فعل الخير و تحمل مسؤولياته، و الامتناع عن الشرّ و تبعاته
فَعَل فِعْل السادة و فرّ فرار العبيد
محمد جواد الدمستاني
الأصل الذي يجب أن يكون في عمل الإنسان عامة هو فعل الخير و اجتناب الشر، و تحمل مسؤولية ذلك الفعل و عدم التنصل أو التملّص منه و من تبعاته و آثاره، و هي آثار مفيدة لفاعل الخير مهما كانت صعبة. و الخير درجات و الشر و الشرور درجات و الأكمل أن يقوم الإنسان بفعل الخيرات و أرقاها شرفا و درجة و يتجنب الشرور حتى أقلها سوءا.
و في نهج البلاغة روي عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله «فَعَلَ فِعْلَ السَّادَةِ وَ فَرَّ فِرَارَ الْعَبِيدِ»[1]، قال عليه السلام هذا الكلام لمصقلة بن هبيرة الشيباني لما هرب، فقد اشترى مصقلة سبي بني ناجية و أعتقهم، فلما طالبه بالمال خان و غدر و هرب إلى معاوية في الشام، فقال عليه السلام «قَبَّحَ اللَّهُ مَصْقَلَةَ، فَعَلَ فِعْلَ السَّادَةِ، وَ فَرَّ فِرَارَ الْعَبِيدِ، فَمَا أَنْطَقَ مَادِحَهُ حَتَّى أَسْكَتَهُ، وَ لَا صَدَّقَ وَاصِفَهُ حَتَّى بَكَّتَهُ، وَ لَوْ أَقَامَ لَأَخَذْنَا مَيْسُورَهُ، وَ انْتَظَرْنَا بِمَالِهِ وُفُورَهُ»[2].
و رويت أيضا عن أمير المؤمنين عليه السلام «ما لَهُ ؟! تَرَّحَهُ اللّهُ ! فَعَلَ فِعلَ السَّيِّدِ، وفَرَّ فِرارَ العَبدِ، وخانَ خِيانَةَ الفاجِرِ!»[3] و تَرَّحَه اللّه أي أهلكه الله، و التَّرَح ضدّ الفرح.
و كذلك «فعل فعل السادة، وأبق إباق العبيد»[4]، كما في شرح ابن أبي الحديد.
مصقلة اشترى سبي بني ناجية من القائد العسكري معقل الرياحي ثم أطلق سراحهم و هذا عمل حسن و هو شراء العبيد لعتقهم و تحريرهم و يقوم به السادة و الأشراف و أصحاب المروءات فهم من يعتق الرقاب و يحرر العبيد فبهذا الفعل فقد «فَعَلَ فِعْلَ السَّادَةِ»، و كان عليه أن يدفع قيمة شرائه للعبيد و لكنه لم يدفع في قصة مفصلة في كتب التاريخ، و عندما طُولب بالمال دفع قسما منه ثم هرب إلى معاوية، و هذا من شأن العبيد و هو الفرار و الهروب من سادتهم فقد «فَرَّ فِرَارَ الْعَبِيدِ».
بهذا الفعل من شراء العبيد و تحريرهم فقد استحق المدح و الإطراء، لكنه نقضه بفعله الثاني الذي يستحق به الذم و القدح و هو الخيانة و الفرار، فبينما هو يُمدح على فعله الأول إذ أسكته بفعله الثاني، فلم يكد يسمع السامع بفعله الحسن و يبدأ بمدحه و الثناء عليه والإشادة به حتى يسمع خبر فعله البذيء من فراره و هروبه فيقوم بذمه و تقبيحه، «فَمَا أَنْطَقَ مَادِحَهُ حَتَّى أَسْكَتَهُ، وَ لَا صَدَّقَ وَاصِفَهُ حَتَّى بَكَّتَهُ».
و كان مصقلة في غنى عن هذا الفرار و الهروب لأنّه لو أقام بالكوفة لأمهله أمير المؤمنين عليه السلام حتى استطاعته بتأدية ما تبقى من أموال صفقة الشراء و ميسوره، دون خيانة.
و السبي تحرروا دون رجوع إلى الرق ثانية، و في رواية قيل لأمير المؤمنين (عليه السلام) حين هرب مصقلة «اُرْدُدِ اَلَّذِينَ سُبُوا وَ لَمْ يُسْتَوْفَ أَثْمَانُهُمْ فِي اَلرِّقِّ فَقَالَ لَيْسَ ذَلِكَ فِي اَلْقَضَاءِ بِحَقٍّ قَدْ عَتَقُوا إِذَا أَعْتَقَهُمُ اَلَّذِي اِشْتَرَاهُمْ..»[5].
و ليس عجيبا أنّ هذا الفار مصقلة يعترف بفضل أمير المؤمنين (عليه السلام) و إنما غرّته الدنيا و المال حينما لحق بمعاوية، فانضم إلى صفوف الهاربين من عدل علي إلى ظلم معاوية، و أنشد:
وَفَارَقت خير النَّاس بعد مُحَمَّد لمَال قَلِيل لَا محَالة ذَاهِب[6].
و قيل أنّ أخاه نعيم هو الذي كتب له شعرا تضمن هذا البيت كنوع توبيخ و تقريع و ارسله له بالشام.
مصقلة هذا و بعد ما استشهد أمير المؤمنين (ع) ولاّه معاوية طبرستان، و أرسله إليها بجيش كبير فأخذ العدوّ عليه و على جيشه من جميع الجوانب فقتلوهم عن آخرهم، و هلك مصقلة، فضرب الناس به المثل، فقالوا «حتى يرجع مصقلة من طبرستان»، و يناسب ضرب المثل حين اليأس من حصول أمر ما، و منه اليأس من رجوع المسافر.
و يصلح أن يكون هذا الكلام أو الحكمة «فَعَلَ فِعْلَ السَّادَةِ وَ فَرَّ فِرَارَ الْعَبِيدِ»، مثلا لمن يعمل فعلا حسنا من أفعال الشرفاء و النبلاء و أهل المروءات، ثم مباشرة يعمل فعلا سيئا من أفعال الخيانة و الغدر أو الحقارة و الخسة، فيمحو فعلَه الأول الحسن بفعله الثاني السيئ، و ينسخ الثاني بقبحه الأولَ بحسنه، فيذكر النّاسُ صاحبَه بقبح و ذم و ازدراء.
و في الحكمة إرشاد إلى فعل الخير و التمسك به و عدم الانحراف إلى قبيح الأعمال و شرورها، و هذا توجيه و نصيحة لكل النّاس مع اختلاف أعصارهم و أزمنتهم، و فيها أيضا عدم الاغترار بالدّنيا و الهرولة نحو سراب الرفاه و الغنى على حساب القيم و المبادئ و الدين كما يفعل بعض ممن أعمتهم و أغرتهم الدّنيا ببهرجها فيذهبون و يصطفون و يناصرون جهة الباطل طمعا في فتات أموالها، و يقتاتون من فضلاتها.
و ليس مصقلة سوى أحدهم و ذنبه أعظم إذ خان عليا و هرب من عدله و كان عاملا له عليه السّلام على اردشير خرة، مع استطاعته من تقسيط دينه و تأخيره إلى ميسوره، و قدرة قبيلته على ردّه مع عجزه لو أراد ذلك كما اقترح عليه أحدهم، و لكن طمع الدّنيا أخذه إلى حيث الباطل و لم يلبث إلا قليلا و هلك مع جيشه حاملا معه وزره و وزر خيانته و فراره.
-
– نهج البلاغة – باب الخطب – خطبة 44 ↑
-
– نهج البلاغة – باب الخطب – خطبة 44 ↑
-
– الغارات، إبراهيم بن محمد الثقفي الكوفي، ج١، ص ٣٦٦ ↑
-
– شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد ، ج ١٠، ص ٢٥١ ↑
-
– بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج33، ص405 ↑
-
– مروج الذهب ومعادن الجوهر، المسعودي، ج٢، ص ٤٠٨ ↑