لا تستح من إعطاء القليل فان الحرمان أقل منه
محمد جواد الدمستاني
حث و ترغيب من أمير المؤمنين عليه السلام للبذل و العطاء و إن صغر المبذول، وعدم الخجل أو الاستهانة و الاستخفاف ببذل القليل، فالقليل شيئ و هو أفضل من لا شيء، قال عليه السلام «لَا تَسْتَحِ مِنْ إِعْطَاءِ الْقَلِيلِ فَإِنَّ الْحِرْمَانَ أَقَلُّ مِنْهُ»[1].
و هذا الترغيب و التحبيب بإعطاء القليل و إن صغر و عدم الخجل و الحياء منه لأنه أكبر و أفضل من عدم العطاء و أفضل من المنع ، فالمنع و الحرمان أقلّ و أصغر من إعطاء القليل.
و مثله في حكمة في نهج البلاغة في قوله عليه السلام: «افْعَلُوا الْخَيْرَ وَ لَا تَحْقِرُوا مِنْهُ شَيْئاً فَإِنَّ صَغِيرَهُ كَبِيرٌ وَ قَلِيلَهُ كَثِيرٌ»[2].
ثم أن العطاء هو نسبي و يختلف في تقديره بين الأفراد، فقد يكون القليل بحساب المعطِي هو يسير و طفيف و لكنه بحساب صاحب الحاجة كثير و كبير.
كما أنّ القليل يتجمع ليصبح كثيرا، مثل زكاة الفطرة التي هي ثلاث كيلوات من الطعام أو قيمتها عن الشخص الواحد و هو مبلغ في نفسه صغير و لكن المجموع مبلغ عظيم جدا و يسد حاجات كثيرا من العائلات الفقيرة و المتعففة.
فلا ينبغي التوقف أو التردد في البذل و العطاء و إن كان قليلا بل هو مطلوب مع عدم القدرة على الزيادة و لا مشكلة فيه و لكن المشكلة في عدم البذل وعدم العطاء و الحرمان.
و إنّ البذل و العطاء و إن كان قليلا و لكنه يأخذ أثره النفسي و الاجتماعي على أطرافه المعطِي و المعطَى و المجتمع و من كلام الإمام عليه السلام «اِحْتَجْ إِلَى مَنْ شِئْتَ تَكُنْ أَسِيرَهُ، وَ اِسْتَغْنِ عَمَّنْ شِئْتَ تَكُنْ نَظِيرَهُ، وَ أَفْضِلْ عَلَى مَنْ شِئْتَ تَكُنْ أَمِيرَهُ»[3].
و مفهوم الحكمة ينصرف إلى المال و الأموال أو الماديات و لكن مع الاطلاق و التوسع في المعنى يمكن تعديتها إلى كل المجالات الإيجابية الأخرى فهو يشمل الاجتماعية و العبادية و الجهادية و العلمية و الاقتصادية و السياسية و غيرها.
و المعنى في قليل الأعمال الاجتماعية هو ألا يستحي الإنسان من تقديم أي خدمة اجتماعية أو منفعة للناس مهما كانت بسيطة و صغيرة فإن الحرمان و عدم تقديم أي خدمة أو منفعة أقل منه، و مصاديق الخدمات الاجتماعية و الأعمال الخيرية واسع في الحياة.
و لا تستح من الكلام الحسن الجميل مع النّاس و إن كان قليلا فهو خير من الحرمان و الجفاء و الجفاف مع النّاس، فعدم الكلام الحسن هو حرمان و أقل من الكلام الحسن.
و قد يقوم الإنسان بنصيحة بسيطة أو بتقديم مشورة صغيرة و لكن أثرها العملي كبير.
و المجالات العلمية و التعليمية فلا تستحي من تقديم و تعليم قليل العلم للنّاس فهو أفضل من الحرمان بعدم تقديم أيّ شيئ منه، أي إخراج زكاة العلم و إن كان قليلا، «زكاة العلم تعليمه من لا يعلمه»[4].
و هكذا في المجالات الأخرى، ففي العبادة الأفضل أن يقوم المؤمن بالواجبات و المستحبات الممكنة، و لكن قليل العبادة و الاقتصار على الواجبات دون المستحبات خير من عدم العبادة، و قليل المستحبات خير من عدمها.
و بالإجمال كقاعدة عامة في المعنى العام للحكمة هو ألا يستحي الإنسان من فعل الخير في كل المجالات و إن كان قليلا فهو خير و أفضل من عدم فعله.
و الحكمة تتضمن معنى أنّ البذل و العطاء ليس خاصا بمجموعة الأغنياء و الأثرياء و التجار، بل هو من كل الناس، كلٌ حسب طاقته و قدر استطاعته، قال الله تعالى: «لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّـهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّـهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا ۚ سَيَجْعَلُ اللَّـهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا»[5].
و ربّ قليلٍ يكون عند الله تبارك و تعالى أفضل من كثير و روي عن أمير المؤمنين عليه السلام في غرر الحكم «جُودُ الْفَقِيرِ أَفْضَلُ الْجُودِ»[6].
و إنّ الله سبحانه و تعالى يبارك و ينمي قليل الخير حتى يصبح عظيما و في الحديث عن النبي صلّى الله عليه و آله: «فَتَصَدَّقُوا وَ لَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، وَ اِتَّقُوا اَلنَّارَ وَ لَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَإِنَّ اَللَّهَ (عَزَّ وَ جَلَّ) يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ أَوْ فَصِيلَهُ حَتَّى يُوَفِّيَهُ إِيَّاهَا يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ، وَ حَتَّى تَكُونَ أَعْظَمَ مِنَ اَلْجَبَلِ اَلْعَظِيمِ»[7].
و جاء في البحار حول أمير المؤمنين عليه السلام «وَنَظَرَ إِلَى فَقِيرٍ انْخَرَقَ كُمُّ ثَوْبِهِ فَخَرَقَ كُمَّ قَمِيصِهِ وَأَلْقَاهُ إِلَيْهِ»[8].
و روي فيما علّمه أمير المؤمنين عليه السلام أصحابه «وَ قَدِّمُوا مَا اِسْتَطَعْتُمْ مِنْ عَمَلِ اَلْخَيْرِ تَجِدُوهُ غَداً»[9].
و روي عن النبي صلى الله عليه و آله عدد من الأخبار بهذا المعنى و المضمون من عدم ترك القليل و عدم سقوطه لعدم القدرة على ما هو أكثر منه، ففي الخبر عن رسول الله صلّى الله عليه و آله «مَا لاَ يُدْرَكُ كُلُّهُ لاَ يُتْرَكُ كُلُّهُ»[10]، و «لاَ يُتْرَكُ اَلْمَيْسُورُ بِالْمَعْسُورِ»[11]، و «فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اِسْتَطَعْتُمْ وَ إِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ»[12].
و إليها يُستند في القاعدة الفقهية «لا يسقط المعسور بالميسور» و التي معناها العام هو عدم سقوط التكليف عما تيسر منه إذا تعذر إتيان المأمور كاملا، و يناقشها الفقهاء بتفصيل واسع.
-
– نهج البلاغة – حكمة 67 ↑
-
– نهج البلاغة – حكمة 422، (افْعَلُوا الْخَيْرَ وَ لَا تَحْقِرُوا مِنْهُ شَيْئاً، فَإِنَّ صَغِيرَهُ كَبِيرٌ وَ قَلِيلَهُ كَثِيرٌ). ↑
-
– الإرشاد، ج ١، الشيخ المفيد، ص ٣٠٣، الخصال، الشيخ الصدوق، ص ٤٢٠ (اُمْنُنْ عَلَى مَنْ شِئْتَ تَكُنْ أَمِيرَهُ وَ اِحْتَجْ إِلَى مَنْ شِئْتَ تَكُنْ أَسِيرَهُ وَ اِسْتَغْنِ عَمَّنْ شِئْتَ تَكُنْ نَظِيرَهُ). ↑
-
– عدة الداعي ونجاح الساعي، ابن فهد الحلي، ص ٦٣ ↑
-
– سورة الطلاق، آية 7 ↑
-
– غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد الآمدى التميمي، ص ٣٣٦ ↑
-
– الأمالي، الشيخ الطوسي، ص ٤٥٨ ↑
-
– بحار الأنوار، المجلسي، ج40، ص323 ↑
-
– الخصال، الصدوق، ج2، ص610 ↑
-
– عوالي اللئالي – ابن أبي جمهور الأحسائي – ج ٤ – الصفحة ٥٨، أورد الخبر عن النبي صلّى الله عليه و آله. ↑
-
– عوالي اللئالي، ابن أبي جمهور الأحسائي، ج٤، ص٥٨ ↑
-
– بحار الأنوار، المجلسي، ج22، ص31 ↑