الإسلام ومجال أشتغالاته في السياسة (7 )
قدمنا في الحلقات السابقة فلسفة الإسلام في السياسة , ووضحنا مرتكزات نظريته في النظام السياسي , التي تمثلت في القواعد الكلية في الفقه السياسي , والمنظومة القيمية الأخلاقية , أضافة الى الأيمان بالثواب والعقاب كأطار يحرس الفاعل السياسي من أي حالة تجاوز لهذه القواعد . في هذه الحلقة نقدم تجربة الإمام علي (ع) كأنموذج عملي لهذه الفلسفة السياسية , ولعل البعض يسأل لماذا علي (ع) وليس الرسول محمد(ص) بأعتباره هو المتلقي الأول للوحي , وصاحب أول حكومة أقامها على أساس الإسلام , الجواب أن رسول الله (ص) كان هو المتلقي للوحي , والفاهم للنص المقدس بتمام معناه , ومنتهى مقصده , وبرعاية الوحي , أما علي (ع) فقد عمل وفق أجتهاده بالنص , وكحالة تطبيقية أنسانية لا تدخل فيها للوحي , وأنما أعتمد على أجتهاده للنص , ومدى فهمه له فجاءت حكومته التي برزت فيها معالم فلسفة الإسلام السياسية , والتي أصبحت مرجعاً تُحتذى بهاالتجارب التي يمكن أن تأتي من بعده , كنظرية عمل في عالم السياسة بمنظور ديني أسلامي , كما أنه جعل من تجربة الرسول (ص) مرجعية له , فتجربته كانت أنسانيه بعيدة عن حراسة ومتابعة الوحي.
أمتدت فترة حكم الإمام في أدارة حكمه للدولة الإسلامية من 35-40 هجرية فكانت بالضبط أربع سنوات وتسعة أشهر وثلاث أيام . كان ترشيحه للخلافة بطريقة جماهيرية عامة , وهو يؤمن بالشورى كطريق يُنتخب به الحاكم لأدارة الحكم , وهو القائل (…وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار , فإن أجتمعوا على رجل وسموه إماماً كان ذلك لله رضى ) . كان الأمام علي (ع) يؤمن أن لابد للناس من أمير ينظم شؤونهم , ويحقق أمنهم , ويرعى مصالحهم , وهي حالة نزعت أليها الأنسانية منذ أن بلغت رشدها , وأعتبرتها ضرورة أنسانية لابد منها , وفي هذا الصدد يقول الإمام (ع) (لابد للناس من أمير بر أو فاجر , يعمل في إمرته المؤمن ويستمتع فيها الكافر , ويبلغ الله فيها الأجل , ويجمع فيها الفيء, ويقاتل بها العدو , وتأمن به السبل, ويؤخذ به للضعيف من القوي , حتى يستريح بر , ويستراح من فاجر)(ميزان الحكمة/محمد الريشهري ج1 ص98 ) , فالإمام أعتبر القيام بمهمة الإمارة واجباً كفائياً , لا يمكن التخلي عنها عند الضرورة القصوى لخطورتها , وعظيم شأنها , ومدى حساسيتها , وعظيم خطورتها , فأن تُركت فارغةً , ستكون مطية سهلة لأصحاب المصالح والأهداف الهدامة , وهذا هو ما جعله يقبل بالمهمة الصعبة , حيث قال (أما والذي فلق الحبة و وبرأ النسمة , لولا حضور الحاضر , وقيام الحجة بوجود الناصر , وما أخذ الله على العلماء أن لايقاروا على كظة ظالم , ولاسغب مظلوم , لألقيت حبلها على غاربها, ولسقيت آخرها بكأس أولها)(شرح نهج البلاغة-ابن أبي الحديد-ج1 ص202 ) . فالإمام أعطى درساً لم يسبقه أليه أحد بأن تولية الحكم ليس رغبةً ونزعة للسلطة والتفرد والأستحواذ على مقدرات بني البشر , بل وظيفة أنسانية تُقدم من خلالها الخدمة للناس , في رعاية شؤونهم , وفي توفير أسباب تقدمهم , والحفاظ على كرامتهم , عن طريق منع التنازع فيما بينهم , وحماية الضعيف أمام القوي منهم , فهو أمتنع عندما طُلب أليه الرئاسة , فهو كان غير راغب بها , في وقت كان هناك من يتكالب عليها , ومستعد أن يشن الحروب , ويملء السجون من أجل الفوز بها , لأن الإمام كان يعتبر الحكم وسيلة وليس غاية , لذا قال لهم (دعوني وألتمسوا غيري , فأنا لكم وزيرا خير مني لكم أميرا ) وقال لهم أتركوني فأنا كأحدكم , بل أنا أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم)(شرح أبن أبي الحديد-ج1-ص169 ) . يتضح لنا أن الإمام (ع) أن الأمير هو من تأتي به الأمة , وهو واجب كفائي , ووظيفة تمنحه الأمة صلاحية أدارتها , فكان معرضاً عنها, وغير ميال أليها , فهو القائل لأبن عباس , وهو يخصف بنعله في ذي قار (ماقيمة هذه النعل؟ فقلت لاقيمة لها, فقال : والله لهي أحب إلي من إمرتكم إلا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً)(نهج البلاغة شرح )(جواهر التاريخ- الشيخ علي الكوراني العاملي/ج3 ص143 ). في هذه الدراسة أخذنا بتجربة علي (ع) لأن علي هو الأقرب فهماً للقرآن الذي يمثل النص , الذي هو مصدر معظم القواعد الكلية الفقهية , وأيمان علي وأخلاقة هي الأخرى من ترشحه لتمثيل هذه المهمة أفضل تمثيل بعد تجربة النبي (ص) , كيف لا ورسول الله قال فيه عن أبن مسعود (من أراد أن ينظر الى آدم في علمه, والى نوح في حكمته , والى إبراهيم في حلمه, فلينظر الى علي بن أبي طالب ) , وروى الترمذي عن حبشي بن جنادة , قال رسول الله (ص)(علي مني وأنا من علي ولايؤدي عني إلا أنا أو علي ) وعن أبن عباس , قال رسول الله (أنا مدينة العلم وعلي بابها ,فمن أراد العلم فليأت الباب)(المجلسي ج40 ص203 ) . كل هذه الأسباب أعلاه , لما يتمتع به علي بن أبي طالب من علم ومعرفة , وتجربة حكم , وأيمان وأخلاق , وما قاله الرسول (ص) فيه هي من جعلتنا نرشح تجربته في الحكم كأنموذج للنظالم السياسي في الأسلام .
من خلال الدخول الى تجربة الإمام علي (ع) في الحكم , علينا أن نُشير الى مدى تطبيقه للقواعد الكلية للفقه السياسي الإسلامي , وما رافقها من معززات أخلاقية , ومعضدات أيمانية ضامنة في تفعيل هذه الكليات في عمل الدولة ,يكون من الضروري الأشارة الى تجربة الأمام علي (ع) بأنها ستكون تجربة معيارية بالنسبة لغيرها , يمكن القياس عليها , وذلك بما للأمام من منزلة في الأسلام , وبحكم قربه من تجربة الرسول (ص) الزمنية والفكرية , ولاننسى أن التجربة من الناحية الفنية ترتبط بالواقع التاريخي والسسيولوجي لذلك المجتمع , بالأضافة الى طبيعة التطور التقني لذلك الزمن , وما يفرضه من ظروف على الممارسة السياسية , كما علينا أن نأخذ بنظر الأعتبار حداثة المجتمع آنذاك بالأسلام , وما رافق بعد وفاة النبي من هزات وتحولات أجتماعية , وسياسية , وكذلك بما يحمله المجتمع من موروث بدوي لازالت لم تنجلي آثاره . أمام هذه الصورة المعتمة , والصعبة كان أمام الأمام علي بن أبي طالب (ع) أن يبني نظام سياسي بطريقة تستوحي من أسس هذا الدين , وروحه وأخلاقه . لقد أصبح الأمام أمام واقع بأمس الحاجة الى تغير جذري لا مجال لغض النظر عنه , فلم يكن له خيار غير الثورة الأدارية , يكون رجالها من الكادر المتقدم في الإسلام , ومن أصحاب الكفاءة والأمانة الأدارية والمالية . أنها ثورة تغير , تحتاج الى أدوات نظيفة وكفوءة ومخلصة , في حين كان عهده يعج برجال سياسة ذوي نزعة مادية , ولهم أهداف ورؤى قبلية وجاهية , تتسم بالنزعة التسلطية , لاتهمهم المباديء بقدر ماتهمهم المصالح الشخصية والعائلية والعشائرية المتصارعة على تبوء المناصب , وأن كلف ذلك تجيش الجيوش , وقتل النفوس . فالواقع كان ثقيلاً على حد سواء في الطبقة السياسة والشعبية , كما أستلم تركة ثقيلة من الأداريين والسياسيين ممن تبوءوا مكانة بسبب المحسوبية والمنسوبية , وكلنا يعرف كيف كان الخليفة عثمان بن عفان يستخدم موقعه بالسلطة في توزيع المناصب والأموال الى بني أمية , وهذه كانت من أهم أسباب ثورة الجماهير الشعبية عليه وقتله وأسقاط حكومته بعمل عنفي راح ضحيته الخليفة , وكانت السبب في فتنة لازالت آثارها الى الآن يستعر آوارها . فالإمام كان أمام مخلفات حكم ذهب , وأستحقاقات وضع جديد تنادي به الجماهير الثائرة , فليس أمام الإمام ألا قيام حكم يقوم على أُسس الإسلام بعيداً عن القبائلية والمناطقية , والمجافي لكل حكم ذو صفة أمبراطورية ملكية , والعمل أولاً على أستتباب الوضع السياسي , وأزاء ذلك ما كان منه إلا أزاحة الطبقة السياسية الفاسدة , وهنا قرر الإمام في بداية أستلامه للسلطة أقالة الكثير ممن لا تتوفر بهم النزاهة والأخلاص , فعمل على أقالة معاوية بن أبي سفيان من ولاية الشام الذي تبوء منصبه فيها منذ خلافة أبو بكر الصديق وأمتدت الى زمن خلافة علي (ع) , كما عمد علي (ع) الى أرسال عثمان بن حنيف , بدل عبد الله بن عامر , وأقال مروان بن الحكم , وعبد الله بن أبي سرح, والوليد بن عقبة , ويذكر التاريخ ماشكته سودة بنت عمارة الهمدانية عن جور وقع عليها من أحد ولاته , فدفع لها بكتاب جاء فيه (…ولاتبخسوا الناس أشياءهم , ولاتفسدوا في الأرض.. إذا قرأت كتابي هذا فأحتفظ بهفي يدك ..حتى يُقدم عليك من يقبضه والسلام , كما أنه عزل الضعفاء منهم , ومثال ذلك محمد بن أبي بكر, فعل الأمام ذلك ليختار مايراه ملائماً لتحقيق الأنسجام الإداري والسياسي بينه وبين عماله , فقد قُدمت له نصيحة من المغيرة بن شعبة لتأجيل أقالة معاوية من ولاية الشام الى أن يستتب الأمر له , ولكن الأمام يعمل لمرحلة تأسيسية يُقاس عليها ما بعدها , وكان بعيد النظر , لكي لاتكون لغيره من بعده سنة يبني عليها في مهادنة ظالم وفاسد من الولاة فتكون حجة لهم , فالإمام تميزت سياسته بالوضوح والشفافية , وعدم القبول بأنصاف الحلول , فكان يقول (ماكنت متخذ المضلين عضدا)(الكهف:51 ), لأن الأمام (ع) يؤمن أن الثورة الأدارية الجديدة تحتاج الى أدوات جديدة تتوافق والسياسة الجديدة للحاكم , فهو يحتاج الى رجال تتوافق رؤاهم ونظامه السياسي الجديد , لذا نراه يرفض طلب طلحة والزبير عندما طالباه بالولاية على البصرة والكوفة , وكان هذا الرفض ثمنه أنضمامهم الى جبهة الخصوم في حرب الجمل . أذن أول خطوة له هو أقالة الفاسدين والضعفاء من الولاة , وهي خطوة تسبق تنفيذ الثورة الأدارية الجديدة , لذا كان معيار الإمام في أختياره لولاته بأن يكونوا ممن لهم سابقة بالأسلام (أي ممن يؤمنون بالنظام الجديد) , ويتصفون بالتقوى , والكفاءة والنزاهة, حتى أن التاريخ لم يذكر أنه نصب ولداً له على أحد أقاليم دولته الشاسعة الأطراف, بعد ذلك بدأ بما يأتي :
1-أسترداد الأموال المسروقة , وأرجاعها الى بيت المال , فقد خطب في اليوم الثاني من بيعته بالمدينة ( كل مال مردود الى بيت المال …فإن الحق القديم لا يبطله شيء (أي لا يسقط بالتقادم ) , ولو وجدته وقد تزوج به النساء , وفرقّ في البلدان, لرددته الى بيت المال , فإن في العدل سعة , ومن ضاق عليه الحق فالجور عليه أضيق)(شرح نهج البلاغة-ابن أبي الحديد ج1 ص269 ), كما أن الأمام منع أي هدية تُقدم للوالي , لكي لاتكون سبيل للمحاباة , وقد جاء أليه بخبر أن أحد عماله وأسمه ضبيعة بن زهير من بني أسد أنه أخذ هدية , وعندما أنهى مهمته قدم للإمام جراب فيه مال قد قدمه قوماً كهدية له , فقال للإمام إن كان لي هذا حلالاً أكلته , وإن كان غير ذلك أتيتك به فقال له الإمام لو أمسكته لكان غلولاً, فقبضه منه وجعله في بيت المال)(موسوعة الأمام ج4 ص138 , نقلاً عن تاريخ اليعقوبي ج2ص204 )…يتبع
أياد الزهيري