04
السعي لطلب الرزق و العمل (أصول الرزق 4-14)
محمد جواد الدمستاني
قال الله تعالى: (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض و ابتغوا من فضل الله و اذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون)[1]، و قال تعالى: (فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه)[2]. و (وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله)[3]. فلابد للعبد من العمل لاستحصال الرزق الذي هو يعيش أساسا في بحبوحته منذ عوالمه الأولى و قبل الخروج إلى الوجود الخارج المستقل من رحم أمه، و لا يتكل على الأحراز و الأذكار وحدها، و لا أن يكون جليس الدار و يقول سيأتيني رزقي كما سيأتيني موتي، فالأرزاق تحتاج إلى مقدمات عمل و جد و كدح و اجتهاد كما تحتاج إلى توفيقات و بركات، و في الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: «فعليكم بالجد والاجتهاد وإذا صليتم الصبح و انصرفتم فبكروا في طلب الرزق، و اطلبوا الحلال فإن الله عز وجل سيرزقكم و يعينكم عليه»[4].
و في كثير من أخبارهم عليهم السلام توبيخ للمتقاعس عن العمل، قال الإمام أبو جعفر عليه السلام: « إنّى أجدني أمقت الرجل يتعذر عليه المكاسب فيستلقى على قفاه و يقول اللهم ارزقني و يدع أن ينتشر في الأرض و يلتمس من فضل الله و الذرة تخرج من جحرها تلتمس رزقها»[5].
و في رواية الإمام الصادق عليه السلام بيان لأهمية طلب الرزق في أحلك الظروف و أصعب الأزمنة، فقد روي عنه عليه السلام: «يا هشام إن رأيت الصفين قد التقيا فلا تدع طلب الرزق في ذلك اليوم»[6]. و في رواية أخرى قال عليه السلام: «إن ظننت أو بلغك أنّ هذا الأمر كائن في غد، فلا تدعن طلب الرزق، وإن استطعت أن لا تكون كلا فافعل»[7].
و قال أمير المؤمنين عليه السلام: «لا تلم إنسانا يطلب قوته، فمن عدم قوته كثر خطاياه»[8].
كما أنّ العمل مقدم على الدعاء، و لا يدع الانسان دون عمل، و في الرواية عن كليب الصيداوي قال: «قلت لأبي عبد الله عليه السلام ادع الله لي في الرزق فقد التاثت علي أموري، فأجابني مسرعا، لا، اخرج فاطلب[9]. و في رواية قريبة قال الراوي: «كنا جلوسا عند أبي عبد الله عليه السلام إذ أقبل العلاء بن كامل فجلس قدّام أبي عبد الله عليه السلام فقال ادع الله ان يرزقني في دعة، فقال لا ادعو لك، اطلب كما امرك الله عز وجل»[10]. و قال الإمام علي (عليه السلام): (الدنيا دول فاطلب حظك منها)[11].
وفي كثير من أحاديثهم عليهم السلام ما يدل على أنّ من ترك طلب الرزق فدعا الله تعالى أن يرزقه لا يستجيب دعاءه، و في كتب الحديث بابٌ في معنى عدم جواز ترك الدنيا التي لا بد منها للآخرة، و ورد في باب من لا يستجاب دعاؤه من أبواب الدعاء قول الإمام الصادق عليه السلام «أربعة لا تستجاب لهم دعوة: رجل جالس في بيته يقول: اللهم ارزقني فيقال له: ألم آمرك بالطلب، و رجل كانت له امرأة فدعا عليها فيقال له: ألم أجعل أمرها إليك، و رجل كان له مال فأفسده فيقول: اللهم ارزقني، فيقال له: ألم آمرك بالاقتصاد، ألم آمرك بالاصلاح، ثم قال: (و الذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما)[12]، و رجل كان له مال فأدانه بغير بيّنة فيقال له: ألم آمرك بالشهادة[13]. و وردت روايات أخرى بأصناف من الناس لا يستجاب لهم كرجل يدعو على والديه و رجل يدعو في قطيعة رحم[14].
وقال الراوي: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): «ما فعل عمر بن مسلم؟ قلت: جعلت فداك أقبل على العبادة و ترك التجارة فقال: ويحه أما علم أن تارك الطلب لا يستجاب له، إنّ قوما من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه و آله) لما نزلت (ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب)[15] أغلقوا الأبواب و أقبلوا على العبادة و قالوا: قد كفينا فبلغ ذلك النبي (صلى الله عليه و آله) فأرسل إليهم، فقال: ما حملكم على ما صنعتم؟ قالوا: يا رسول الله تكفل لنا بأرزاقنا فأقبلنا على العبادة، فقال: إنه من فعل ذلك لم يستجب له، عليكم بالطلب»[16].
و عن أبان عن العلاء قال: «سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول أيعجز أحدكم ان يكون مثل النملة فان النملة تجر إلى جحرها»[17].
و رفع الشارع المقدس الكاد على عياله إلى مرتبة رفيعة فاعتبره كالمجاهد كما في حديث رسول الله فقال صلى الله عليه و آله و سلم: (الكاد على عياله كالمجاهد في سبيل الله)[18].
و روي عنه صلى الله عليه و آله و سلم: (الشاخص في طلب الرزق الحلال، كالمجاهد في سبيل الله)[19].
و يوضّح الإمام الرضا عليه السلام ذلك في الرواية فيجعل مسؤولية الكاد على عياله مسؤولية المجتمع بأسره متمثلة بالإمام كما المجاهد فقال عليه السلام: (من طلب هذا الرزق من حله ليعود به على عياله ونفسه كان كالمجاهد في سبيل الله عز وجل، فإن غلب عليه فليستدن على الله عز وجل و على رسوله ما يقوت به عياله، فإن مات و لم يقضه، كان على الإمام قضاؤه، فإن لم يقضه، كان عليه وزره، إن الله تعالى يقول: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين)[20] فهو فقير مسكين مغرم)[21].
و رويت في هذا الباب عدة روايات بهذا المعنى و بالتشبيه بالمجاهد و أهمية الكاد و الكادح على عياله، و أنّ من ضيّع من يعول فهو آثم، فعن النبي صلى الله عليه و آله أنه قال: «و من سعى في نفقة عياله و والديه فهو كالمجاهد في سبيل الله»[22].
و في فقه الرضا عليه السلام: «و اعلم أن نفقتك على نفسك و عيالك صدقة، و الكاد على عياله من حل كالمجاهد في سبيل الله»[23].
و عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «إذا كان الرجل معسرا فيعمل بقدر ما يقوت به نفسه و أهله، و لا يطلب حراما، فهو كالمجاهد في سبيل الله»[24].
و عن رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم: «و أيّ رجل أعظم أجرا من رجل سعى على عياله صغارا يعفهم و يغنيهم الله به»[25].
و عن أبي جعفر عليه السلام: «من طلب الرزق في الدنيا استعفافا عن الناس، و سعيا على أهله، و تعطفا على جاره، لقي الله عز وجل يوم القيامة و وجهه مثل القمر ليلة البدر»[26].
كما أنّ الهموم في طلب المعيشة من كفارات الذنوب فعن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال: «إنّ من الذنوب ذنوبا لا يكفرها صلاة و لا صوم، قيل يا رسول الله فما يكفرها؟ قال الهموم في طلب المعيشة»[27].
و من الروايات يتضح حرص أهل البيت عليهم السلام للعمل و تحمل مشاقه و هم عليهم السلام نموذج الاقتداء للعبد المسلم، فعن عبد الأعلى مولى آل سام قال: «استقبلت أبا عبد الله (عليه السلام) في بعض طرق المدينة في يوم صايف شديد الحر فقلت: جعلت فداك حالك عند الله عز وجل وقرابتك من رسول الله (صلى الله عليه و آله) و أنت تجهد لنفسك في مثل هذا اليوم ؟ فقال: يا عبد الأعلى خرجت في طلب الرزق لأستغني عن مثلك»[28].
و روى الكليني في الكافي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن محمد بن المنكدر كان يقول: ما كنت أرى أن علي بن الحسين (عليهم السلام) يدع خلفا أفضل منه حتى رأيت ابنه محمد بن علي (عليهما السلام) فأردت أن أعظه فوعظني فقال له أصحابه: بأي شئ وعظك؟ قال: خرجت إلى بعض نواحي المدينة في ساعة حارة فلقيني أبو جعفر محمد بن علي و كان رجلا بادنا ثقيلا و هو متكئ على غلامين أسودين أو موليين فقلت في نفسي: سبحان الله شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا أما لأعظنّه، فدنوت منه فسلمت عليه فرد علي السلام بنهر و هو يتصاب عرقا، فقلت: أصلحك الله شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا أرأيت لو جاء أجلك وأنت على هذه الحال ما كنت تصنع؟ فقال: لو جاءني الموت و أنا على هذه الحال جاءني وأنا في طاعة من طاعات الله عز وجل، أكف بها نفسي و عيالي عنك و عن الناس و إنما كنت أخاف أن لو جاءني الموت و أنا على معصية من معاصي الله، فقلت: صدقت يرحمك الله أردت أن أعظك فوعظتني[29].
و قال الراوي: رأيت أبا الحسن (عليه السلام) يعمل في أرض له قد استنقعت قدماه في العرق فقلت له: جعلت فداك اين الرجال؟ فقال: يا علي قد عمل باليد من هو خير مني في أرضه ومن أبي، فقلت له: و من هو؟ فقال: رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) و أمير المؤمنين و آبائي (عليهم السلام) كلهم كانوا قد عملوا بأيديهم و هو من عمل النبيين و المرسلين و الأوصياء و الصالحين[30].
و عن الشيباني قال: رأيت أبا عبد الله (عليه السلام) و بيده مسحاة و عليه ازار غليظ يعمل في حائط له و العرق يتصاب عن ظهره فقلت: جعلت فداك أعطني أكفك، فقال لي: إنّي أحب أن يتأذى الرجل بحر الشمس في طلب المعيشة[31].
و عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إنّي لأعمل في بعض ضياعي حتى أعرق و إن لي من يكفيني ليعلم الله عز وجل إني أطلب الرزق الحلال[32].
و عن الصادق عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله: ملعون ملعون من ألقى كله على الناس، ملعون ملعون من ضيع من يعول[33].
و عن سدير، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: (أي شئ على الرجل في طلب الرزق؟ قال: إذا فتحت بابك و بسطت بساطك، فقد قضيت ما عليك)[34]. و المعنى أنّه ينبغي على العبد السعي و تهيئة المقدمات و الرزق من الله الرزّاق الكريم.
و من سعادة المرء أن يجعل رزقه على أيدي خيار خلقه فقد قال أبو عبيدة للإمام الصادق عليه السلام: ادع الله لي أن لا يجعل رزقي على أيدي العباد، فقال عليه السلام: أبى الله عليك ذلك إلا أن يجعل أرزاق العباد بعضهم من بعض، و لكن أدع الله أن يجعل رزقك على أيدي خيار خلقه، فإنه من السعادة، و لا يجعله على أيدي شرار خلقه، فإنه من الشقاوة[35].
-
– سورة الجمعة، آية 10 ↑
-
– سورة الملك، آية 15 ↑
-
– سورة المزمل، آية 22 ↑
-
– الكافي – الشيخ الكليني – ج ٥ – ص ٧٩، وسائل الشيعة (آل البيت) – الحر العاملي – ج 17 – ص 22 ↑
-
– من لا يحضره الفقيه – الشيخ الصدوق – ج 3 – ص 158، الذرة هي النملة الصغيرة، و الجحر حفرة الهوام والسباع كالبيت للانسان. ↑
-
– الكافي – الشيخ الكليني – ج 5 – ص 78 ، التهذيب 6: 324 / 892 . ↑
-
– الكافي – الشيخ الكليني – ج 5 – ص 79، وسائل الشيعة (آل البيت) – الحر العاملي – ج 17 – ص 26 ↑
-
– بحار الأنوار – العلامة المجلسي – ج 69 – ص 47 ↑
-
– الكافي – الشيخ الكليني – ج 5 – ص 79، وسائل الشيعة (الإسلامية) – الحر العاملي – ج 12 – ص 11 ↑
-
– الأمالي – الشيخ الطوسي – ص 193، جامع أحاديث الشيعة – السيد البروجردي – ج 17 – ص 10 ↑
-
– الخصال – الشيخ الصدوق – ص 633، بحار الأنوار – العلامة المجلسي – ج 10 – ص 111 ↑
-
– سورة الفرقان، آية 67 ↑
-
– الكافي – الشيخ الكليني – ج 2 – ص 511 ↑
-
– موسوعة أحاديث أهل البيت (ع) – الشيخ هادي النجفي – ج 4 – ص 175-176 ↑
-
– سورة الطلاق، آية 2، 3 ↑
-
– الكافي – الشيخ الكليني – ج 5 – ص 84 ↑
-
– الكافي – الشيخ الكليني – ج 5 – ص 79، وسائل الشيعة (آل البيت) – الحر العاملي – ج 17 – ص 22 ↑
-
– الكافي – الشيخ الكليني – ج ٥ – ص ٨٨، ميزان الحكمة – محمد الريشهري – ج 2 – ص 1074 ↑
-
– بحار الأنوار – العلامة المجلسي – ج 100 – ص 17، مستدرك الوسائل – الميرزا النوري – ج 13 – ص 12 ↑
-
– سورة التوبة، آية 60 . ↑
-
– تهذيب الأحكام – الشيخ الطوسي – ج ٦ – ص ١٨٤، ملاذ الأخيار في فهم تهذيب الأخبار – العلامة المجلسي – ج٩- ص ٤٨٩، تذكرة الفقهاء (ط.ج) – العلامة الحلي – ج 13 – ص 8 ↑
-
– جامع أحاديث الشيعة – السيد البروجردي – ج 17 – ص 12 ، مستدرك الوسائل – الميرزا النوري – ج13- ص55 ↑
-
– فقه الرضا، علي ابن بابويه القمي، ص ٢٥٥، بحار الأنوار – العلامة المجلسي، ج ١٠١- ص ٧٢، جامع أحاديث الشيعة – السيد البروجردي – ج 17 – ص 12 ↑
-
– الكافي – الشيخ الكليني -ج ٥ – ص ٨٨، جامع أحاديث الشيعة – السيد البروجردي – ج 17 – ص 12 ↑
-
– مستدرك الوسائل – ميرزا حسين النوري الطبرسي – ج ١٣- ص ٥٥ و ج ٧، ص ٢٤١، جامع أحاديث الشيعة – السيد البروجردي – ج 17 – ص 13 ↑
-
– الكافي – الشيخ الكليني – ج 5 – ص 78، التحفة السنية (مخطوط) – السيد عبد الله الجزائري – ص 227 ↑
-
– الدعوات (سلوة الحزين)، قطب الدين الراوندي، ص ٥٦، جامع أحاديث الشيعة – السيد البروجردي – ج 17 – ص 11 ↑
-
– الكافي – الشيخ الكليني – ج 5 – ص 74 ↑
-
– تهذيب الأحكام – الشيخ الطوسي – ج 6 – ص 325، الكافي – الشيخ الكليني – ج 5 – ص 73، موسوعة أحاديث أهل البيت (ع) – الشيخ هادي النجفي – ج 4 – ص 179 ↑
-
– الكافي – الشيخ الكليني -ج ٥ – ص ٧٥، موسوعة أحاديث أهل البيت (ع) – الشيخ هادي النجفي – ج 4 – ص 179 ↑
-
– الكافي – الشيخ الكليني -ج ٥، ص ٧٦ – موسوعة أحاديث أهل البيت (ع) – الشيخ هادي النجفي – ج 4 – ص 179 ↑
-
– الكافي – الشيخ الكليني – ج 5 – ص 77 ↑
-
– الكافي – الشيخ الكليني-ج٤ – ص ١٢، من لا يحضره الفقيه – الشيخ الصدوق – ج2 – ص ٦٨، جامع أحاديث الشيعة – السيد البروجردي – ج 17 – ص 14 ↑
-
– الكافي – الشيخ الكليني – ج 5 – ص 79، الوسائل ج 12 ص34، الحدائق الناضرة – المحقق البحراني – ج 18 – ص 6 ↑
-
– تحف العقول عن آل الرسول ( ص ) – ابن شعبة الحراني – ص ٣٦١، مشكاة الأنوار في غرر الأخبار – علي بن الحسن الطبرسي – ص ٢٣٤، بحار الأنوار – العلامة المجلسي – ج 75 – ص 244، موسوعة أحاديث أهل البيت (ع) – الشيخ هادي النجفي – ج5- ص 397، ميزان الحكمة- محمد الريشهري-ج2- ص 1068 ↑