النّاس جواهر و معادن
«في تقلب الأحوال علم جواهر الرجال»
يتعامل النّاس مع بعضهم في المجتمعات و يتعاونون و يتضامن بعضهم مع بعض و يتساعدون و لكن بدرجات متفاوتة من شخص إلى آخر، و لا يعرف جوهر الرجال و معادنهم في حالات الرخاء و الرفاه و إنّما يُعرفون في الأزمات و في حالات تحوّل السعة و الضيق، و و تبدّل اليسر و العسر، و حلول المصائب و الشدائد و الابتلاءات، و عند تقلّب الأحوال و الحكمة لأمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة «فِي تَقَلُّبِ الْأَحْوَالِ عِلْمُ جَوَاهِرِ الرِّجَالِ»
[1].
فأحد مواطن معرفة النّاس هي في حالة تقلّب أحوال الدّنيا و تبدّل الدهر و تغير نمط الحياة على الإنسان من غنى و فقر، و صحة و مرض، شدائد و مكاره ، و صعوبات و رفاه، أو حالات رئاسة، قدرة، نفوذ، ربح، خسارة ،حينها يُعلم جواهر الرجال و حالهم و حقيقتهم و طبيعتهم، و هل هو حسن أو قبيح، صابر أو جازع، يتحمل المسؤولية أو يفر أو يتملص منها، فالمتغيرات مطلقا في حياة الإنسان الشخصية و المادية و الاجتماعية و السياسية هي التي تكشف حقيقته و جوهره و إنسانيته و مدى التزامه الإنساني و الأخلاقي و الديني.
و هذه الحكمة من خطبته عليه السلام المعروفة بخطبة الوسيلة و هي طويلة و فيها «فِي تَقَلُّبِ الأَحْوَالِ عِلْمُ جَوَاهِرِ الرِّجَالِ والأَيَّامُ تُوضِحُ لَكَ السَّرَائِرَ الْكَامِنَةَ»[2]، فالأيام و الزمن يبيّن ما يخفيه الإنسان في نفسه و يكتمه، و السرائر جمع سريرة، أمّا الرفقة القصيرة فقد لا يكون لها سعة في كشف جواهر النّاس.
و جواهر جمع جوهر استعاره عليه السلام اللفظ لبيان أنّ النّاس مراتب في حقيقتهم و أخلاقهم و معاملاتهم كما أنّ الجواهر متعددة من نفيس و رخيص و ما بينهما، و المعنى في لفظ جواهر يميل إلى الاستعمال الإيجابي و هو مفهوم مشكك و به درجات متفاوتة في الجودة و القيمة، و جوهرة الرجال أي خير الرجال و أحسنهم.
تقلّب الأحوال و تغير ظروف الإنسان كأن يصبح غنيا بعد فقر له قابلية قوية للتغيير و التعامل مع الآخرين، فإنّ من الأغنياء – إذا فقدوا التحكم بأنفسهم – الاتصاف بالترفع و التكبر و التسلط، و استصغار الآخرين، و رؤية أنفسهم أفضل من غيرهم و قد يطغون، قال الله تعالى: «كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ»[3].
و من الفقراء من يفشل في البلاء و يسقط في الامتحان، و عوض الصبر و الدّعاء بالنجاة يؤول أمره إلى اليأس و القنوط أو حتى الكفر، فهذا جوهره، أو درجته و مرتبته.
و في حديث رسول الله صلى الله عليه و آله «يَا عَلِيُّ لَأَنْ أُدْخِلَ يَدِي فِي فَمِ اَلتِّنِّينِ إِلَى اَلْمِرْفَقِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَسْأَلَ مَنْ لَمْ يَكُنْ ثُمَّ كَانَ»[4]، لحصول التغييرات على الشخصيات التي كانت ضعيفة فأصبحت ذات قوة أو مال، فإن كان فقيرا معدما فأصبح غنيا ثريا يُخشى عليه من صفات البخل و الخسة و الطمع، و إن كان ضعيفا فأصبح ذو قوة يُخشى عليه من التمرد و سوء استخدام القوة و الطغيان بل و سفك الدماء، و في التاريخ كما في الحاضر تتوفر أمثلة و مصاديق تنطبق على كلام رسول الله صلّى الله عليه و آله.
و من المشاهدات الاجتماعية بين البشر يوجد من إذا ترقّوا في وظائفهم و مناصبهم دفعة واحدة، فانتقل من الحالة الاجتماعية الضعيفة أو البسيطة أو من متوسطي الطبقات إلى الطبقات العليا و إلى مسؤول كبير أو وزير أو منصب عالي فإن لم يكن بتمام عقل و قوة إيمان فإنّه ينجرف بالترفع و ينحرف إلى التكبر و الأنفة، فهذه مرتبته و جوهره.
و من النّاس من يصل إلى درجة من الإيمان و المعرفة و العرفان و هو إذ ذاك تقوم الدّنيا له إذا قام و تجلس إذا جلس، يتصدر نشرات الأخبار و مواضيع الأنباء، و تلهج بذكره ألسنة النّاس، لا يزيده قيامهم عظمة و لا ينقصه جلوسهم ذلة، و لا تحرك منه شعرة واحدة، فالنّاس جواهر و معادن متعددة تعرفهم في تقلّب أحوالهم.
و ذكرت في روايات أمير المؤمنين عليه السلام عدة أمور لها قابلية أن يتغير فيها الإنسان و يُمتحن فيها، و منها:
– الرئاسة و الولاية فهي أحد مواقع التغيير، قال عليه السلام:
«الوِلَايَاتُ مَضَامِيرُ الرِّجَالِ»[5].
– و منها صيرورة الإنسان في موقع نفوذ و قدرة فهي من مواضع الامتحان و مواطن الاختبار و لها قابلية التغيير:
«الْقُدْرَةُ تُظْهِرُ مَحْمُودَ الْخِصَالِ وَ مَذْمُومَهَا»[6].
– و القرب من أصحاب النفوذ و الغنى و الولاية فإنّ لها قابلية بتغير أحوال الإنسان، قال عليه السلام:
«الْمَرْءُ يَتَغَيَّرُ فِي ثَلَاثٍ: القُرْبِ مِنَ الْمُلُوكِ وَ الْوِلَايَاتِ وَ الْغَنَاءُ مِنْ [بَعْدِ] الْفَقْرِ فَمَنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ فِي هَذِهِ فَهُوَ ذُو عَقْلٍ قَوِيمٍ وَخُلُقٍ مُسْتَقِيمٍ»[7].
– و المصائب و المعاملات و المصاحبات من مواقع الامتحان و التغيير:
«ثَلَاثٌ يُمْتَحَنُ بِهَا عُقُولُ الرِّجَالِ هُنَّ الْمَالُ وَ الْوَلَايَةُ وَ الْمُصِيبَةُ»[8].
«سِتَّةٌ تُخْتَبَرُ بِهَا عُقُولُ الرِّجَالِ المُصَاحَبَةُ وَ المُعَامَلَةُ وَ الوِلَايَةُ وَ العَزْلُ وَ الغِنَى وَ الفَقْرُ»[9].
– و الحالات النفسية موضع اختبار للإنسان و تظهر معادن الرجال:
«سِتّةٌ تُختَبَرُ بها أخلاقُ الرِّجالِ : الرِّضا، و الغَضَبُ، و الأمنُ، و الرَّهَبُ، و المَنعُ ، و الرّغَبُ»[10].
و روي عنه عليه السلام «سِتَّةٌ تُخْتَبَرُ بِهَا عُقُولُ اَلنَّاسِ: اَلْحِلْمُ عِنْدَ اَلْغَضَبِ، وَ اَلْقَصْدُ عِنْدَ اَلرَّغَبِ، وَ اَلصَّبْرُ عِنْدَ اَلرَّهَبِ، وَ تَقْوَى اَللَّهِ فِي كُلِّ حَالٍ، وَ حُسْنُ اَلْمُدَارَاةِ، وَ قِلَّةُ اَلْمُمَارَاةِ»[11].
فمن لم يتغير في مواقع التغيير و ثبت على أحواله مع تقلبات الدهر و تغيرات الحياة، فإنّه ذو عقل سليم و خلق كريم، و من صفات المؤمن الثبات و السكينة و يليق به و يحسن من أحواله أنّه «وَقُوراً عِنْدَ اَلْهَزَاهِزِ، صَبُوراً عِنْدَ اَلْبَلاَءِ، شَكُوراً عِنْدَ اَلرَّخَاءِ، قَانِعاً بِمَا رَزَقَهُ اَللَّهُ»[12]، كما قال الإمام الصادق عليه السلام.
-
– نهج البلاغة ، حكمة 217 ↑
-
– نهج البلاغة، خطبة 108 ↑
-
– سورة العلق، آية 6-7 ↑
-
– من لا یحضره الفقیه، الصدوق، ج4، ص352، مکارم الأخلاق، الطبرسي، ص 433 ↑
-
– نهج البلاغة، حكمة 441 ↑
-
– غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد الآمدى التميمي، ص ٦١ ↑
-
– غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد الآمدى التميمي، ص ١٢٢ ↑
-
– غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد الآمدى التميمي، ص ٣٣٠ ↑
-
– غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد الآمدى التميمي، ص 401، عيون الحكم والمواعظ – علي بن محمد الليثي الواسطي – ص284 ↑
-
– عيون الحكم والمواعظ – علي بن محمد الليثي الواسطي – ص286 ↑
-
– غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد الآمدى التميمي، ص 401، عيون الحكم والمواعظ – علي بن محمد الليثي الواسطي – ص286 ↑
-
– الکافي، الكليني، ج2، ص47، الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام «يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ ثَمَانِي خِصَالٍ وَقُوراً عِنْدَ اَلْهَزَاهِزِ صَبُوراً عِنْدَ اَلْبَلاَءِ شَكُوراً عِنْدَ اَلرَّخَاءِ قَانِعاً بِمَا رَزَقَهُ اَللَّهُ لاَ يَظْلِمُ اَلْأَعْدَاءَ وَ لاَ يَتَحَامَلُ لِلْأَصْدِقَاءِ بَدَنُهُ مِنْهُ فِي تَعَبٍ وَ اَلنَّاسُ مِنْهُ فِي رَاحَةٍ إِنَّ اَلْعِلْمَ خَلِيلُ اَلْمُؤْمِنِ وَ اَلْحِلْمَ وَزِيرُهُ وَ اَلْعَقْلَ أَمِيرُ جُنُودِهِ وَ اَلرِّفْقَ أَخُوهُ وَ اَلْبِرَّ وَالِدُهُ». ↑