلان على كل المال أو أكثره، لأن الشركاء الجزئيون و هم الفقراء و المحرومون لهم حق معلوم في أموال الأغنياء المؤمنين، قال تعالى: «وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ»، سورة المعارج، آية 24-25، «وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ» سورة الذاريات:19، و روي عن أمير المؤمنين (ع) «إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ فَرَضَ فِي أَمْوَالِ الْأَغْنِيَاءِ أَقْوَاتَ الْفُقَرَاءِ»، نهج البلاغة،حكمة 328.
و ذكر الشركاء تنبيه و تحذير من أنّ عدم الانتفاع بالأموال في مواطنها و مواقع صرفها الصحيحة و المناسبة سيخرجها من أصحابها الأوائل بفعل الحوادث و الطوارئ التي تواجه الإنسان في حياته، أو التوارث و انتقال أمواله بعد مماته، و كلاهما موضع حسرة في عدم استفادة صاحبه به أتم الفائدة، حيث يكون خازن لغيره بعد التعب و الكدّ و عليه حسابه في الآخرة.
التوارث يحصل بعد موت الموّرث و لكن قد يقوم الورثة باستعجال أخذ المال و الثروة بحوادث يختلقونها، أو يقسّمون أموال مورثهم قبل موته، كما انّهم يحصلون على قسط منها كنفقة في الحالات العادية.
و قد يصل الأمر إلى رفع قضية سفه في المحاكم من قبل الأولاد على أبيهم تحجره من التصرف في أمواله قبل موته، و قد يخرج الحكم بسفهه حقا أو ظلما، فإن لم يحصل تقاسم الأقارب لتلك الأموال يحصل تجميد لها، و هذه من الحوادث و التوارث الدنيوي معا، و عقوق الوالدين و قطيعة الرحم من الكبائر.
و بعد التوارث قد يختلف الورثة فيما بينهم و يتحولون من الائتلاف إلى الاختلاف، و ما أكثر ما يصلنا من الخلافات بين الورثة بعد موت أبيهم، و كلما زاد الإرث اتسعت خلافاتهم و كبرت مشاكلهم، و قد يصل الأمر إلى القطيعة بين الأخوة، و في كثير من الحالات إلى تنافر و تشاحن، و يقفون متخاصمين في المحاكم وجها لوجه.
و الوصية بانفاق المال دون تخزينه أو توريثه مطلقة كما يقول أمير المؤمنين عليه السلام في حكمة أخرى، «فَإِنَّ الَّذِي فِي يَدِكَ مِنَ الدُّنْيَا قَدْ كَانَ لَهُ أَهْلٌ قَبْلَكَ، وَ هُوَ صَائِرٌ إِلَى أَهْلٍ بَعْدَكَ، وَ إِنَّمَا أَنْتَ جَامِعٌ لِأَحَدِ رَجُلَيْنِ، رَجُلٍ عَمِلَ فِيمَا جَمَعْتَهُ بِطَاعَةِ اللَّهِ فَسَعِدَ بِمَا شَقِيتَ بِهِ، أَوْ رَجُلٍ عَمِلَ فِيهِ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ فَشَقِيتَ بِمَا جَمَعْتَ لَهُ، وَ لَيْسَ أَحَدُ هَذَيْنِ أَهْلًا أَنْ تُؤْثِرَهُ عَلَى نَفْسِكَ، وَ لَا أَنْ تَحْمِلَ لَهُ عَلَى ظَهْرِكَ، فَارْجُ لِمَنْ مَضَى رَحْمَةَ اللَّهِ، وَ لِمَنْ بَقِيَ رِزْقَ اللَّهِ»، نهج البلاغة، حكمة 416.
و الحوادث إشارة إلى الأمور التي تطرأ على الإنسان و تضعف قدرته المالية أو تستنفدها، و يمكن تصورها في المتوقعات و المفاجآت كما في الأمراض و الأسقام، و السرقات و الابتزازات، و الكوارث الطبيعية من زلازل و فيضانات، و الحرائق و النيران، و الحروب و النزاعات، و الضرائب و النوائب و المصائب، و حوادث السير و السيارات و غيرها، فكلها حوادث تشارك صاحب المال في ماله و قد تستنزف صاحبها تماما فينام غنيا و يصبح فقيرا، و روي عنه عليه السلام في غرر الحكم «الْمَالُ نَهْبُ الْحَوَادِثِ»، تصنيف غرر الحكم، رقم 8328.
و ليس في الحكمة – لكل امرئ في ماله شريكان- ذم للمال نفسه و إنّما حث على اغتنامه في مواقعه و عدم تجميعه و البخل فيه، و ليس المال في موضع الذم أو المدح و إنّما صاحبه من يستحق مدحا أو ذما، فإن كان بخيلا أو حريصا و مقتّرا فهو ممن يستحق الذم، و إن كان يضعه في مواضعه المناسبة و يجود به فهو ممن يستحق المدح، فالمال وسيلة إن استخدمت في مواضعها الصحيحة يمدح صاحبها، و إن استخدمت بشكل ردئ يُذم صاحبها، و ليس غاية يُجمع و يُتباهى به أو يُتفاخر.
و الحكمة دعوة للإنفاق و تنفير من جمع المال و ذم البخل و قد تكرر هذا في كلامه عليه السلام في عدة مناسبات للتأكيد بأنّ جمع المال غير مجدي و غير مفيد للإنسان و أنّه عمّا قريب سيتركه فالأفضل إنفاقه في مخارجه الصحيحة مما يرضي الله و في سبيله، و نفع صاحبه و أهله و أولاده و المؤمنين و إخراج الحقوق منه و خدمة النّاس و قضاء الحوائج، قال عليه السلام في نهج البلاغة و قد مر بقذر على مزبلة: «هَذَا مَا بَخِلَ بِهِ الْبَاخِلُونَ»، حكمة 195، و «هَذَا مَا كُنْتُمْ تَتَنَافَسُونَ فِيهِ بِالْأَمْسِ»، حكمة 195، و قال عليه السلام: «يَا ابْنَ آدَمَ مَا كَسَبْتَ فَوْقَ قُوتِكَ فَأَنْتَ فِيهِ خَازِنٌ لِغَيْرِكَ». نهج البلاغة، حكمة 192.
أمّا تجميع المال حرصا أو خوف الفقر فهو استراتيجية خاطئة و خاسرة و تجلب الحسرة و الندامة في الساعات الأخيرة في حياة الإنسان و فيما بعدها من عوالم حيث يتوقف الإنسان و يتدبر بأنّ ما كان يتحفظ عليه و يحرص أصبح في أيدي الآخرين من الأقارب عادة أو الأباعد يتصرفون به بما يشاؤون، فمنهم من يدخل به الجنّة إذ يصرفه في طاعة الله، و منهم من يدخل به النّار إذ يصرفه في معصية الله، و يبقى حساب تجميعه على صاحبه الحريص، و يزيد حسرته أنّه لم يستمتع به في حياته و تعب في جمعه و كدّه، قال عليه السلام: «إِنَّ أَعْظَمَ الْحَسَرَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَسْرَةُ رَجُلٍ كَسَبَ مَالًا فِي غَيْرِ طَاعَةِ اللَّهِ، فَوَرِثَهُ رَجُلٌ فَأَنْفَقَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فَدَخَلَ بِهِ الْجَنَّةَ، وَ دَخَلَ الْأَوَّلُ بِهِ النَّارَ»، نهج البلاغة، حكمة 429.
و من المبررات لعدة من النّاس في ادّخار الأموال هي حماية الأولاد و ضمان مستقبلهم، يجمعون و يكثرون فإذا ما سئلوا قالوا أنّ هذه الأموال يتقوى بها الأولاد في مستقبلهم، و الحال أنّه لا أحد يعلم من يسبق الآخر للموت صاحب المال أو أقاربه الذي يبرر جمع المال لهم، و قد روي عن الإمام الصادق (ع) «كَانَ فِيمَا وَعَظَ بِهِ لُقْمَانُ اِبْنَهُ يَا بُنَيَّ إِنَّ اَلنَّاسَ قَدْ جَمَعُوا قَبْلَكَ لِأَوْلاَدِهِمْ فَلَمْ يَبْقَ مَا جَمَعُوا، وَ لَمْ يَبْقَ مَنْ جَمَعُوا لَهُ، وَ إِنَّمَا أَنْتَ عَبْدٌ مُسْتَأْجَرٌ قَدْ أُمِرْتَ بِعَمَلٍ وَ وُعِدْتَ عَلَيْهِ أَجْراً فَأَوْفِ عَمَلَكَ وَ اِسْتَوْفِ أَجْرَكَ، وَ لاَ تَكُنْ فِي هَذِهِ اَلدُّنْيَا بِمَنْزِلَةِ شَاةٍ وَقَعَتْ فِي زَرْعٍ أَخْضَرَ فَأَكَلَتْ حَتَّى سَمِنَتْ فَكَانَ حَتْفُهَا عِنْدَ سِمَنِهَا، وَ لَكِنِ اِجْعَلِ اَلدُّنْيَا بِمَنْزِلَةِ قَنْطَرَةٍ عَلَى نَهَرٍ جُزْتَ عَلَيْهَا وَ تَرَكْتَهَا وَ لَمْ تَرْجِعْ إِلَيْهَا آخِرَ اَلدَّهْرِ، أَخْرِبْهَا وَ لاَ تَعْمُرْهَا فَإِنَّكَ لَمْ تُؤْمَرْ بِعِمَارَتِهَا»، الکافي، ج2، ص134.
و يبيّن أمير المؤمنين عليه السلام حالة صاحب الأموال عند الاحتضار بوصف دقيق بين أهله و أولاده و ورثته، قال عليه السلام: «وَ يَتَذَكَّرُ أَمْوَالًا جَمَعَهَا أَغْمَضَ فِي مَطَالِبِهَا، وَ أَخَذَهَا مِنْ مُصَرَّحَاتِهَا وَ مُشْتَبِهَاتِهَا، قَدْ لَزِمَتْهُ تَبِعَاتُ جَمْعِهَا وَ أَشْرَفَ عَلَى فِرَاقِهَا، تَبْقَى لِمَنْ وَرَاءَهُ يَنْعَمُونَ فِيهَا وَ يَتَمَتَّعُونَ بِهَا، فَيَكُونُ الْمَهْنَأُ لِغَيْرِهِ وَ الْعِبْءُ عَلَى ظَهْرِهِ، وَ الْمَرْءُ قَدْ غَلِقَتْ رُهُونُهُ بِهَا، فَهُوَ يَعَضُّ يَدَهُ نَدَامَةً عَلَى مَا أَصْحَرَ لَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ مِنْ أَمْرِهِ، وَ يَزْهَدُ فِيمَا كَانَ يَرْغَبُ فِيهِ أَيَّامَ عُمُرِهِ، وَ يَتَمَنَّى أَنَّ الَّذِي كَانَ يَغْبِطُهُ بِهَا وَ يَحْسُدُهُ عَلَيْهَا قَدْ حَازَهَا دُونَهُ»، نهج البلاغة، خطبة 109.