اجتناب لوم الآخرين و سوء الظن
«فربّ ملوم لا ذنب له»
نهج البلاغة – كتاب 28
محمد جولد الدمستاني
فَرُبَّ مَلُومٍ لَا ذَنْبَ لَهُ، هذه الحكمة جزء من كتاب أرسله أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام إلى معاوية، جوابا على كتابه في قتل عثمان، قال الإمام عليه السلام: «وَ مَا كُنْتُ لِأَعْتَذِرَ مِنْ أَنِّي كُنْتُ أَنْقِمُ عَلَيْهِ أَحْدَاثاً فَإِنْ كَانَ الذَّنْبُ إِلَيْهِ إِرْشَادِي وَ هِدَايَتِي لَهُ فَرُبَّ مَلُومٍ لَا ذَنْبَ لَهُ، وَ قَدْ يَسْتَفِيدُ الظِّنَّةَ الْمُتَنَصِّحُ، وَ مَا أَرَدْتُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَ ما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ»[1].
بمعنى إنّي أقوم بإِرْشادِي و هِدايَتي لَه و لا أُلام على ذلك، فإن اعتبرت ذلك الإرشاد و الهداية ذنب، فَـ «رُبَّ مَلُومٍ لا ذَنْبَ لَهُ»، وها أنا ذا ملوم بلا ذنب عملته، و المعنى واضح و موقف أمير المؤمنين (ع) واضح، و إنّما معاوية يقوم بالمراوغة و الخداع و الدجل، و قد انطلى خداع معاوية على من لا بصيرة له و لا فهم و لا إيمان.
و المعنى العام للحكمة «رُبَّ مَلُومٍ لا ذَنْبَ لَهُ» هو أنّه قد يظهر للناس أمرا يكرهونه و ينكرونه من عمل أحد الأشخاص، و يلومون صاحبه، و هم لا يعرفون حقيقته، و لا يعرفون حجة الفاعل و عذره، و لو عرفوا لبانت لهم الحقيقة و عذروه، و أنّ صاحب الفعل هذا لا يُلام و لا ذنب له، فقد يُلام من لا ذنب له.
و قيل أنّ الأحنف بن قيس صاحب أمير المؤمنين (ع) قال هذه الكلمة «رُبَّ مَلُومٍ لَا ذَنْبَ لَهُ» في مجلسه لرجل قال أنّ أبغض الأشياء عنده التمر و الزبد.
و قريب منه في الشعر أنشد صريع (ت 208هـ):
لعلَّ له عُذراً وأنتَ تلومُ وكم لائمٍ قد لامَ وهوَ مُليمُ
و قال دِعبل الخُزاعي (ت 246هـ):
تأنَّ ولا تعجَل بلَومِكَ صاحِبا لعلَّ له عُذراً وأنتَ تلومُ
و قال ابن المقفع:
فلا تلم المرء في شأنه فرّب ملوم و لم يذنب
و من كلمات أمير المؤمنين في صفات الإنسان الكامل، قوله عليه السلام: «كانَ لي فيما مَضى أخٌ في اللَّهِ … و كانَ لا يَلومُ أحَداً على ما يَجِدُ العُذرَ في مِثلِهِ، حتّى يَسمَعَ اعتِذارَهُ»[2]، تنبيه على ألا يتسرع الإنسان في لوم و عتاب الآخرين حتى يسمع عذرهم و حجتهم، و ألا يصدر منه ردّ فعل كلامي أو عملي دون سماع منهم.
و في تحف العقول و نقل عنه البحار من مواعظ المسيح عليه السلام قوله: «يا عَبيدَ السُّوءِ، تَلومونَ النّاسَ علَى الظَّنِّ، ولا تَلومونَ أنفُسَكُم علَى اليَقينِ؟!»[3].
فإنّ النّاس تستعجل لوم بعضها و هي في حالات من الشك و الظنّ، و لكنها تستثقل لوم نفسها و مراجعة مواقفها و محاسبة أعمالها و هي في حالات اليقين، و لو فعلت لكان أقرب للكمال و أثبت، فإنّ لوم النفس و مراقبتها فيما تفعل و السعي في تقليل أخطاءها أو منعها مع الاستطاعة خطوة في سلّم الصعود إلى مراتب الصالحين.
و إنّ حمل الآخرين على حسن الظن و البحث لهم عن الأعذار و قبول تبريراتهم و مسوغاتهم و إن لم تكن ناهضة هو أصوب و أرشد من اتهامهم أو الإصرار على تخطئتهم أو حملهم على السوء.
و في الكافي روى الكليني عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله: «ضَعْ أَمْرَ أَخِيكَ عَلَى أَحْسَنِه حَتَّى يَأْتِيَكَ مَا يَغْلِبُكَ مِنْه، ولَا تَظُنَّنَّ بِكَلِمَةٍ خَرَجَتْ مِنْ أَخِيكَ سُوءاً وأَنْتَ تَجِدُ لَهَا فِي الْخَيْرِ مَحْمِلًا»[4]، بمعنى لا تستعجل سوء الظن و اللوم و العتاب أو ردود الفعل المستعجلة مع أصحابك و أصدقائك و أخوتك بل اسعى في أن تضع أفعالهم مما لا ترتضيه و لا تقبله ظاهرا و ابتداء على أحسن محامله و وجوهه و احتمالاته، حتى تجتمع لديك قرائن خلاف ذلك مما لا يُوجّه و لا يّبرر فتبني عليه بالتعقل و الحسنى، و القاعدة الأساسية هي حمل أفعال و أقوال الآخرين بالحمل الحسن و الوجه الإيجابي.
و لو أنّ المجتمع كله أو غالبيته كان ينتبه إلى التعاليم الإسلامية و الآداب و الإرشادات الدينية و يطبقها و منها الجانب الاجتماعي بالتعامل بحسن الظن و اجتناب سوء الظن و تهم الآخرين لترقى بدرجات كبيرة اجتماعيا و نفسيا و لأفرز هذا نتائج إيجابية في سلوكه و أعماله.
قال الله تعالى في كتابه الكريم، «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ»[5].
- – نهج البلاغة – كتاب 28 ↑
- – نهج البلاغة – حكمة 289 ↑
- – تحف العقول، ص501، بحار الأنوار، ح14، ص304. ↑
- – الكافي، الكليني، ج2، ص362 ↑
- – سورة الحجرات، آية 12 ↑