محمد جواد الدمستانيمحمد جواد الدمستاني

Loading

هلاك الاستبداد و نجاة التشاور

(من استبد برأيه هلك، و من شاور الرجال شاركها في عقولها)

نهج البلاغة، حكمة 161

محمد جواد الدمستاني

رويت عدد من الروايات عن أهل بيت النبوة و خزّان العلم حول أهمية التشاور و المشاورة، و حث شديد عليها، هذا الاهتمام الكبير يبيّن عظمتها في بنيان المجتمع الإسلامي، يقابله تحذير كبير من الاستبداد بالرأي الذي يؤدي إلى الهلاك و الضياع، و قد أدّب الله سبحانه و تعالى نبيّه الكريم بالشورى في أمور المسلمين، «وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ»، سورة آل عمران:159.

الاستبداد هو الإنفراد بالرأي دون مشورة، و هو كثير لدى الحكام و الملوك و مواقع الرئاسة و السلطة، و هو طريق الهلاك، و «مَنِ اسْتَبَدَّ بِرَأْيِهِ هَلَكَ»، لأنّ انفراد الإنسان برأيه و عدم قبوله النصيحة و الاستشارة من الآخرين و خاصة في مواطنها الصعبة كالحروب و الأزمات و التي هي مواقع يخطأ فيها الإنسان و تحتاج إلى آراء متعددة يهلك فيها من لا يستشير و يستبد برأيه، فمن استبدّ برأيه معرض للهلاك.

فالانفراد و الاستبداد بالرأي مخاطرة و مجازفة كبيرة قد تؤدي إلى الهلاك حيث يقبل الإنسان على أمور يجهلها و لا يعلم عاقبتها، فلزم أن يشاور أهل الخبرة لنجاة نفسه و من معه، و إلا هلك، و قال عليه السلام: «قد خاطَرَ مَنِ استَغنى بِرأيِهِ»، نهج البلاغة، حكمة 211.

و في غرر الحكم «مَنِ اسْتَبَدَّ بِرَأْيِهِ زَلَّ»، تصنيف غرر الحكم، رقم 10108، و «مَنِ اسْتَغْنَى بِعَقْلِهِ ضَلَّ»، تصنيف غرر الحكم، رقم 10107.

الشُّورَى أو التشاوُر بمعنى أخذ آراء الآخرين في أمر ما أو قضية ما، «وَ مَنْ شَاوَرَ الرِّجَالَ شَارَكَهَا فِي عُقُولِهَا» ذلك لحصول الرأي الأصلح بعد المشاورة، فكأنّما قد حصل المشاور على عقول المستشارين جميعا، لأنّه انتفع بعقولهم في آرائهم، فيقل في رأيه الخطأ، قال عليه السلام: «مَنِ اسْتَقْبَلَ وُجُوهَ الْآرَاءِ عَرَفَ مَوَاقِعَ الْخَطَإ» نهج البلاغة، حكمة 173، و روي عن الإمام الصادق (ع) عن أنّه سئل أمير المؤمنين (ع) عن أعلم النّاس قال: «مَنْ جَمَعَ عِلْمَ اَلنَّاسِ إِلَى عِلْمِهِ»، الخصال، ص5، فالمشورة تغربل الآراء و تنضج و تصقل الرأي النهائي، و توصل إلى الرأي الأصلح أو الأنفع، و هي غير ملزمة و إنّما يختار الأقرب إلى الصواب كما قال عليه السلام في وصيته لابنه محمد «اُضْمُمْ آرَاءَ اَلرِّجَالِ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ ثُمَّ اِخْتَرْ أَقْرَبَهَا إِلَى اَلصَّوَابِ وَ أَبْعَدَهَا مِنَ اَلاِرْتِيَابِ»، من لا یحضره الفقیه، ج4ص384، و هو أمر ارتكازي أو مسلم عند العقلاء باستشارة ذوي الخبرة و التجربة أو غيرهم و خاصة في الأمور الصعبة.

فأصحاب العقول الراجحة و النيّرة يقومون بمبدأ الشورى و الاستشارة، و لا يخاطرون باستبدادهم برأيهم، و يشعرون براحة القلب و الضمير عندها، حيث يحصلون على الصواب بعد المشورة، و يعذرون في حالة الخطأ.

أمّا المستبدون فإن الشورى تصغرهم، حيث يكبر النّاس عندهم، و يشعرون بالذل لعزة و منعة أصحاب العقول المستشارة، و يفضلون الاستبداد طريق الهلاك على الشورى طريق النجاة، و بعضهم يعتبرها إفشاء لأسراره أو دولته التي يتستر عليها، و يقعون في الأخطاء المتكررة دون أن يتنازلوا للمشورة.

و الاستشارة و إن كانت حق للجميع إلا انّ أصحاب الخبرة و الكفاءة و التجربة أولى بها و أصلح و هو ما كان يصطلح عليه بأصحاب الحل و العقد، و عن النبي (ص): «وَ اَلْحَزْمُ أَنْ تَسْتَشِيرَ ذَا اَلرَّأْيِ وَ تُطِيعَ أَمْرَهُ»، أعلام الدین، ص294.

و يستشار العاقل الورع الذي يرشد إلى الخير و الصلاح فعن الإمام الصادق (ع) «اِسْتَشِرِ اَلْعَاقِلَ مِنَ اَلرِّجَالِ اَلْوَرِعَ فَإِنَّهُ لاَ يَأْمُرُ إِلاَّ بِخَيْرٍ»، المحاسن، ج2، ص602، و «مَنْ شَاوَرَ ذَوِي اَلْعُقُولِ اِسْتَضَاءَ بِأَنْوَارِ اَلْعُقُولِ» غرر الحكم، ص627.

و استشارة الأعداء لمعرفة مقاصدهم، كما عن أمير المؤمنين (ع) «اِسْتَشِرْ أَعْدَائَكَ تَعْرِفْ مِنْ رَأْيِهِمْ مِقْدَارَ عَدَاوَتِهِمْ وَ مَوَاضِعَ مَقَاصِدِهِمْ»، غرر الحكم، ص148.

و في الحديث إرشاد إلى عدم مشاورة الجبان و البخيل و الحريص لعدم موضوعيتهم و ميلهم لسوء الظن، روي أنّ رسول الله صلى الله عليه و آله قال: «يَا عَلِيُّ لاَ تُشَاوِرَنَّ جَبَاناً فَإِنَّهُ يُضَيِّقُ عَلَيْكَ اَلْمَخْرَج،َ وَ لاَ تُشَاوِرَنَّ بَخِيلاً فَإِنَّهُ يَقْصُرُ بِكَ عَنْ غَايَتِك، وَ لاَ تُشَاوِرَنَّ حَرِيصاً فَإِنَّهُ يُزَيِّنُ لَكَ شَرَها،ً وَ اِعْلَمْ أَنَّ اَلْجُبْنَ وَ اَلْبُخْلَ وَ اَلْحِرْصَ غَرِيزَةٌ يَجْمَعُهَا سُوءُ اَلظَّنِّ»، من لا یحضره الفقیه،ج4، ص409.

و أهمية التشاور في أنّه يجعل الآراء و أصحابها ينفتحون على بعض، و يوسع أفق المعلومات، و ينتج عنه مزيد من الخبرة و تمتد التجربة، و يبيّن كثيرا من خفايا و زوايا موضوع الاستشارة، و يلفت إلى مواضع الخداع السياسي و يرشد على مخططات الأعداء و مكرهم مما لا يدركه الإنسان بنفسه دون استشارة فهو إذا يخرج المستشير من الخسارة و الهلاك.

و من آثار التشاور و الشورى و منافعها هي أنّها تكون حماية و إعانة و سند للمستشير «ولا ظهير كالمشاورة»، نهج البلارغة، الحكمة 54، و كذلك نوع حماية للمجتمع من الطغيان فإنّ أصحاب المواقع الرئاسية لهم قابلية الطغيان إن تُركوا دون إرشاد و سماع رأي و نُصح، كما أنّها تعطي أهمية للمستشار أو المستشارين، و تخفف العداوة إن وجدت بين المستشير و المستشار، أو طالب الشورى و مبدي و معطي الرأي.

و الاستشارة تصقل آراء المستشيرين و توصلهم إلى نتائج مرضية، فهي تجلب الراي الأصوب أو الأصلح، و تكشف خفايا و زوايا في موضوع الاستشارة، قال أمير المؤمنين عليه السلام: «خَوَافِي الْآرَاءِ تَكْشِفُهَا الْمُشَاوَرَةُ»، تصنيف غرر الحكم، رقم 10072، كما تحث على تواضع صاحبها و تفتح له علاقات أوسع مع الآخرين، و محبة لديهم، و تخفف حساسية الآخرين من أصحاب الحسد و الانقباض إذ يصبحون جزءا من عملية الاستشارة و تكون نتيجتها بالنجاح هو نجاحهم و بالخسارة خسارتهم، و تقلل حالات الخسارة انتقادات و ملاحظات النّاس، كما تبيّن جواهر و معادن النّاس.

و موضوع الشورى و المشورة و التشاور باب واسع، و به روايات كثيرة، و ذكرت كتب الحديث كوسائل الشيعة للحر العاملي و جامع أحاديث الشيعة للبروجردي عدة أبواب له، و منها:

– باب استحباب مشاورة أصحاب الرأي.

– باب المشاورة و حدودها

– باب مشاورة المؤمن و اتقاء فراسته.

– باب مشاورة الانسان من دونه.

– باب استحباب مشاورة التقى العاقل الورع الناصح الصديق و اتباعه و طاعته و كراهة مخالفته.

– باب ما ورد من النهى عن مشاورة الجبان و البخيل و الحريص و العبيد و السفلة و الفاجر.

– باب وجوب نصح المستشير.

– باب أن المستشار مؤتمن و أن من لم يمحض أخاه النصيحة سلبه الله لبه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *